في 24 كانون الأول/ديسمبر 1964، مات بدر شاكر السيّاب عن سبعة وثلاثين عاماً. مات صاحب «أنشودة المطر»، التي شكلت مفترق التحوّل في الشعر العربي، حين نُشرت عام 1954، في مجلة «الآداب». وبدل أن يكون هذا العام الذي يغادرنا هو عام الذكرى الخمسين لغياب كبير الشعراء المحدثين العرب، تحوّل إلى عام الأسى الداعشي/الاستبدادي. وبدل أن نعيد قراءة العراق من خلال شعرائه الذين افتتحوا الحداثة، يقوم الاستبداد ونقيضه/ وجهه الآخر الداعشي بمحاولة وحشية لمحو الثقافة وتدمير المجتمعات.
تعالوا نقرأ حياتنا من خلال مياه بويب، ذلك النهر الصغير الذي جعله السياب مرآة روحه، ونذهب إلى القصيدة التي رسمت بدايات التحوّل، كي نستعيد ذواتنا من هذه اللحظة الهمجية التي تحطّم مرايانا، وتحجّب عقولنا. تعالوا معي إلى جيكور وأبي الخصيب والبصرة وبغداد كما رسمها الشاعر النحيل الذي مات على فراش الألم، كأن جسده المعطوب كان العلامة الأولى لهذا العطب الذي سيصيبنا بعد موته بنصف قرن.
لا أريد أن أقارن بين جسد الشاعر النحيل بالشعر الذي كان يسيل منه وعجز قدميه وحيرته أمام الموت، بهذا القحط اللغوي الذي بدأ مع الاستبداد العسكري، ثم انتشر كالطاعون في حياتنا، محوّلا بلاد الرافدين والشام إلى أرض خراب.
نذهب إلى السياب ليس كحنين إلى الماضي، فالشعر ليس ماضيا، إنه حاضر يتجدد في عيوننا ويعيد رسم مشاعرنا.
نذهب إلى السيّاب كي نعيد اكتشاف أنفسنا، ونمنع هذا الزمن المنقلب من أن يفترس وعينا ويبيد ذاكرتنا، فذاكرتنا الثقافية ليست ملك «فقهاء الظلام»، يعبثون بها، بل هي جزء من البحث عن المعاني، حيث يقف الانسان في مواجهة وحش التاريخ ويروّضه.
ما يقوم به الشعر والأدب والفن هو ترويض الوحش عبر الصراع غير المتكافئ معه، قد تُهزم الثقافة بسبب عجزنا عن حمل أعبائها، لكن هزيمتها ليست سوى مؤقتة وظرفية، لأنها في النهاية، هي التي تحمي اللغة والشفافية الإنسانية والبعد الروحي للحياة من الاندثار.
إنه عام السيّاب.
يجب أن لا ينسينا الألم كيف صنع الشاعر لنا «أنشودة المطر»، وكيف حوّل غربتنا إلى نشيد في «غريب على الخليج»، وكيف صرخ مع أيوب، واحتمى بكلمات قصيدة «شناشيل ابنة الجلبي».
كانت مهمة السيّاب وأقرانه من شعراء الحداثة بالغة الصعوبة، فهم يعيشون في ظلال شعر تعملق بالإبداع وطرب المعنى: الجواهري، سعيد عقل، الأخطل الصغير، بدوي الجبل… شعراء أعادوا صوغ الشعر كي يكون للشعر أميره مع أحمد شوقي، الذي لن يجد خليفة له رغم الصراع بين أمين نخلة والأخطل الصغير.
وفجأة تفتحت براعم شعرية جديدة ومختلفة، وتحولت من نثار إلى متن شعري، وبدا الشعر الحديث أو شعر التفعيلة متلعثما بين حروف العطف البياتية ورومانسية نازك الملائكة إلى أن كتب السياب «أنشودة المطر»، فصنع للشعر ايقاعه الخارج من معطف عروض الخليل، محولا العروض إلى جزء من الإيقاع الداخلي، وكان ذلك تمهيدا ضروريا لتفتح الأشكال وصولاً إلى قصيدة النثر.
الشاعر العراقي النحيل الذي تنقل بين الشيوعية والقومية والليبرالية، كان يبحث عن ذاته وسط ركام المعاني، جاء إلى بيروت فاتحا، يحيط به شعراء مجلة «شعر» منذهلين أمام سيل الشعر الذي ينهمر منه، يمشي كالتائه، يتعثر، يتهدى بأقرانه، ينتشي بشرب العرق الزحلاوي، ويبكي حبه الضائع.
وعندما اكتشف الأسطورة كوعاء للصورة الشعرية، صنع أسطورته الخاصة وجعل من عيني محبوبته «غابتا نخيل»، ومزجهما بعيني عشتار، ثم حول الدموع إلى مطر من الفقدان وهو يتقمص صوت الطفل الذي يبكي أمه، التي صارت عيناها «شرفتان راح ينأى عنهما القمر».
