عالم عربي بلا عنوان

حجم الخط
7

العالم العربي مشغول بصراعات الخليج وخفايا مؤامرات القصور، والهرولة إلى الاحتماء بأمريكا وغيرها من الدول سواء أكانت إقليمية او ذات نفوذ إقليمي، وكأن العالم العربي لم تعد له قضية سوى لعبة الكاز والغاز التي تخفي صراعا على السلطة والنفوذ من جهة، وتغييبا كاملا للمآسي التي تجتاح المشرق العربي، من جهة ثانية.
في مؤتمر الرياض الامريكي العربي الاسلامي، غابت فلسطين بشكل كامل. وحين تغيب فلسطين تحضر إسرائيل، فإسرائيل هي التجسيد الفعلي لتغييب فلسطين.
أستطيع أن أتفهم ضيق الكثير من العرب بفلسطين في ظل المآسي المرعبة التي يعيشها العالم العربي، من سوريا إلى اليمن مرورا بالعراق. لكنني لا أستطيع أن أفهم كيف صارت قضيتنا الكبرى هي دعم الاقتصاد الأمريكي بمئات مليارات الدولارات، بينما يموت أطفال اليمن بالكوليرا، وتصير سوريا أرضا للخراب.
إذا سألنا أين فلسطين في هذه المعادلات الجديدة التي تُرسم يقولون إننا أصحاب فكر قديم، وإن الموضوع الفعلي تخطى فلسطين.
أريد أن اوافق مع هذا الرأي على مضض، لكنني اكتشف ان تغييب فلسطين لا يقوم بتظهير القضايا الأخرى، بل يحجبها هي أيضا، ولا يبقى هناك سوى قضية واحدة اسمها صراع السلالات على السلطة، والهوس بالخطر الإيراني.
لا شك أن صراعات الخليج جدية جدا بمعنى ان الصراعات على السلطة بين السلالات الحاكمة ليست مسرحيات كاذبة، لكن سؤالي ما هو الموضوع؟
أعود إلى تغييب فلسطين، ليس لأسباب آيديولوجية او بسبب الحنين الى لغة زمن قديم بل لكي أسال عن معنى التخلي المصري عن تيران وصنافير، وكيف يقفز السيد محمد دحلان إلى المشهد الفلسطيني كرفيق جديد لحركة حماس بالتزامن مع قرار بلدية جنين إزالة نصب الشهيد خالد نزال، وقيام السلطة ببداية مسار قطع مخصصات أسر الشهداء والأسرى بصفتهم إرهابيين! وأريد أن اسأل أيضا عن دلالات الموقف الفرنسي الجديد من السفّاح السوري، وعلاقته بالصراع على سوريا والمنطقة.
هل يخفي تغييب فلسطين تغييبا لشعوب المنطقة واخراجا لها من السياسة، في زمن تحول المشرق إلى مجرد ساحة لصراعات القوى الاقليمية والدولية؟ ففلسطين هي العنوان العربي الأخير، بعدما أعلن فشل الانتفاضات العربية وغرقها في الخراب والدم، أن عرب المشرق ما عادوا يمتلكون عنوانا، وأن عليهم الرضوخ لواقع أن موتهم صار بلا معنى؟
على عكس الخطاب الذي بدأ يسود، فأنا أعتقد أن الانهيار العربي الشامل لم يكن بسبب الانتفاضات العربية التي خلخلت الواقع السياسي، بل بسبب فشل هذه الانتفاضات. أي أن الكارثة بدأت عندما لم تستطع الحركة الشعبية التي اجتاحت ميادين المدن العربية وساحاتها بلورة أفق عربي جديد، كأن الثورات العربية كانت المحاولة الجدية الأولى للخروج من نفق الاستبداد.
