شرط الكتابة المسؤولة النابعة من انهمام واهتمام بالقضايا الإنسانية الكبرى، شرطها: قوتها وعنفوانها، وجَرَاءَتُها في قول ما تراه قمينا بدورها، وحقيقا بوظيفتها في أعمق مقولاتها، ومستويات رصد تحولات، وتبدلات الواقع والإنسان، وسمة الكتابة المنخرطة والمنضوية في معمعة ومعترك الشاهد والغائب، الواضح والخفي، المنطوق به، والمسكوت عنه، المفكر فيه، واللامفكر فيه. سِمَتُها: القلق العاتي، القلق الذاتي، القلق الشخصي، والقلق الأنطولوجي.
وفي ما دبجته أقلام راسخة لكتاب ومفكرين، ومثقفين، ومبدعين، مرايا عاكسة لكل ذلك، مرايا صافية وشفافة لا محدبة، ولا مقعرة، ولا مغبشة. ولئن عَنَّ لنا ـ في أحايين ـ غموض، واستعصاء، وطلسمية في ما نقرأ، فما ذلك إلا لأن القضايا الإنسانية الكبرى، والقيم والمثل العليا التي يتناولها، ويتغياها الفكر والأدب والفلسفة، تحتاج إلى جهد جهيد في بسطها وعرضها، وتقديمها، واختراق أنساقها بهدف تليين مكونات، ومدامك، وخلفيات تلك الأنساق. فالجهد المبذول في ما نكتب، وما نقدم، وما ندافع عنه من فكر وحداثة وقيم إنسانية كبرى جديدة، وتطلعات بديلة، وما نطرح ـ في صدده ـ من نقود وأسئلة، تتطلب تقدير الفكر، واعتبار القضايا الوجودية، والوجود في ذاته، والموجود الذي يحتاز الفضاء، والزمن، والعمق، والأبعاد.
لهذا السبب وغيره، يجد المتلقون/ القراء، عادة، نَصَبًا وعَنتَاً وهم يفتحون كتاب الفلسفة، وكتاب الفكر والثقافة، وهما ينكتبان بأقلام أساطينها: هيدغر، دولوز، فوكو، سارتر، بلانشو، دريدا، إدوارد سعيد، ألبرت حوراني، سمير أمين، أنور عبد الملك، عبد الله العروي، محمد عابد الجابري، علي أومليل، عبد الكبير الخطيبي، فتحي المسكيني، طيب تيزيني، محمد سبيلا، عبد السلام بن عبد العالي، وغيرهم كثير.
لأن عذاب هؤلاء وغيرهم، وتوقهم إلى غد جديد، وإنسان آخر مغاير، حرّ ومسؤول، يلزمهم التحديق العميق، والتأمل البعيد، والنظر المستقصي، في جراح الآن والراهن الآسن، والحاضر المتحجر، والتخلف المسيطر، وفي جثة الماضي التي ما فتئ «طيور الظلام»، يتناقلونها من منقار إلى منقار على رغم انتشار عفونتها. كما يفرض عليهم موقفهم المبدئي، واختيارهم التحديثي المسؤول، حث «الجموع» على الخروج من غرفة العفونة الرطبة، والرائحة الزنخة، إلى نور الشمس الصحي الدافئ، وإلى الهواء الطلق المنعش… إلى الحياة في كلمة واحدة.
ولعل عبد الكبير الخطيبي (1938 ـ 2009) أن يكون واحدا من هؤلاء الكبار الذين حدقوا ويحدقون في الشمس بإصرار من دون أن يرمشوا، والذين أدركتهم الحرقة الوجودية بما لا يقاس، فتسربت إلى كتاباتهم، ومَهَرَتْها بالقلق الوجودي الفادح، قلق المحاربة، والحضور الدائم على واجهتين، وضمن جبهتين: جبهة التراث، والمخلفات العربية ـ الإسلامية الغارقة في الميتافيزيقيا بما هي كلية، ووحدة وإيجاد، وطمأنينة كسلى، وخمول متثائب، وتطابق كلي أعمى، وتوهم وإيهام بالحياة. وجبهة الغرب العقلاني لجهة انغلاق العقل الغربي على نفسه، وانكفائه على ذاته، وتكوكبه على مركزيته وأناه، مقصيا ومبعدا ما عداه، أي كل ما لا يدخل في فضائه ولا ينتمي إلى واقعه وأفقه، وكل ما هو خارج الثقافة الهند ـ أوروبية، والثقافة اليهودية ـ المسيحية، وهو ما يصير إلى ميتافيزيقيا أخرى مفارقة لميتافيزيقيا الإسلام، ولكنها ميتافيزيقيا مكملة، مغايرة غير أنها ميتافيزيقيا بالمفهوم والنتوج، والمصطلح العام.