«غلام نحيل كأنه قصبة، رُكّب رأسه المستدير كأنه حبة الحنظل على عنق دقيقة تميل إلى الطول»، هكذا وصفه إحسان عباس، وهو يقدّم صورة تفصيلية عن شكل الشاعر. هذا الغلام النحيل سوف ينجح في تحويل الشعر الحديث إلى أناشيد، ويجعل المقامات الموسيقية للعروض تتداخل كي تبني موسيقى جديدة للروح.
في هذه الموسيقى رسم السياب صورة «المسيح بعد الصلب»، وأخذنا إلى «المغرب العربي» وبنى أسطورتين شعريتين كبريين: الغريب والمطر، وهما أسطورتان تتكاملان لترسما وجه العراق المغطى بالأسى. وطن يبحث عن نفسه في غربة أبنائه وفي مواجهة القهر والجوع. «جلس الغريب يُسرّح البصر المحيّر في الخليجْ/ ويهدّ أعمدة الضياء بما تصعّد من نشيج/ أعلى من العبّاب يهدر رغوه ومن الضجيج/ صوت تفجّر في قرارة نفسي الثكلى عراقْ/ كالموت يصعد كالسحابة كالدموع إلى العيون إلى العيون/ الريح تصرخ بي عراق/ والموج يعول بي عراق ليس سوى عراق/ البحر أوسع ما يكون وأنت أبعد ما يكون/ والبحر دونك يا عراق».
صرخة العراق هذه سوف تتصادى مع الحداء الذي يصنعه الشاعر للمطر. هنا يكتمل الإيقاع الجديد باكتمال المأساة، وهنا نعلم أنه «ما مرّ عام والعراق ليس فيه جوع»، وهنا يأتي المطر كي يغسل الحزن بدموع الطفل، وتستعيد الأرض توهجها في عيون الحبيبة – الأم.
«في كل قطرة من المطر/ حمراءُ أو صفراء من أجنَّة الزَّهَرْ / وكلّ دمعةٍ من الجياع والعراة/ وكل قطرة تراق من دم العبيدْ/ فهي ابتسام في انتظار مبسم جديد/ أو حُلمةٌ توررّدت على فم الوليدْ/ في عالم الغد الفتي واهب الحياة/ مطر…/ مطر…/ مطر…/ سيُعشب العراق بالمطر».
هل كان سيدور في بال السيّاب يوماً أن قصائده سوف تشكّل عزاء لأبناء جيلنا وأبنائهم، كي ينظروا إلى الحياة من خلال الحزن والأسى نظرة حب وأمل؟ هل كان هذا الشاعر، الذي مات على سرير الألم مستعيرا صورة أيوب، يتخيّل أننا نلتجئ اليوم إلى كلماته نقاوم بها الألم واليأس وغبار الأزمنة الحالكة، معلنين أننا نملك ما نستطيع به قهر العتمة، متطلعين وسط هذا الشجن المأسوي إلى أفق نخرج فيه إلى ضوء الكلمات، التي لن يستطيع الوحش السلفي مثلما لم يستطع الوحش الاستبدادي وأدها.
اليوم وفي ذكرى موته، نعلن ان عام 2014 كان عام السياب.
تحية إلى ذكرى هذا الشاعر العراقي الذي صنع لنا ذاكرة لا تمحى وحياة لا يقوى عليها الموت.
تحية إلى بدر شاكر السياب في ذكراه الخمسين.
أستاذ الياس خوري، لم أتمكن من التعليق على هذا الوصف سوى ان اقول عراقيٌ انا خارج العراق منذ عقود طويلة قرأت مقالتك حتى أدمعت عينايَ وقرأتها ثانية حتى نال البكاء مني، شكراً أستاذ خوري.
أحييتَ فينا من لا يموت و لكن أنساناه موتُنا. و بأيّ نثر ! و بأيّ سحر! فألف شكر سلام
تحية إلى الشاعر الكبير بدر شاكر السياب في ذكراه الخمسين. وتحية لك استاذ الياس خوري .. تحية :(أفق نخرج فيه إلى ضوء الكلمات، التي لن يستطيع الوحش السلفي مثلما لم يستطع الوحش الاستبدادي وأدها).
Shukran ustad Elias
You are an Eye opener for many
Saleh Oweini
Stockholm
رحم الله شاعرنا الكبير بدر شاكر السياب والله تعجز الكلمات يااخي الياس عن وصف هذا الواقع وكم نشكرك على هذة الكلمات التي تبعث فينا الامل رغم الالم والماْساة التي نعجز عن تصديقها حقا
نحن، يا صديقي، بحاجة الى اعادة قراءة السياب لكي نعرف أين ينبغي أن نقف من: الشعر، والحداثة.. والأهم من الوطن الذي يتم اليوم الاعلان عن مؤامرة تحيط به وتطوّقه لتمزقه.. فنصرخ مع شاعرنا ـ الرمز الكبير: “عراق.. عراق.. ليس سوى عراق…” ونردد كلماته الخالدة: “إنّي لأعجَبُ كيفَ يمكنُ أن يخونَ الخائنونْ/ أيخونُ انسانٌ بلادهْ؟/ إنْ خانَ معنى أن يكون، فكيف يمكنُ أن يكونْ؟!”