ذات حوار في «الفيسبوك» عرضت مقطعاً شعرياً لتشارلز سيميك، فعقّب المرحوم عابد خزندار على ما أوردته بعبارات مفادها، أنه ترجم له مقاطع قبل عقدين أو ثلاثة عقود. وحينها كتبت له بأنني تعرفت على هذا الشاعر الأمريكي لأول مرة من خلال ترجماته. وهذه حقيقة تتجاوز ما تداولناه في حوار مقتضب إلى وساعات الثقافة وشمولية عالمها، إذ يدين المشهد الثقافي في السعودية له باستجلاب رموز الحداثة، واستدخال مفاهيمها في عمق المشهد. سواء على مستوى الترجمة أو المناقدة أو الكتابة الحداثية ذاتها، فالذي لا يعرف لغة أجنبية، حسب تصوره، لا يعرف لغته. وبالتالي فهو لا يعرف ثقافة الآخر. وهنا مكمن إصراره على حضور محاضرات الكوليج دي فرانس مع امبرتو ايكو وأندريه مايكل وغيرهما. فهو مثقف يفكر باللغة، يتواصل ويختلف بها مع الآخرين.
ولأنه كان يؤسس مشروعه الكتابي بهدوء ورصانة، كمجرى النهر العميق ظل بعيداً عن الضجيج والأضواء، لدرجة أن محمد العلي وصفه – ذات مقالة – بالهرم اللامرئي، بالنظر لكونه مجهولاً عند معظم الشباب، فهو من القلائل في المشهد الثقافي في السعودية الذين يعرفون ماهية الحداثة، حيث عاشها وتلقاها من مصدرها وليس عبر وسيط أو مترجم. والأهم أنه كان يكتب عما بعد الحداثة عندما كان المشهد يحترب حول الحداثة، بالنظر إلى تماسه مع ثقافة الآخر في آخر اشتغالاته، حيث كان يستقرئ أعمال البلاغيين العرب عبر كتاب «الشعر» لأرسطو. ويفكك نظرية التخييل عند القرطاجني من خلال تنظيرات أرسطو حول المحاكاة. تماماً كما استوعب ابن خلدون بعد مقاربة كارل ماركس، وذلك نتيجة إيمانه بتكامل الثقافات، حيث درس كتاب «الحيوان» للجاحظ – مثلاً – في باريس على يد المستشرق المشهور أندريمي كِل، وهكذا.
عابد خزندار لا يضع نفسه في خانة النقاد، ولا يتقبل فكرة وصفه بالمفكر أو الفيلسوف، إنما يموضع نفسه في موقع القارئ المهجوس بالكتابة الثقافية أجل، القارئ الذي بمقدوره أن ينجز قراءة هي عبارة عن نص موازٍ للنص المقروء، وعلى هذا الأساس كتب نثاراً تنويرياً مطولاً، كتنويع نصي على «روح الأنوار» لتودوروف. ومن ذات المنطلق كتب «قراءة في كتاب الحب» وهو عبارة عن كتابة حرة عن حياة عاشها هو بنفسه، تعتمد البينصية. بمعنى الانطلاق من الواقع إلى النص والعكس، أي الارتداد من النص إلى الواقع، وكأنه أميل إلى الكتابة اللامجنّسة التي تعتمد على ممازجة النصوص وتخليطها وفق نظام خاص به، بحيث لا يفقد أي نص هويته ولا يتجاوز خصائص النص الذي يجاوره بقدر ما يتفاعل معه، حتى عموده الاجتماعي الذي تنقل به بين الصحف «عكاظ، الرياض، المدينة» حمل عنوان «نثار» بما تحمله هذه اللافتة من دلالات، حيث تتكثّر فيه التداعيات والاستطرادات والتداخلات النصية.
ذلك هو منهجه في الكتابة، فبكتابته الحرة تلك يحاول الفرار من بؤس الكتابة التقليدية، بمعنى أن فعل الكتابة، بالنسبة له، أهم من الكتابة نفسها، وتلك هي سمة الكتابة ما بعد الحداثية التي ينادي بها، حيث تتهاوى الأسوار القائمة ما بين الأجناس تحت وطأة الأفكار المتدفقة المنبعثة من ذات عارفة.. من عقل كوني، وهو ذات الأسلوب التحرُّري الذي اعتمده في كتاب «رواية ما بعد الحداثة»، حيث تنم طريقته عن خزين معرفي هائل بالمنجز الروائي وآليات كتابته، كما تفصح عن وعي عميق بالتراث الإنساني، يؤكد قدرته على فتح فضاءات النص الذي يكتبه لتفاعلات نصية تتداخل وتتمازج بسلاسة يتولد بموجبها المعنى المراد توطينه، نتيجة استيعابه لمنجز الآخر إبداعاً وتنظيراً.
في كتاب «حديث الحداثة» ينثر أفكاره أيضاً باسترسالات لا انتظام فيها ولا تبويب. لأن منطق الزمن لا يطيق الترتيب بتصوره، ولكن ذلك لا يجعل خطابه عرضة للتسطيح والتلفيق، بل يعكس بحديثه ثقافة واسعة وعريضة ودراية بتاريخ الحداثة ورموزها وتياراتها وخط صعودها وموتها البياني، ليقدم مقترح اعتماد الإبستيم الأنثروبولوجي لمقاربة الشعر الجاهلي. وهو جانب بسيط من ارتداداته العربية، إذ لم يجد من القليل من النماذج القابلة للمجادلة الحداثية، كرواية «مدن الملح» لعبدالرحمن منيف، التي تستجيب للتطبيق النقدي تماماً كما كتب «حديث المجنون» بذات الأسلوب التخليطي للأزمنة، حيث تعبر كتبه عن إشكالات الكتابة الحداثية ونفوره الشخصي من كل ما هو مدرسي.
لهذا السبب بالتحديد ظهر عنده ذلك الميل إلى المنهجية وحسّ التأصيل، كارتدادات مرجعية لازمة، فترجم «المصطلح السردي» وكذلك «معجم مصطلحات السيميوطيقا». وبموجب ذلك الوعي المعجمي التنظيري كتب «التبيان في القرآن دراسة أسلوبية». كتجريب تطبيقي معلوم الأبعاد والمقاصد، فهو أبعد ما يكون عن الإنشائية والحشوية، وأقرب ما يكون إلى الضبط الإصطلاحي، حيث تعتمد كتابته على تشييد المفهوم والانطلاق منه في بسط الفكرة بحرية شخصية لا حد لها إلا الوعي بالمصطلح ذاته، ومدى فاعليته أو صلاحيته للمقاربة.
إنه من جيل لا يفصل الممارسة الثقافية عن رسالتها الاجتماعية، ليس بالمعنى الوعظي، إنما من منطلق الانتماء إلى حركة اجتماعية تاريخية، والإيمان بجدوى الأدب كوسيلة تنويرية. كما بدى ذلك المنحى في روايته «الربع الخالي»، ولهذا السبب بالتحديد نقل من الفرنسية إلى العربية كتاب «أنثوية شهرزاد» اقتناعاً بأهمية وجمالية النص على المستوى الفني. وانتصاراً للمرأة كإنسان وكقضية كانت وما زالت منغرسة بعمق في المشهد الحياتي. واعترافاً بأهميتها في حياته الشخصية، ودورها المحرض على التثقيف، بمعنى أنه يثق بتجربتها وخبرتها ووعيها الخاص بالتنوير.
كاتب سعودي
محمد العباس