فالإيمان اللامحدود بالفردية، والحرية المطلقة، و»السوبرمانية» بالمعنى النيتشوي، أو بالمعنى النازي، هو وجه آخر من وجوه الميتافيزيقيا. وفي هذا التوجه، ما يجعل عبد الكبير الخطيبي مفارقا للمفكر عبد الله العروي، وضديده من حيث إن تاريخية العروي «الحداثية»، والتي هي أفق لا محيد عنه إذا أراد العرب المسلمون الخروج من ربقة التخلف، ميتافيزيقيا أيضا في نظر السوسيولوجي ـ الروائي والشاعر الخطيبي. وليس سرا أن نكشف عن مصادر الخطيبي الغربية في أغلبها الأعم، وأن في التصور العام الموجه لفكر، ورؤيته ومجالاته وطروحاته، ومواقفه المتجذرة، يكمن الفكر الغربي والفلسفي ملتمعا وامضًا. وهل بمكنتنا أن ننفي التأثر المعرفي الثقافي عن كتابات العروي، وصادق جلال العظم، وهشام شرايبي، وجورج طرابشي، وهشام جعيط، وإدوارد سعيد.. إلخ؟
وإذا كنا نتفق حول الأثر الفكري العميق الذي وصم مفكرينا، عربا مسلمين وعربا مسيحيين، المتحدر من فلاسفة الأنوار، وهيغل، ونيتشه، وماركس، وماكس فيبر، وهربرت ماركيوز، وأدورنو، وهيدغر، وسارتر، وفوكو، ودريدا، ودولوز… إلخ، فإن ما ينبغي أن نتفق بصدده أكثر، هو أن مفكرينا استوعبوا الأثر، والتقطوا ذبذباته العميقة، وجوهره الكوني المتحكم في بناء الأفكار والعقليات إبان مرحلة من المراحل، ومحطات من المحطات التاريخية، فالمنهج والجوهر هو ما نجح فيهما الأفذاذ العرب، وهم يقاربون بهما الفكر التراثي الإسلامي، والواقع العربي المُصْمَت، والعقلية القطيعية المتفشية، وأسباب التخلف الثقافي والحضاري والاجتماعي.
وبهذا المعنى، فالخطيبي عطفا على أولئك وهؤلاء، لم يكن ناقلا ولا مرددا، ولا مُطَبِّلا لرأي أجنبي مغاير بالتعيين والتغليب. ذلك لأنه انطلق من واقع وتضاريس مجتمعه، وغاص في اجتماعية فضاءاته، وزمنيته الخاصة والعامة، واستقرأ باقتدار، جملة المحرّمات المعوقة، وطبقات التفكير والثقافة الشعبية المختلفة، التلقائية، والطبيعية، والمعبرة عن حقيقة الإنسان المحروم، والمجروح، والملتاع.
ومن ثم، فعلى خلاف العروي ذي البصمة الفكرية الهائلة في سياق التحديث، وعوائق التحديث، وحرقته، انتبه الخطيبي إلى ما به يتقوم المجتمع المتخلف، وما به ينهض، وينأى ـ في الآن نفسه ـ عن الببغاوية، والتقليد، وترحيل نماذج تنموية وسلوكية وثقافية معطاة، وكانت السوسويولجيا مُنَبِّهًا لأنها تصون، في الدارج من الأعمال والمواقف والإجراءات، من الاستلاب، والانتزاع القسري من التربة الحميمة، وما يتهدد الوجود الحي، والفكر الخلاق من التهويم، والدوران في ميتافيزيقيا أخرى، ميتافيزيقيا الاحتذاء، وحرق الخصوصيات دفعه واحدة.
وإذا كانت الخصوصية نداء ضمنيا بوجوب الانتباه إلى الذات، واتقاء الارتماء اللامحسوب في قِماط الآخر، وعالم الغير، وما صنع وجوده، فإن الخصوصية التي تَقَصَّدَها الخطيبي، كما تقصدها مفكرون عرب آخرون، هي الخصوصية الغنية بالخصوصية الأخرى المغايرة، المختلفة والمكملة. فنحن بإزاء خصوصيات ثرية قِوَامُها الجدل والتخالف والتكامل، من دون أن تستحوذ الواحدة على الأخرى، وتبتلع هذه تلك.
هكذا نجح الخطيبي فيما تَرَدَّى البعض في فشل ذريع، لأنهم غيبوا المنطق الجدلي الذي تحيا به الأفكار، وتتقدم الثقافات والحضارات، وَسَامَتُوا جانبا واحديا من التفكير في ماضي، وحال، ومآل الأمة العربية، منتصرين إما للقطع النهائي مع التراث (حالة العروي)، أو للعودة إلى التراث لأن فيه، على الأقل في جوانبه المشرقة وهي كثيرة، ما يجيب عن أسئلة الحاضر (حالة الجابري).
نجح الخطيبي على رغم ما يمكن أن ترمى به أطروحته في عمومها من نقد وأسئلة، في مجاوزة الميتافيزيقيا في وجهها الإسلامي، وفي وجهها الأوروبي، وبهذا الاعتبار، ومن هذا المنظور الثقافي النقدي، يكون المفكر العروي ميتافيزيقيا ما دام يستضيف التاريخانية الغربية مَددًا وطريقا لا محيد عنه، من أجل الوصول إلى الحضارة الغربية، والإسهام فيها، ويكون المفكر الجابري ميتافيزيقيا بدوره من حيث ارتباطه بالتراث، ودفاعه المستميت عنه في سلسلة كتبه، وأطاريحه.
لكن السؤال الذي ينطرح في هذا الباب المشرع المصاريع دوما، على الفكر والتساؤل والإضافة، والحذف، والتعديل هو: أليس الطريق الثالث، طريق الجمع والتأليف والضم، هو ـ أيضا ـ ميتافيزيقيا، لأنه يوصم بالتوفيق والــتلـــفيق، كـــــمــا وصفت أعمال الجابري وغير الجابري، وهم كثر؟
محمد بودويك