عدو الشعب

حجم الخط
3

قلّما يحدث الأمر بهذا الوضوح: وزير صحة يخرج إلى شعبه صباحاً ليعلن: «إنكم تأكلون طعاماً فيه بقايا براز بشري»، ومع ذلك سيخرج الشعب في المساء متحدياً الوزير، متجمهراً حول أماكن البيع الفاسدة نفسها التي أشارت إليها تقارير اللجان المعنية، ليشتري ويأكل ويحتفل من غير اكتراث، كأنما نكاية بالوزير، نكاية بالطهارة، على ما يقول التعبير الدارج. ليس الشعب فقط، حتى لا نلقي الأمر على أسباب الجـــهل والعوز، بل إن وزيــــراً سابقاً ونافذاً ومؤثـــراً في مدينــته فعل ذلك أيضاً مستعرضاً بطولته في تحدي المنتَج الفاسد أمام عدسات التصوير.
القوى المؤثرة في المجتمع من الذكاء والنباهة، بحيث أنها لم تترك لوزير الصحة الفرصة ليصول ويجول على هواه، هكذا استلّت سؤالها الأزليّ الحاسم «لماذا الآن؟». السؤال نفسه الذي استطاع في بلادنا أن يؤجل أحلام الناس برغيف خبز، وعيش كريم، وقضاء عادل، وصحافة حرّة لحوالى سبعين عاماً مضت، هي عمر نكبة فلسطين، فباسمها جرى تأجيل كل ما عداها من تفاصيل.
هذه الـ»لماذا الآن» أفضتْ فوراً إلى أجوبة عديدة. البعض أدرج خطوة الوزير في إطار الحسابات الانتخابية والمناكفة السياسية، هناك من قلّل من أهمية اكتشافات الوزير، معتبراً أن تلك الاكتشافات بدأت على أيدي وزراء سابقين، وهناك من قرأ خطوة الوزير على نحو سياسي أكثر عمقاً، فاعتبر أنها تعبير عن الانكفاء الدرزي في السياسة، لعلها إذاً نوع من التعويض عن الحضور السياسي المؤثر لدروز لبنان في أزمات مماثلة (ينتمي وزير الصحة وائل أبو فاعور لطائفة الموحدين الدروز).
لكن هناك أيضاً من رأى أن معركة أبو فاعور لا تبعد كثيراً عن السياسة، حيث المعركة ضد الفساد، هي في جوهرها «معركة ضد النظام السياسي الذي أنتج الفساد». وهناك من أراد أن يحوّل الوزير ومشروعه في الكشف عن الفساد ومحاسبته إلى أضحوكة، فالأمر برمّته تحوّل إلى نكات تتجدد يومياً يرويها اللبنانيون لأنفسهم وعن أنفسهم، لكن من يقول إنه كان عملاً بريئاً حين أطلق أحد الصحافيين دجاجة حية في مؤتمر صحافي لأبو فاعور، كما لو أن المقصود أن يرتبط ظهور الوزير بمناخ تهريجي. دجاجة تزعق في مؤتمر صحافي رصين! إنه لا شك نوع من الانتقام والتنكيل.
كل ذلك في وقت يتخيل المرء أن ثورة حقيقية يمكن أن تقوم إثر تقارير الوزير، بعد أن بات يصدر منها كل يوم تقرير جديد وكشف جديد، لكنها بلادنا الفريدة في كل شيء، فريدة في أن تكون ضد نفسها ومصالحها إلى هذا الحدّ. هذا وضع يمكن أن يفسر لماذا تأخرت الثورات في وصولها إلى هنا، ولماذا تأخرت في الانتصار، ذلك أن الفساد وصل إلى أعمق أعماقنا، وبات شاملاً إلى الحد الذي تبدو فيه الأغلبية المطلقة على ضلال. إلى هذا الحدّ ضميرنا «الجمعي» مخرّب، وثمة وقائع لا تحصى بإمكانها أن تدمّر تلك الشائعة التي تقول إن ضمير الجماعة لا يمكن أن يخطئ.
الفساد منظومة شاملة يبدو أنها حسنة التنظيم أكثر من الخطط الخمسية والسياسات التي تضعها الحكومات العربية. ليس أدل على هذا الخراب العميم مما كان يحدث في سوريا، نتيجة إفساد النظام للبلاد كل هذه السنوات، حين كانت شريحة أهلية واسعة تبني حياتها على مشاريع مستنبطة من الفساد، كان أهل تلك المدينة يتسامحون مع تسرب أولادهم من المدارس مبكراً مع أول شهادة دراسية يحصلون عليها للتطوع في أجهزة الأمن والمخابرات، فيما أهل مدينة أخرى يبنون كل حياتهم على طموح التطوّع في شرطة المرور، فذلك هو النبع الذي لا ينضب، وأكبر رمز «مشروع» للرشوة. وعلى الحدود كان الأهالي يختصون بتهريب المازوت، أو الأغنام، أو التبغ، لكن ذلك كله ليس شيئاً أمام التجارة المستجدة التي حملت اسم «التعفيش»، فبعد القتل والتهجير والتدمير والمجازر، هنالك «سوق السنة»، وسط صمت رهيب موالٍ، إن لم نقل مشاركة وتواطؤ فعليين.
ذات مرة اكتشف طبيب أن إحدى البحيرات العلاجية التي تدرّ دخلاً سياحياً في بلدته ملوثة، وقد تعرّض حياة الأهالي للخطر. سارع إلى الكشف والإعلان عن ذلك الأمر لأهل البلدة الذين ربطوا كل حياتهم بدخل البحيرة، ليفاجأ بتحالف الحكومة مع الإعلام ورأس المال الفاسد ضده، إلى حد وصفه باسم «عدو الشعب» معتبرين إياه خطراً على المجتمع، وليواجه حتى أفراد عائلته ضغط قوى المجتمع كلها.
كانت تلك حكاية مسرحية للنرويجي هنريك ابسن (1828 – 1906) التي ظهرت تالياً في فيلم سينمائي، ونسخ لا حصر واضحاً لها من العروض المسرحية. ولا يبتعد الوزير أبو فاعور عما جاءت به شخصية ذلك الطبيب الحامل للقب «عدو الشعب».
إذا استمر أبو فاعور باكتشافاته تلك فهو أمام أحد مصيرين، إما سيواجَه بالاغتيال، أو أنه سيواجَه بإطلاق الدجاج نحوه. لكن المعضلة ستظل قائمة: إنكم تأكلون ما لا يؤكل، فهل هناك أمر ملح وعاجل أكثر من ذلك!

٭ كاتب فلسطيني

راشد عيسى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول د. احمد- النمسا:

    والله ياأخ راشد اذا قارنت بين الفساد في سوريا ولبنان فإنه لا وجه للمقارنة علما ان الفساد في لبنان اسس له الوجود الامني السوري في لبنان اما الفساد في سوريا فتلك حكاية تحتاج الى مجلدات ومجلدات لان الفساد هنا مؤسس من راس الهرم الى اسفله
    وتحكمه عقلية مافياوية قل نظيرها باجهزة الحكم الاخرى

  2. يقول احمد العربي:

    رح نتخلص من الفساد بهمة الثوار ليش الثوره قامت موضد الفساد ؟!

  3. يقول Rebhi-كندا:

    غياب الفكر الخلاق والقدره على الابتكار على المستوى الفردي وعلى مستوى المجتمع هو السبب الرئيسي للفساد في العالم العربي وليس فقط في لبنان، وبالتالي يأتي الفساد للتعويض عن هذا النقص. فساد الافراد هو اساس فساد المجتمع بأكمله، ثم تأتي السلطه ونظام الحكم ليعمل على تكريسه كنظام حياة. أحترام القانون والتشريعات الوطنيه في الوطن العربي لا يكقل للمواطن العربي اشباع عادل لحاجاته الماديه والوصول الى اهدافه بحياه كريمه وهادئه، وبما ان هذا المواطن لا يتمتع بالفكر الخلاق والابداعي للوصول الى ما يريد من خلال المثابره والعمل الجاد وخاصه اتجاه تحسين البيئه القانونيه والتشريعيه، يصيح االفساد خياره الافضل لتحسين شروط حياته من خلال الاعتداء على القانون، وعلى حقوق المجتمع وحقوق غيره من المواطنين عبر اساليب الغش والخداع وسرقه المال العام. دور السلطه والحكومات لا يتعدى الاستفاده من هذه الخاصيه التي يتمتع بها المواطن العربي من حيث افتقاره للابداع لاحكام قبضة الحاكم على الحكم من خلال رعايته للفساد ولكن ليس للتأسيس له. وبمعنى اخر، هناك قابليه لدى المواطن العربي للفساد وللتاسيس له، وما يقوم به نظام الحكم ليس الا الاستفاده من هذه القابليه ورعايتها وتكريسها كنظام حياه الاكثر فعاليه.

إشترك في قائمتنا البريدية