مئات الآلاف من القصص تُطبع سنويا للأطفال في الغرب، كثير منها يعاد طبعه بعد تعديلات في النصوص أو في الرسوم، ابتكارات لا تنتهي لتقديم القصة للطفل لتدهشه وتحرك مخيلته. برامج مدرسية مكثفة لتعليم الطفل تقنية الحكي وبناء قصة، أفلام تعرض لهم في المدارس وصالات السينما، ومسارح يقادون إليها بفرح ليحضروا مسرحيات مختلفة، بعضها يقدمه أطفال مثلهم. أشياء ليست بالمستحيلة لنحققها نحن، ولكننا عاجزون عن تقديم أي شيء للطفل، حتى إن كان بسيطا بحجم سرد قصة.
لا يمل الأطفال من سماع القصص الخيالية، أبطالها جنيات وسحرة ومشعوذون وفرسان يحملون سيوفا، وتنانين تطير، وحيوانات تتكلم، وآلات عجيبة تسافر في الزمن، وأعاجيب كثيرة يعرف الأطفال جيدا أنها تنتمي لعالم بعيد عن واقعهم، فقد أثبت علماء النفس والمختصون في قصص الأطفال في «بلاد العجائب» تلك التي لا تشبه بلداننا، أن لكل سحرها الخاص، وأنه بمجرد تلفظنا بافتتاحية قصة من نوع: «كان يا ما كان في سالف العصر والأوان» ينفصل الطفل عن واقعه ويرحل بمخيلته إلى عالم القصة، وهو مدرك تماما أن ما يٌرْوى له خيال، وأنه لن يخلط أبدا بين الواقع والخيال، إن اتبعت خطوات سرد القصة بإيقاعه السليم. كأن تنتهي القصة ويطوى الكتاب ونخبر الطفل أننا عدنا لواقعنا «يجب أن ننام الآن» أو «علينا أن نحلم أحلاما جميلة في انتظار قصة أخرى».
في قصص الأطفال، ينتقل الطفل إلى أرض أبطاله، وهناك يلتقي بالأشرار والطيبين، ويشارك في صراع الخير والشر حتى النهاية، لا مجال لانتصار الشر على الخير، لأن مخترعي القصص منذ الأزل أناس طيبون ربما، وتنتصر في داخلهم نزعة الخير، كما عند الأطفال، فقد قيل في ما بعد حين تطورت الأبحاث في مخابر الجامعات العالمية، إن الإنسان نتاج ما صُقل عليه، وإن كنا ننتمي إلى مجتمعات انتصر فيها الشر لبعض الوقت، فلأن تربية ابنائنا كانت أغلب الوقت تتم بتعنيفهم، وتكميم أفواههم، وتهميشهم، ومواجهتهم بوقائع مفجعة عن واقعنا، لقد حرمنا أجيالا بأكملها حتى من اللجوء إلى مخيلاتها لتنعم ببعض ما حرمت منه هدوءا وطمأنينة.
في 2018 لا يزال في أريافنا المنسية على مدى مساحات شاسعة من العالم العربي ملايين الأطفال يلعبون بكرات يصنعونها من بقايا أكياس البلاستيك، يركضون على الحصى الذي يخترق أحذيتهم المهترئة، ويضحكون، ومن سوء حظهم هناك دوما من يزجرهم ليتوقفوا عن الضحك ولعب الكرة، يمنعون من اللهو لأسباب تنبع من قلوب الكبار المليئة بالانكسارات والانهزامات، يُمنعون من اختراع ألعابهم الخاصة، معتقدين أن ذلك يفسد أخلاقهم، ولا بأس من تأديب بعضهم بالضرب والتهديد! وإن كان اختراع كرة يثير كل هذا الشغب والصخب وقيام القيامة وإعلان حالة الطوارئ فهل سيذهب هذا الطفل بعيدا في اختراعاته؟ هل سيخترع شيئا يناسب عمره في العاشرة، ثم في الخامسة عشرة، ثم في العشرين، ثم في الثلاثين، ثم في الأربعين؟ وهل سيعرف أن يبتكر ما يلزمه من أمور تسهل حياته وتسعده وتخفف عنه أعباء «الحمرنة» التي أوقع فيها غصبا عنه، وحولته إلى بغل ينتظر غيره ليبتكرها له ويقتنيها هو بأثمان باهظة؟
تعطيل المخيلة هو أكثر طريقة ناجعة لتعطيل العقل، وقد شرح طبيب الأعصاب الأمريكي برونو بيتلهيم في كتابه «التحليل النفسي لأساطير الجنيات» أن هذه الحكايات تحمل في ثناياها كل وسائل الإنارة اللازمة، لجعل حياة الطفل مضيئة، فهي لا تسليه فقط، بل تعزز من بناء شخصيته، وتزرع في نفسه الصغيرة صفات جيدة يتصف بها البطل، حتى أنه من شدة تأثره بتلك الصفات النبيلة، يحلم أن يكون بطلا، فيقلد أبطال قصصه المفضلة في تمثيليات مع أترابه.
في عالمنا الضيق يبقى لاعب كرة القدم هو بطلنا المفضل، هو الذي ينتقم لكل هزائمنا، هو الذي يفرحنا حين ينتصر ويبكينا حين ينهزم…هو الذي يجعلنا ننشد أناشيدنا الوطنية ونحمل أعلام أوطاننا بفخر، ولهذا أجيال بكاملها تأثرت بالكابتن ماجد، وصنعت الكرات التي تمزق الهواء وتدور في السماء قبل أن تراوغ الحارس وتستقر في الشباك، لكن حتى الكابتن ماجد ألغي من برامجنا، وحلت محله رسوم متحركة مقرفة وقصص لا تفهم عبر «الكرتون نتوورك» وغيرها من الفضائيات الخاصة بالأطفال التي توجه تحديدا لنا.
واقع أطفالنا اليوم مطوّق بنشرات أخبار دامية، بصور أطفال دمرهم القصف، وقتلهم البرد والصقيع وهم يهربون من أوطانهم، وأعتقد جازمة أنه يستحيل أن تتجاوز نسبة الأطفال السعداء في البلدان العربية الواحد في المئة موزعين في العواصم التي تشهد بعض الرّخاء، ومع هذا حتى هذه العواصم بكل أبهتها، لا نجد فضاءات مخصصة للحكايات التي تسرد للأطفال، إذ يعتبر جمهورنا الواسع اليوم بأغلب مثقفيه ومتنوريه وسياسييه وأمييه وجهلته سواء، أن مهنة «الحكواتي» مهنة حقيرة، وأن سرد القصص للأطفال طريقة لتلويث عقولهم.
وحتى العارفون بالأمر جيدا من أطباء وسيكولوجيين ومختصين في التربية يمارسون مهنهم كما يمارس «موظفو الدولة» وظائفهم في مكاتبهم، ولا يختلفون عن تلك الماكنات الآدمية التي تعمل مثل الآلات، غالبا تفعل ذلك حفاظا على باب رزقها، مفرغة تماما من أي مشاعر إنسانية. وما نراه فيهم هو نتاج تلك التربية القاسية، التي قتلت الجانب الإنساني فيهم، وقزّمت كل طموح نما من بذرة حلم قديم. فات هؤلاء جميعا أن يكونوا أبطالا لحكاياتهم، وقد فاتهم أن يكبروا كما يجب، فالسر في الحكاية أنها تجعل الطفل يكبر ليصبح رجل الغد، وهذه حكمة قالها عباقرة الأدب منذ شكسبير إلى يومنا هذا، منذ عرفوا مفتاح أبواب الخير والشر، وأي الأبواب يجب فتحها وأيها يجب إغلاقها. غذاء الطفل الأول هو الكلمة، وإن لم نكن حريصين في انتقاء تلك الكلمات التأسيسية لمكونات عقله، فإن العواقب تكون وخيمة.
خلق التواصل بين الطفل وأبويه، وبينه وبين أساتذته، وبين محيطه من كائنات بشرية ونباتية وحيوانية هو الحجر الأساس لطفل سوي، وفرد مستقبلي سوي يُعوَّل عليه لخوض غمار الحياة. قصة الطفل رغم بساطتها تحوي كل عناصر الحياة، الكلمات، والأشياء والعواطف، الأخطار والشرور، الغضب والحكمة، الأنانية والقبح النفسي وجمال الروح. في قصة الطفل عالمنا الكامل الذي لا نراه جيدا ظنا منا أن عالم الكبار مختلف، في ما لا شيء يختلف غير أحجامنا، فأحيانا حين يفوتنا قطار التعلم نجد أنفسنا نتعلم من أولادنا، إذ ثمة خيارات دقيقة يقوم بها الأطفال على فطرتهم، وهي خيارات رصينة تنتصر للخير دائما، ولا شيء يجعلهم يغيرون آراءهم تلك إلا الخوف، وهو مهنة الكبار بدون هوادة للأسف.
٭ شاعرة وإعلامية من البحرين
بروين حبيب
تشخيص موضوعي وواقعي لواقع الطفل العربي الذي يحتاج إلى آليات مختلفة في بنا شخصيته التي صابها شي من العطب بسبب الأحداث الدامية التي مرت وتمر بالكثير من البلدان العربية ولعل التصدي لتلك المهمة يقتضي إيجاد برامج وفرق عمل متخصصة تعمل مع جهاز التربية . ولاشك أن التقصير في جانب بنا مخيلة الطفل في عالمنا أنتج الكثير من الحالات السلبية وأبرزها مؤشر الابتكارات العالمي يشير إلى أن العرب أقل الناس ابتكارا في مختلف المجالات وذلك لتغييب عامل المخيلة لدى الطفل وفرض قوالب تقليدية من التفكير وغياب المنهجية الصحيحة لتنمية قدراته الفكرية والذهنية وأكثر ما يؤلم هو نشهد العنف والعسكرة الذي بات السمة الأبرز في بلدنا العراق المدجج بالمليشيات وبلدان أخرى كسوريا وليبيا واليمن . لقد لمست هنا في أمريكا كل تلك الآليات التي تحدثت عنها د . بروين في طرق التعامل مع الطفل وإطلاق العنان لمخيلته منذ فترة رياض الأطفال حتى التعليم الجامعي وأحسب أن نهج التفكير لدينا في العالم العربي هو علة العلل يا سيدتي د. بروين
مع يقيننا التأم ،، بوجود جانب الخير والشر داخل الإنسان،،، إلا ان معظم القصص القصيرة منها والطويلة والمعاص منها القوة الخارقة الاستثنائية . . تركز دائما في مضمونها على جانب الخير وتنكر تماما وجود الجانب الاخر ونبذه وإظهاره بأنه صفة قبيحة وغالبا تكون هي الخاسر الأوحد !
بينما في الواقع المعاش نجد عكس ذلك !
شخصيات كثيره نراها حسب ما نرى وفهمنا انهم من الأشرار اختارو لانفسهم جانب الشر بحكم انهم بشر مثلا” ولهم حق الأختيار ولهم أسبابهم ومبرراتهم الشخصية حتى أصبحوا حسبما نراهم او نقرأ عنهم في القصص والروايات كافة. والحكايات التراثية! .. المسألة (( ياشفاء ياشقاء ايهما تختار )) !!
تحية استاذة بروين
ان عملية فك الحصار المفروض على العقل العربي حتما ستبدء بالاشتغال المركز و المكثف و النوعي على الاحيال الصاعدة …ولكن عندي سؤال :
، «وتنتصر في داخلهم نزعة الخير، كما عند الأطفال، فقد قيل في ما بعد حين تطورت الأبحاث في مخابر الجامعات العالمية، إن الإنسان نتاج ما صُقل عليه،»
اليس مايقع في ليييا و العراق و اختلاق الازمات بين ايران و الدول المجاورة لتفتيت المنطقة و كارثة اليمن و فلسطين و صراع السعودية وشنق رئيس دولة وقتل اخر بطريقة همجية واعتققال اخر و صمت وتواطؤ مع نضام السيسي والقائمة تطول اليس كل هذا من نتاج الانسان الغربي الذي كانت مدارسه واساتذته و علماؤه يستغلون على العقل صحيح والتوازن النفسي وانتصار الخير على الشر
اذن لماذا يصنعون كل هذا الدمار ان كانت مناهجهم في التربية والتعليم اشتغلت على الجانب الانساني
اجيال الستينيات و السبعينات هم الان السياسيون والاقتصاديون والاعلاميون واصحاب المؤسسات
انهم يكيلون بمكيالين يعطون لشعوبهم جرعة من الانسانية ليجعلوهم مطيعين مستهلكين جيدين صامتون
كان لنا وطناً عربياً جميلاً اسمة الوطن العربي ،ياعزيزتي شاهدي قناة ماسبيريو زمان المصرية والبرامج المخصصة للاطفال تشعرين بفرق شاسع بين اليوم والامس ،اين شكوكو والفنانة ماجدة ،ولبلبة والكثير من الذين قدموا برامج مخصصة للطفل ،حتي كرة القدم عندما تشاهدي مباراة في الكرة تشعرين بأنهم اصحاب مسؤلية واخلاص ،اللة يرحم ايام زمان وناس زمان….
إنّ أدب الأطفال العرب مشكلة بل من تحديّات الأمن القوميّ العربيّ على الأجيال.لقد كان هناك أدب طفل عربيّ…ففي عقدي : الخمسينات والستينات كان أدب الأطفال في مصرمزدهرًا ؛ وفي عقدي : السبعينات والثمانينات كان أدب الأطفال في العراق وسورية مزدهرًا والآن في بعض دول الخليج ولبنان ثمة محاولات لدعم أدب الأطفال : ( فرديًا ) واعتباريًا.أما في العالم المعاصرفجاءت الصين في المقدمة.
ففي عام 2016؛ نشرت الصين 780 مليون نسخة من كتب الأطفال ؛ بزيادة نسبتها نحو 29 في المئة مقارنة بالعام السابق.ويحتل حجم مبيعات كتب الأطفال نحو 23 في المئة من الحجم الكليّ لسوق بيع الكتب بالتجزئة في الصين ؛ بفضل العدد الضخم للأطفال الصينيين البالغ 367 مليون طفل ( دون سن 18 سنة ) وهي أكبر سوق لكتب الأطفال في العالم أجمع وسيواصل اتساعه في الأعوام العشرة التالية بواقع أكثر من 10 في المئة سنويًا.وعندنا اليوم جماعات تستحوذ على النشرللأطفال وتمنع الجديد بحجج مفتعلة.نعم عالم الطفل النواة لبناء الإنسان الأصيل الجديد ؛ وقد خصص القرآن سورة لقمان للحواربين جيلين هما : ( الأب لقمان وابنه ).دلالة لأهمية التواصل بين الأجيال.
ولو لاحظنا ترتيب سورة لقمان هي بين سورتي : الروم والسجدة.والروم لا تحتاج لبيان والسجدة معنية باليهود.والغداة نرى توجهات ( الروم والسجدة معًا ) نحو أطفالنا في وسائل التواصل المرئية والمقروءة والمسموعة والرقمية وأخواتها ؛ بما لا يخفى على الفطـن وظلّه المكشوف.