كيف للفنون وفي مقدمتها الموسيقى العمل بمناخ عربي وإنساني مختل؟ ماذا نفعل لملايين النازحين والمهجرين واللاجئين.. هل يصمد صوت النغمة أمام صوت الطلقة بالغ النشاز؟ وبما أن الموسيقى لن تستطيع إيقاف المدفع وليس هذا دورها، إذن ما العمل
من يعيد للحياة ألقها سوى الثقافة والفنون.. من يسحب فتيل الكراهية والاقتتال بين الأشقاء، غير المدْ الروحاني للموسيقى.. من يغّلب الإنسانية ويظهر جمال الروح ويبدل العنف والقدرة على القتل والتطرف غير العمل الفني العظيم؟
ولكن كيف تصبح الموسيقى والفنون قادرة على تحقيق كل هذا التأثير؟ تغيّرات كثيرة حدثت في هذا العالم، جغرافيّات اختلفت، توازنات اختلّت، إيمانات تزعزعت، الاختلاف ضرب كل شيء، وربما لم يعد من أحمال ذاكرتنا سوى الصور القديمة التي داهمها الاصفرار. أقلِّب الآن في سجل ذاكرتي، ذاكرة موجوعة بالألم العراقي الأزلي، ذلك الألم الذي خلق في مواجهته ثقافة إنسانية عميقة، فالآلام بحر من إبداع، بل هي منجم حقيقي لاكتشاف المبدع الحق. تاريخ عراقنا يُؤرخ بمبدعيه، فعلى مرّ السنوات ومرِّها ظلت الثقافة العراقية رائدة تسعى إلى التجديد حتى لو كان تجديدا من قلب الألم ونابضا به. المثقف العراقي هواه العراق، والعراق هواه مثقفه الحقيقي الذي لا يتخاذل مهما تخاذلت الأزمان معه. الصور كثيرة جدا، ممرات واسعة ومؤرشفة لآلام العراقيين ولمحنتهم الطويلة، صور حيّة تنبض بكل شيء، بالحياة أسودها وأبيضها وبالموت، بالضحك وبالدموع.. حياة في صور، صور في حياة. لا أستطيع أن أغادر ذاكرتي وأنا أتحدث عن العراق، ربما لأن وجعه اليوم وجع مكلف، وربما لأن صورته اليوم رمادية، وربما أيضا لأن الذاكرة تدافع عن صورها باستحضار الأجمل دائما..
في رأسي الآن عراقي الأجمل، شاطئه ورماله، شمسه المنعكسة في الظلال، وفي رأسي مبدعوه جميعا، حتى من اختلفت معهم، وحتى أولئك الذين أوجدوا فجوات بين تجاربهم وتجاربي، في النهاية كنا جميعا نبني العراق وإن اختلفت الرؤية.
أرى في مرور الصور الجنائن المعلقة وبابل وسامراء، أرى مدينة أور حيث ولد أبو الأنبياء إبراهيم، أرى كنائس العراق الجميلة وطقوس الصابئة المطهرة بالماء الصافي، أرى قبابا مذهبة في بغداد وكربلاء والنجف، أرى بوابة عشتار عليها اللون الأول، أرى سدة الكوت حيث ولدت أحلامي، أرى دجلة الخير والفرات، أرى مصايف شقلاوه والسليمانية وأربيل، أرى نينوى بكل مبدعيها وأنبيائها، غاباتها الرشيقة، أرى الجسور التي تربط بالحب بين ضفتي بغداد، بغداد التي يقول فيها الشاعر مصطفى جمال الدين،
بغداد ما اشتبكت عليكِ الاعصرُ
إلا ذوت ووريق عمرك أخضرُ
مرّت بك الدنيا وصبحك مشمسٌ
ودجت عليك ووجه ليلك مقمرُ
وقست عليك الحادثات فراعها
أن احتمالك من أذاها اكبرُ.
عراق الفن التشكيلي، عراق جواد سليم وحافظ الدروبي وفائق حسن وشاكر حسن آل سعيد، ضياء العزاوي، محمد مهر الدين، سعدي الكعبي، علاء بشير، جبر علوان، رافع الناصري، ليلى العطار سعاد العطار، سهيل الهنداوي، نوري الراوي، علي الجابري، وغيرهم من أجيال الرسامين والنحاتين.