في هذا الفشل الذي يحتاج إلى قراءة مستفيضة تكمن المأساة، فمع الفشل ضاع العنوان العربي، وصارت بلاد العرب مجرد ملعب للقوى الخارجية.
قلت لم يبق سوى العنوان الفلسطيني، وهذا ليس دقيقا، هذا عنوان مبدئي، لكن صراعات السلطة والغرق في أوهام السلام أضاعت هذا العنوان أيضا، ما يسمح اليوم للزعماء الفلسطينيين بالتصرف بلا ضوابط سياسية وأخلاقية، مغيبا قضية مقاومة الاحتلال والدفاع عن البقاء، ومعلنا نهاية القرار الوطني الفلسطيني المستقل، الذي كان الأساس الذي سمح للحركة الوطنية الفلسطينية باعادة بناء نفسها. في هذا المناخ يصبح الكلام في السياسة المباشرة، أي سياسة صراعات اللاعبين الكبار نافلا.
لا أدري كيف لا يزال البعض يجد متسعا للكلام السياسي في زمن موت السياسة. صحيح ان السياسة لا تموت، لكنها تتخذ أشكالا مختلفة، تخرج لاعبين من حلبتها كي تدخل في مكانهم لاعبين جددا. لكن المفارقة تكمن حين تجد الأغلبية الساحقة من المواطنين والمثقفين نفسها خارج الملعب، لأنها لم تعد طرفا في الصراع بل صارت أرضا له. عندها تموت السياسة ويصير الكلام السياسي في حاجة ماسة إلى استنباط أطر جديدة وملاعب جديدة، تسمح له بالتجدد، وتعيد رسم ملامحه.
بهذا المعنى فان السياسة العربية، أو لنقل السياسات العربية ماتت، ولم يعد هناك سوى دسائس القصور ومؤامراتها من جهة، وأصوات التابعين للقوى الاقليمية والدولية من جهة ثانية.
المسألة التي تغيب عن بالنا في غمرة انشغالنا باليومي، هي ان هناك مرحلة انتهت وتحولت إلى شظايا. فالزمن العربي الذي بدأ بهزيمة الخامس من حزيران/يونيو وترسخ بعد حرب تشرين في حقبة الهيمنة النفطية وبروز المستبدين الصغار الذين حاولوا ان يرثوا ناصر، والتي شهدت بدايات الحروب الأهلية وصعود المقاومة الفلسطينية بصفتها التعبير الأخير عن إرادة البقاء وحمل شعلة الصمود العربي في مواجهة الاستبداد بمحتلف اشكاله، هذا الزمن يطوي صفحته الأخيرة.
المرحلة انتهت بكل ما فيها، بسلطاتها ومعارضاتها، ولا نشهد اليوم سوى جرجرة احتضارها على أرض التاريخ، وما الضجيج الذي نسمعه سوى صوت حشرجة هذا الاحتضار الطويل والمؤلم.
في نهاية المراحل يصير الكلام في السياسة المباشرة بلا معنى، فالمطلوب إعادة صوغ المعاني، والتأسيس لأفق جديد، انطلاقا من الهوامش المتبقية، بهدف ولادة مبنى ثقافي جذري نابع من تجربة الألم والضياع، وهذه هي مهمة الأدب والثقافة اليوم.
ما يبدو خروجا من الكلام السياسي المباشر هو الشرط الضروري لولادة مبنى سياسي جديد، وهذا ما تعلمناه من باسل الأعرج، حين واجه موته وحيدا من أجل تذكيرنا بأننا نستطيع ان نستعيد لغتنا شرط أن نكون مستعدين لدفع الثمن.

عالم عربي بلا عنوان

الياس خوري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول نجم الدراجي-العراق:

    حين تتطابق المصالح لا يهم ان تتقاطع العقائد وكل ما يجري اليوم هو مصالح مع اختلاف عقائد اصحاب المصالح والمشاريع فيما بينهم وهذا ما نلمسه في الازمه الخليجية خصوصاً ، اما نتائج الصراعات والكوارث فليست سوى احداث عابرة تنتهي مع ولادة حدث جديد هذا ما نلاحظه في الشرق ، نحن في زمن اللؤم السياسي وأحياناً اسمي الحال بالتعري السياسي الذي لا يستره مبادئ لكون السياسه مبنيه على المتغيرات والمبادئ لسيت سوى تعابير وجدت نفسها في الانظمة الداخلية لرواد العهر السياسي العربي ، الاشجار لاتلوم نفسها حين تتعرى في الشتاء لانها على موعد مع ربيع يزينها ويجملها لكن الانظمة العربية اختارت لنفسها موسماً من العواصف والارتدادات والزيف والانجذاب نحو الاقطاب.
    الامل في التغيير والنجاح ينبع من الذات نحو الحب والسلام والمصداقية في التعامل والخلاص يبدا من الداخل .
    تحياتي
    نجم الدراجي. بغداد

  2. يقول سوري:

    استاذ الياس
    تحليلك صائب، وشعورك صادق، لم يتبق لعالم عربي ركب مركبا يجره إلى جهنم سوى الثقافة في ظل روائح الكاز والغاز ومؤامرات القصور والخيانات والركوع للعدو كي نعيد بناء السياسة من الصفر الذي اوصولونا إليه ولهذا صرخت انا في كتابات سابقة: يا أدباء العالم اتحدوا

  3. يقول سيف كرار ،السودان:

    كل عام وانتم بخير ..ياعزيزي المسألة الفلسطينية بنودها معقدة ولاوجود حل لها في المدي القريب ،لذا الوقوف مع الشعب الفلسطيني في النواحي الانسانية افضل حل ،سبحانك اللهم…

  4. يقول سنتيك اليونان:

    ما في أمل يا اخ الياس. القبائل العربية تعيش خارج التاريخ
    The strong do what they can and the weak suffer what they must (Thucydides )
    الأقوياء يفعلون ما يستطيعون والضعفاء يعانون كما يجب (ثوسيديدس )

  5. يقول Ossama Kulliah أسامة كليَّة سوريا/المانيا:

    صباح الخير أخي الياس وكل عام والجميع بخير. للأسف ربما نعيش واحدة أسوأ الفترات في تاريخنا. ويصعب على المرء أن يجد الكلمات المناسبة لوصفها, هكذا أرادتها قوى الاستبداد والتسلط مدعومة بالاحتلال الإسرائيلي والاحتلال من الشرق والغرب. يحتار العقل ليس فقط لشدة المأساة بل أيضاً لانعدام طرق الخروج من هذه المحنة الصعبة, بالتأكيد لن نفقد الأمل أبداً. وأخيراً برأيي ليس فقط خسارة حزيران بل أيضاً تدمير لبنان على يد النظام السوري كان الخطوة الأولى لتدمير الشرق ومن ثم تدمير العراق سواء جنون صدام حسين وغروره العسكري واستبداده تسلطه أو التعاون الأمريكي العربي لتدميره في حرب الخليج الأولى والثانية ومن ثم التسلط والاحتلال الإيراني للعراق الذي سمح بتدمير سوريا على يد بشار الاسد حليف إيران الأساسي بالإضافة طبعاً لروسيا وبوتين. أما اليوم فقد أصبح الخليج والشام والعراق واليمن والنيل والمغرب مناطق نفوذ لهذا الوحش أو ذاك. توحش العالم من أجل تمزيق صدر الشرق الذي بدأت منه الحضارة الإنسانية, هذا الأخير هو عزائنا الوحيد أن الشرق لن يموت مهما اشتدت المأساة ولنا الله ومالنا غيرك ياالله.

  6. يقول Saleh Oweini - Sweden:

    Shukran ustad Elias
    saleh oweini
    stockholm

  7. يقول محسن عون/تونس:

    شكرا أستاذ الياس و سلمت فكرا و ضميرا.
    و لكن أيّ حرب خضنا حتى ننكب ! فالأمر و الجيش و الثّروات و الوطن للقائد – ملكا رئيسا أميرا كان أو سلطانا- وحده الواحد. فالنكبة هم و نحن العطب. و “لا يصحّ في الإفهام شرح” و نحن نعيش النكبات و نرى و نشاهد كل يوم و نحصد .

إشترك في قائمتنا البريدية