عسكر البيت الأبيض: جذور الدولة العميقة

حجم الخط
0

 

سجّل الجنرال المتقاعد مايكل ت. فلين الرقم القياسي في طول (أو بالأحرى: قصر!) المدّة التي صرفها في واحدة من أرفع الوظائف الأمنية في الولايات المتحدة: مستشار الرئيس الأمريكي لشؤون الأمن القومي. وكان قد اضطرّ للاستقالة، بعد أيام معدودات على تثبيته في المنصب، حين كشفت صحيفة «واشنطن بوست» الأمريكية أنه كذب على مايك بينس، نائب الرئيس، حول طبيعة محادثاته مع المندوب الروسي إلى الأمم المتحدة، سيرغي كيسلياك؛ وفي أنه، خاصة، قطع وعوداً حول مراجعة البيت الأبيض للعقوبات الاقتصادية المفروضة على روسيا. والجنرال، المعروف بالفظاظة والخشونة وسلاطة اللسان، اضطرّ إلى استخدام لغة التهذيب واللباقة واللياقة في رسالة الاستقالة، معتذراً من بينس، ومن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب شخصياً.
وبصرف النظر عن درجة الثقة العالية، التي كان ترامب يعرب عنها في تزكيته لشخص فلين، فإنّ صمت الأول إزاء افتضاح أكاذيب الثاني، وامتناع الرئيس عن مساندة مستشاره طيلة الأيام التي سبقت اضطراره إلى الاستقالة؛ هي علائم جديدة على مظهر اعتلال قديم طبع الحياة السياسية الأمريكية عموماً، ومنصب الرئاسة خصوصاً: أي، اختلال المنظور، وليس المنظار وحده، بين الرئيس والجنرال (متقاعداً كان، أم على رأس عمله). وفي كتابه «رؤساء وجنرالاتهم: تاريخ أمريكي للقيادة في الحرب»، يعرض ماثيو موتين حوليات التطابق، والتنافر، بين المدنيين والجنرالات في صياغة نظريات الأمن القومي الأمريكي وتطبيقاته. وللعلاقة هذه دلالاتها المتقاطعة حين يكون الرئيس، نفسه، جنرالاً متقاعداً خاض حرباً عالمية؛ أو حين يكون الجنرال المتقاعد مستشاراً للأمن القومي، أكثر نزوعاً إلى الحرب من رئيسه سيّد البيت الأبيض.
وفي الوسع، هنا، اقتباس حكاية الرئيس السابق باراك أوباما مع الجنرال ستانلي ماكريستال، حين كان الأخير قائد القوّات الأمريكية ـ وكامل قوّات الأطلسي، أيضاً ـ في أفغانستان. وأمّا الحكاية فقد ابتدأت من المادّة الصحافية المثيرة التي نشرتها مجلة «رولنغ ستون» الأمريكية، وأظهرت الجنرال وهو يسخر من كبار مسؤولي البيت الأبيض؛ ابتداء من أوباما نفسه، مروراً بنائبه جو بايدن، دون توفير مستشار الأمن القومي الأمريكي جيمس جونز، والمبعوث الأمريكي الخاص إلى أفغانستان والباكستان ريشارد هولبروك، والسفير الأمريكي في أفغانستان الجنرال المتقاعد كارل آيكنبيري. حينذاك، ذهب البعض إلى اعتبار الواقعة برهة فاصلة في حياة أوباما، بوصفه القائد العسكري الأعلى في الولايات المتحدة الأمريكية؛ وأنها بدت شبيهة بتلك التي عاشها سلفه هاري ترومان، سنة 1951، حين أعلن إعفاء الجنرال دوغلاس ماك آرثر من قيادة القوّات الأمريكية في جنوب شرق آسيا، على خلفية خلاف الأخير مع البيت الأبيض حول الستراتيجية الأفضل لإنهاء الحرب الكورية.
وبالفعل، اقتدى أوباما بأمثولة سلفه ترومان، فأعفى الجنرال من موقعه القيادي، أو قبل استقالته على نحو ما، مشدداً على أنّ سلوك ماكريستال لم يكن يلبي المعايير التي يجب أن يهتدي بها القائد العسكري، وهو سلوك يهدد مبدأ سيطرة السلطة المدنية على الجيش. الفارق الجوهري تمثّل، مع ذلك، في أنّ الخلاف حول خيارات ستراتيجية كبرى هو الذي كان الحافز وراء قرار ترومان بإعفاء ماك آرثر، في حين أنّ أوباما كان متفقاً تماماً، ما خلا تفاصيل غير أساسية وغير حاسمة، مع ستراتيجية ماكريستال في أفغانستان؛ والتي اقترحها الأخير على البيت الأبيض استجابة لطلب الإدارة الجديدة، وتمّ الإعلان عنها رسمياً.