عراق الغناء الذي يصدح من مكان هو الأعمق في القلب، عراق محمد القبنچي ويوسف عمر وسليمة مراد وداخل حسن وناظم الغزالي، مائده نزهت، زهور حسين، ياس خضر، فاضل عواد، حسين نعمة، قحطان العطار، سعدون جابر، فريدة ، كاظم الساهر، وأجيال الأصوات الجميلة. عراق الموسيقى، إبراهيم الموصلي، زرياب، وإسحاق الموصلي، عثمان الموصلي، وجميل بشير ومنير بشير وسلمان شكر، جميل حافظ، حنا بطرس، سالم حسين، جميل سليم، عباس جميل؟ طالب القرغولي، محسن فرحان. وغيرهم. عراق الشعر، المتنبي وأبي نؤاس، الفرزدق، رابعة العدوية، الجواهري، الصافي النجفي، معروف الرصافي والزهاوي، البياتي، بلند الحيدري، نازك الملائكة، عراق بدر شاكر السياب، مظفر النواب، سعدي يوسف، سركون بولص، عريان السيد خلف، لميعة عباس عمارة وغيرهم الكثير.
عراق الصباح وعراق المساء، القيلولة تحت شجرة قديمة في بيت أمي، وصوتها مناديا علي كي أتوقف عن العزف قليلا لوجبة لذيذة. عراق أمي وأصابعها الطرية، صوتها الذي يدندن في المطبخ، حركة يديها وهي تطهو الطعام الشهي ورائحته التي تتسلل من كل مكان، تنورها الزكي، خبزها الأبيض. يا للعراق الموجوع والموجع، يا لجرحه الغائر في القلب والروح وفي كل مسام الجسد.
أخض رأسي باحثا عن الصور، النخلة السامقة، وباب بيتنا العتيق، أبواب طفولتنا، اخواتي واخوتي، أصوات ضحكاتنا وأفراحنا. أخض رأسي باحثا عن كف أمي لأقبله ولأضعه على رأسي، كفها الصغير الذي يشكل خريطة كاملة لعراق القلب، ففي كل خط من خطوطه تاريخ من آلام وتاريخ من أفراح، الجروح الصغيرة في أصابعها وتلك الدماء التي جفت. كلما تحدثت عن العراق لا أستطيع أن أفعل إلا وأنا أرى أمي منتصبة أمامي ملوحة بكفها ومرتدية جلبابا أبيض طويلا، وعلى رأسها شال خفيف من بياض.
العراق يشبه أمي مثلما تشبهه، لهما النظرة نفسها، تلك التي لا نستطيع أن نراها إلا عندما ندقق جيدا بالعنقاء، نظرة أمل تقفز على كل الجدران السوداء، وعلى كل الجثث المتفحمة، وعلى كل الأسوار العالية لتقول إن الشمس ما زالت تشرق وإن الصباح سيأتي حتى إن تأخر، وإن البحر ما زال بموجه العالي يتجدد كما تتجدد حياة في رحم امرأة.
كل ما تذكرت وما لم أتذكر يظهر مطرزاً بعملي الموسيقي، ما نزلت ريشتي على وتر إلا فيه شيء من العراق. أرى بلدي وشعبي في المسافة بين ناظري وأناملي وأنا أحتضن العود، ولم أر شيئاً سوى إنسانيتهم، مهما حصل في السنوات الأخيرة. ستعود الموسيقى وكل الفنون تنبض في أزقة العراق (ما مّر عام والعراق ليس فيه) خير وموسيقى جميلة، تخرج بعد أن تشق الحجر والوجع، لتزرع الأمل.
رحل الكثير من المبدعين، وولد الكثير، وكل جيل جديد يحمل جينة الانتماء التي يمتد عمرها من نشأة الكتابة وميلاد العود والحضارة، بالموسيقى سأعمل على عودة النازحين، وبالموسيقى سأرمم جراح الإنسان، وبالموسيقى سأزرع الأمل بعراق جميل، وكما كل الذين سبقوني سأواصل درب حبك يا عراق.
(ليس سوى عراق)
موسيقي عراقي
نصير شمه