في اكتوبر المقبل تمر الذكرى العشرون لرحيل الفنان العراقي عزيز علي، الذي رحل بصمت عن عالمنا في عام 1995.
عزيز علي الذي يمكن ان نطلق عليه بمصطلحات اليوم «الفنان الشامل» الذي كان يكتب ويلحن ويؤدي فنا جديدا لم يعرفه العراق قبله، عرف خطأ بالمنولوج وسماه هو «المقالة الملحنة». اغانيه الناقدة للاوضاع الاجتماعية والسياسية رافقت اهم الاحداث والمتغيرات منذ 1936مبدء دخوله للإذاعة العراقية الوليدة حتى 1958 عندما توقف عن الغناء لعدة اسباب. يمكننا ان نعد عزيز علي ظاهرة متفردة في تاريخ الفن العراقي، ففي عقد الثلاثينيات من القرن العشرين عندما كانت الحداثة الفنية تخطو اولى خطواتها محاولة التغلب على القوالب والانماط اللحنية الكلاسيكية، على يد جيل من الموسيقيين الشباب، ابتدأ عزيز علي مشواره الفني بتقديم نمط من الأغاني لم يألفه المستمع العراقي، اغنيات مكتوبة شعرا بالمحكية بكلمات بسيطة تصل الى عقول ابسط المتلقين، وبجمل لحنية بسيطة لكنها ساحرة بحداثتها، ما جعلها تحفظ وتردد بعد إذاعتها مباشرة لتصبح كالامثال، أو المقولات وربما كالمنشور الشفاهي الذي يتداوله الناس.
بدءا يجب ان نقف عند الخطأ الشائع في التسمية، حيث اطلق على ما يؤديه عزيز علي من اغنيات اسم المنولوج، وهو مصطلح تمت استعارته من المسرح بشكل عام، ومن الاوبرا بشكل خاص، فالمنولوج، بحسب الباحثين، من القوالب الغنائية الحديثة التي ولدت إبان عصر النهضة الموسيقية، الذي دشن له سيد درويش في العشرينيات من القرن العشرين. وهو قالب غنائي مستوحى من فن الغناء الأوبرالي، حيث يمتد الغناء ويتدفق ويسترسل من دون وجود مذهب أو كوبليه أو جمل لحنية تتكرر بين الحين والآخر، وهذا هو مكمن صعوبته وفرادته، فعملية التلحين التقليدي تعتمد على خلق جمل مفتاحية تكون بمثابة الحجر الأساس في البناء الموسيقي، وهو ما يسهل للملحن عمله ويساعده على توليد الجمل اللحنية وعلى استيحائها. أما فن المونولوج فهو يلتقي مع التأليف الموسيقي في الغزارة والاسترسال والتدفق والاندفاع والنفس الطويل وخصوبة المخيلة الموسيقية. ولأنه فن صعب ويحتاج إلى ذائقة موسيقية متميزة للتفاعل معه، فقد اختفى هذا الفن منذ الأربعينيات، أي منذ أن اعتزل محمد القصبجي التلحين وتوقف محمد عبد الوهاب عن تعاطي هذا اللون، ليأفل نجم المنولوج وتطغي عليه الاغنية الحديثة. وفي هذه الفترة او قبلها بقليل ظهر نوع من (السكيتشات الغنائية) الهزلية يؤديها مؤدون على المسارح لغرض الترفيه عرفت بـ(المنولوج الفكاهي او الهزلي)، وهذا اللون لا علاقة فنية او علمية له بالمنولوج، انما هو خطأ شاع على السنة الناس واصبح مؤدي هذا اللون يعرف بالمونولوجست، وقد انتشر هذا اللون منذ منتصف الثلاثينيات في مصر وسورية ولبنان، ومن أشهر مؤديه إسماعيل ياسين وشكوكو ومنير مراد وثريا حلمي وقد قدمه في العراق عزيز علي عام 1936 من اذاعة بغداد.
ويقسم عزيز علي مسيرته الفنية في الكتاب، الذي نشره في منتصف الستينيات، الى ثلاث مراحل، المرحلة الاولى امتدت من 1936 الى 1939، تناولت فيها اغانيه بعض المظاهر الاجتماعة بالنقد الذي يتسم بنكهة فكاهية ساخرة، وهي اللون القريب من السكيتشات التي كانت شائعة حينها في العالم العربي، حيث ينتقد سلوكيات اجتماعية بدأت تظهر نتيجة للتغيرات التي طرأت على المجتمع الذي كان في طور الانتقال من التقليدية الى الحداثة، وقد شابت هذا الانتقال بعض الامراض الاجتماعية التي تناولها عزيز علي بالنقد.
أما المرحلة الثانية فتمتد من عام 1939 الى 1947، وهي مرحلة البدايات في مضمار الاغنية السياسية ولتقريب الصورة لمن لم يسمع أغاني عزيز علي نقول إن اغانيه من نمط عرف بعد ذلك في العالم العربي بعد اكثر من ربع قرن، وهو اللون السياسي الساخرالذي قدمه الثنائي (الشيخ امام – احمد فؤاد نجم) في مصر، أو الاغاني السياسية الساخرة التي قدمها زياد رحباني في لبنان، وكانت أغانيه تتناول المظاهر السلبية في الحياة السياسية، بنقد لاذع جعلت الناس تترقب اغانيه من اذاعة بغداد مساء كل اربعاء، وقد جاء هذا التحول نتيجة لتصاعد موجة الوطنية والحماسة التي صبغت فترة حكم الملك غازي القصيرة، الذي عرف بعدائه للإنكليز ومحاولة التفاف الحركة الوطنية حوله، ما أدى إلى اغتياله وهو في ريعان شبابه، في حادث سيارة مدبر. لقد انطلقت اغاني عزيز علي السياسية من اذاعة قصر الزهور، التي كان يشرف عليها الملك بنفسه، وبعد مقتل الملك ايد عزيز علي انقلاب العقداء الاربعة، الذي قاده رشيد عالي الكيلاني عام 1941، الذي لم تعش حكومته سوى شهر واحد لتعقبها موجة تنكيل بمن تعاطف مع الانقلاب، وكانت حصة عزيز علي الاعتقال في معتقل العمارة جنوب العراق، الذي كان مخصصا للنازيين العراقيين لمدة سنتين، أفرج عنه بعدها وابعد بأمر الشرطة عن بغداد فسكن في مدينة كربلاء حتى عام 1947.
وبطلب من مدير الاذاعة الجديد عاد عزيز علي لتقديم أغانيه من اذاعة بغداد نهاية عام 1947، حيث ابتدأت المرحلة الثالثة من عمره الفني، التي امتدت حتى 1958 حيث توقف عن الغناء، وهي المرحلة التي مثلت نضوج ما يقدمه من كلام ولحن ونقد لاذع للاوضاع السياسية، وكانت تلك الفترة تشهد حرية نسبية وتقبلا من الحكومات للنقد، ما اتاح لعزيز علي هامشا مناسبا للابداع، ومما يذكره عن هذه المرحلة في سيرته ان رئيس الوزراء نوري السعيد زار الاذاعة عام 1956 اثناء تسجيله إحدى اغانيه اللاذعة مما اغاض (الباشا) وطلب القصائد المكتوبة بخط عزيز علي، ما اثار رعبه وضن انه سيرسل الى المعتقل مرة اخرى، وإذا به يفاجأ في اليوم التالي بطلب من مدير الاذاعة للذهاب لمكتب رئيس الوزراء، الذي وبخ عزيز علي وطلب منه عدم التركيز على الناحية السلبية في الحياة السياسية فقط، بل يجب ان ينظر إلى جانبها الإيجابي ايضا، وبشكل خاص ما حقق من انجازات مهمة، وعندما خرجا هو ومدير الاذاعة ونتيجة الرعب الذي احس به طلب من مدير الاذاعة ان يعفيه من تقديم اغانيه من الاذاعة العراقية، إلا ان المدير طمأنه وقال له إن (الباشا) كان يضن انك شيوعي، لكنه بعد ان اطلع على ما كتبت تأكد من انك لست كذلك، ومع ذلك اصر عزيز علي على موقفه، وما ان تلقفت جرائد المعارضة، وفي مقدمتها جريدة «الاهالي» القصة حتى بدأت حملتها على الحكومة، وبالغت في الامر حتى اوصلته الى ان رئيس الوزراء يدبر لاغتيال المطرب الساخر، ما أرعب عزيز علي أكثر، وأعاده بعد اسبوع قضاه قلقا من الاعتقال في أغنية معبرة هي «انعل ابو الفن»، ويذكر د. مصطفى جواد في حديث له مع الفنان، أنه كان ذات يوم عند (نوري باشا السعيد) الذي فتح الراديو ليستمع الى اغنية «أنعل أبو الفن»، التي كانت تذاع لاول مرة، سمعها للنهاية وقال للدكتور جواد (اسمع ابن الـ….انه يشتمني انا) وضحكا معا للموقف، ليبقى عزيز علي يقدم اغانيه من الاذاعة بوتيرة متصاعدة حتى كانت اغنيته النبوءة «كل حال يزول» التي قدمها في شهر مارس 1958، اي قبل اربعة اشهر من انقلاب 14 يوليو 1958، الذي اطاح بالحكم الملكي في العراق ليمنع على اثرها من اذاعة اغانيه حتى قيام (الثورة).
قدم عزيز علي اغنية واحدة (للثورة الجديدة) التي كان يبشر بها وهي (No..NO)، ليكتشف سريعا انه لا يستطيع الاستمرار نتيجة للصراعات التي حصلت بين اجنحة (الثوار)، فيصمت عن الغناء وينقل خدماته من وزارة الاسكان، حيث كان يعمل الى وظيفة في وزارة الخارجية في سفارة العراق في براغ ثم في تونس 1962، لتفصله حكومة الزعيم عبد الكريم قاسم من وظيفته لانه قومي! ومع انقلاب 17 يوليو 1968 يكلف عزيز علي بتأسيس مدرسة موسيقى ابتدائية للاطفال، فيقوم بذلك على أحسن وجه ويستورد الالات ويطلب الاساتذة من الاتحاد السوفييتي،وعندما طلب منه تطوير المدرسة لتصبح «مدرسة الموسيقى والبالية» يرفض وبشدة هذه (المهزلة) التي تعلم اولادنا وبناتنا (الرقص) ويطلب احالته للتقاعد عام 1970، ويضن انه سيقضي ما تبقى له من سنوات في هدوء لكن هيهات.
في عام 1975 ومع فتح احد صناديق الودائع في احد البنوك العراقية الذي بقي مغلقا لمدة تزيد على 25 سنة، تكتشف الحكومة ملفات ما عرف بـ»قضية المحافل الماسونية» التي ورد ذكر اسم عزيز علي فيها كاحد المنتمين الى المحفل الماسوني في الاربعينيات، لتحكم عليه محكمة الثورة بالسجن المؤبد بتهمة الماسونية، وبعد سنتين يفرج عنه لاسباب صحية، وينزوي في الظل لكن القدر يأبى ان يتركه، فيقتل ولده البكر (عمر) في الحرب العراقية- الايرانية، ومع بداية التسعينيات بدأت إذاعات المعارضة العراقية في الخارج ببث اغاني عزيز علي وكأنها تستنطقها نقدا لوضع نظام صدام، وخوفا من بطش النظام وهو في الثمانينيات من عمره، أعاد عزيز علي طبع كتابه «عزيز علي.. سيرته واغانيه» مع مقدمة وحواش، تشيد بحزب البعث والنظام الحاكم، ومن يدري لولا ذلك لاعتقل مرة اخرى بتهمة الانتماء لاحد احزاب المعارضة.. ويرحل الفنان الساخر عن عالمنا في اكتوبر 1995، وقد اتهم بالنازية ثم بالشيوعية ثم بالقومية واخيرا بالماسونية، رحل المتهم في كل العهود وهو الذي لم يتحزب يوما إلا للعراق… رحم الله عزيز علي في ذكرى رحيله العشرين.
٭ كاتب عراقي
صادق الطائي
كلمة المونولوج مصطلح يوناني- لاتيني مركب من كلمتين (مونو) وتعني (واحد- فرد) و(لوج) وتعني (كلام- مقال) وتركيبها يعني الكلام الفردي أو المقال الفردي ويجوز أن يكون نثرا أو شعرا ويصلح أن يلقى أو يلحّن.
– من ويكيبيديا –
ولا حول ولا قوة الا بالله
قضيت الإسبوعين الأخيرين من آخر شهر لعام ١٩٧٦ في سجن أبو غريب طبيبا للسجن ، و هناك إلتقيت ضمن من إلتقيت بعزيز علي …و كان زملائي الأذين سبقوني قد أخبروني عن وجوده ، و ما هي إحتياجاته .
كان شخصاً لطيفا ، و قد سألته عن عمله المعروف ” دكتور ….” ….أجابني أنه كان يقص د و يدعو لدكتاتور !……إبتسمت و لم أعلق ، فقد إستجاب القدر و أُبتليَّ العراق بأكثر من دكتاتور واحد !
لا يختلف اثنان في العراق بان الفنان عزيز علي كان مثالان لفنان المبدع والموهوب والمتفرد بهذا النوع من الفن بالاضافة الى انه كان معبرا عن الام وعاناه الشعب العراقي خير تعبير وقد ترك تراثا غنائي خالدا اذ ان اغلب أغانيه ما زالت تنطبق على احوال العراقيين خصوصا في مرحلة ما بعد الاحتلال الامريكي للعراق، وما ورد في مقالة الكاتب المبدع ادق الطائي بحق هذا الفنان دقيق ومهم جداً ، ة
شكرا لك استاذ صادق على كل ما هو جميل ترفدنا به … بقد كانت اغاني الفنان الكبيرالراحل عزيز علي منذ البداية ولهذه اللحظة تمثل معاناة الشعب العراقي كانه لحنها والفها لتكون بلسم لجروح العراقيين لكل الازمان وعن جميع من حكوموه . لك فائق شكري على هذه المقالة الرائعة واحياء ذكرى هذا الفنان الكبير .