والحال أنّ الأصوات التي طالبت بإعفاء ماكريستال من موقعه القيادي في أفغانستان كانت قد ارتفعت على الفور، بمناسبة تسرّب النقاط الرئيسية في خطة ماكريستال وتقييمه العام للوضع العسكري على الأرض، ولا سيما إلحاحه على ضرورة زيادة عدد القوّات الأمريكية بما يكفل تكرار نجاح خيار «الطفرة» كما طُبّق في العراق. ولقد قيل يومها إنّ العسكر يحاولون إحراج القيادة المدنية لاتخاذ واحد من قرارين، كلاهما غير شعبي في الواقع: إما تلبية طلب الزيادة (وماكريستال أوصى، آنذاك، بعدد يتراوح بين 30 إلى 40 ألف مقاتل)؛ وإما رفض الطلب، والظهور بمظهر المتسبب في مزيد من التعثر والفشل والخسائر. صحيح أنّ أوباما لم يرسل، بعدئذ، كامل العدد الذي أراده الجنرال، إلا أنه أضاف 12 ألف جندي إلى القوّات الأمريكية في أفغانستان!
بعض التفاصيل الأخرى في خطة ماكريستال (والتي لم يضعها، للإنصاف، دون التشاور مع رهط من كبار الخبراء الأمريكيين في الشؤون السياسية والجيو ـ ستراتيجية)، كانت تسير على غير ما رأى ـ ويرى اليوم، أيضاً ـ هؤلاء الذين تعمّد الجنرال أن يلسعهم بسياط ملاحظاته الساخرة، في مجلة «رولنغز ستون». ما يسوّغ ترجيح التعمّد هو أنّ ماكريستال عسكري مثقف، درس العلاقات الدولية في هارفارد، وتميّز سلوكه مع الإعلام بالتقشف والانضباط الشديد. وبمعنى ما، كان الجنرال ينتظر ضربة قاضية، تطيح به وببعض أبرز تفاصيل خطته، آتية من الرباعي بايدن وجونز وهولبروك وآيكنبيري، فاستبق هؤلاء، وضرب من الثكنة قبل أن يضربوا من البيت الأبيض!
ذلك لأنّ معالم فشل تلك الخطة أخذت ترتسم تدريجياً، وعلى نحو مضطرد متعاقب، في عدد من الجوانب السياسية، المحلية والإقليمية، والجوانب الأخرى العسكرية والعملياتية؛ وفي طليعتها مبدأ «المهامّ الأربع» الذي حدّده ماكريستال للحملات العسكرية القادمة، بعد زيادة القوّات: الاستيلاء، التطهير، الإمساك، والبناء. ولقد توهم الجنرال أنّ استيلاء جنوده على أية منطقة أفغانية سوف يفضي بالضرورة إلى تطهيرها من ميليشيات الطالبان أو أنصارهم، كما سيتيح الحفاظ عليها فترة زمنية كافية، في المدى المتوسط أو حتى البعيد، لبناء مرافقها وخدماتها، أو حتى إعادة تشكيل تحالفاتها القبلية؛ وصولاً إلى وضعها نهائياً في رصيد سلطة كابول المركزية، وضمان ولائها للقوّات الأمريكية. وعلى امتداد الأسابيع والشهور، كانت الوقائع تكذّب آمال الجنرال، وتبرهن على حال معاكسة تماماً، أي تعزيز مواقع الطالبان، وضعف السلطة المركزية.
وفي البرقية الشهيرة التي أرسلها، وتسرّبت بعدئذ إلى الصحافة ليس عن طريق المصادفة كما يتوجب أن يتخيّل المرء، أشار السفير آيكنبيري (وهو، للإيضاح الدالّ، قائد ماكريستال السابق في أفغانستان) إلى اعتبارَين عمليين يحولان دون تحقيق نجاحات ملموسة في خطة الأخير: 1) أنّ أيّ تصعيد عسكري أوسع نطاقاً سوف يجعل الجيش الأفغاني أكثر اعتماداً على القوّات الأمريكية، وسيؤخّر بصفة ملموسة آجال اعتمادها على ذاتها، فضلاً عن آجال انسحاب القوّات الأمريكية والأطلسية من البلاد؛ و2) أنّ الحملات العسكرية المضادة تتطلب شريكاً سياسياً أفغانياً قوياً، يضمن تنفيذ اثنتين على الأقلّ من المهامّ الأربع، أي الإمساك والبناء، في حين أنّ حميد كرزاي، الرئيس الأفغاني يومذاك، كان قد سرق الانتخابات الرئاسية، ولا يُعتمد عليه، وسوف يقود الولايات المتحدة إلى مستنقع لا خلاص منه.
مستويات التناظر بين الجنرال ماكريستال، بالأمس؛ والجنرال فلين، مستشار الأمن القومي المستقيل، اليوم؛ تفضي إلى خلاصة متطابقة حول أبعاد «الدولة العميقة»، التي تشتغل في أمريكا أيضاً، كما ينبغي لها أن تفعل في كلّ دولة، على نحو أو آخر. هذا ما يؤكده مارك أمبندر في كتاب جديد بعنوان «الدولة العميقة: في قلب صناعة السرّية الحكومية»؛ نشر موقع «فورين بوليسي»، فصلاً منه في مناسبة استقالة فلين. ليس الأمر أنهم عصاة للقانون، هؤلاء الجنرالات ورجال الاستخبارات؛ بل هم، ببساطة، يمارسون سلطة داخلية هائلة، استطاعوا امتلاكها… بسبب ذلك القانون!

٭ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

عسكر البيت الأبيض: جذور الدولة العميقة

صبحي حديدي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية