عشرية كاملة تفصل بين حراك شريحة واسعة من الشباب عام 2005، رفضاً لجرائم الاغتيال ومناداة بانسحاب القوات السورية من لبنان، عن حراك شريحة أقل اتساعاً من الناحية العددية، على جماهيرية تظاهراتها الأخيرة الملفتة، من الشباب الرافض للاستهتار الحكومي حيال ملف النفايات، والذي بدأت شرارته التجميعية بتحركات السنتين الماضيتين ضد تمديد المجلس النيابي لنفسه مرتين.
هذا الشباب مقتنع اليوم بضرورة تبديل المشهد السياسي في لبنان برمّته، والتذاكي المساق ضد حراكه بأنّه من المطلوب اولاً انتخاب رئيس لا ينفع كثيراً، ما لم يقل المنادون بانتخاب رئيس، ووضع حد للشغور، ما هي خطتهم الاضافية لـ»إنبات» هذا الرئيس بعد ان اندلع الحراك في الشارع، بشرط ان تكون مختلفة عن خطتهم السابقة غير الموفقة لملء الشغور الرئاسي قبل ذلك. يضاف ان القوى نفسها التي مددت للمجلس النيابي كانت ضربت بعرض الحائط احتجاج رئيس الجمهورية السابق ميشال سليمان على هذا التمديد الذاتي، وعطلت دور المجلس الدستوري في اعتراض الأمر. فأياً كانت نسبة التشوش في شعارات الشباب المنتفض، فإن حجم الاهتراء في النخب السياسية المتسيدة أكبر بكثير. هذه العشرية كانت فعالة جداً لايضاح هذا الاهتراء. وما بين شباب 14 اذار 2005 المنتفض وشباب آب وايلول 2015 لسنا أمام جيلين، واحد «14 اذاري» والثاني «ما بعد آذاري». فالعشرية المنصرمة كانت شاهداً على تعطّل، أو بالأحرى تباطؤ، تداول الأجيال نفسه، وفي ذلك كبير فرق.
مرحلة ما بعد الحرب في لبنان هي إلى حد كبير معجونة بهذا التباطؤ، قياساً على سكرات حرب أهلية حيوية لجهة تأمين هذا التداول سياسياً وثقافياً، ولو بكلفة دموية وتهديمية عالية، هذا في مقابل تباطؤ تداول أجيال ملحوظ في لبنان المستقل ما قبل الحرب حيث كان التماهي كبيراً بين الحذر من تداول الأجيال وبين الحذر من تداول الطوائف، علماً أنّه حذر يوجد تعبيرات عنه اليوم أيضاً.
لم يؤد الحراك الشبابي الطليعي في انتفاضة استقلال 2005 إلى تبديل نسبة تذكر للنخب البرلمانية والسياسية، على العكس تماماً. سردية «انتفاضة الاستقلال» جنحت باكراً نحو تأبيد نخب «الجمهورية الثانية» نفسها واعتبارها بمثابة العنصر البشري «المقدام من بعد جبن» الذي يفترض ان يكون ملازماً لاتفاق الطائف الذي يفترض بدوره ان يطبق من بعد هجر، والذي لم يطبق كما يجب – أي لم يطبق أبداً – وفقاً لمنزلقات السردية الكاريكاتورية. بالتوازي، لعبت الحرب السرية الإرهابية المتمثلة باغتيالات متسلسلة ضد الشخصيات المناوئة للوصاية السورية وحلف الممانعة خاصته دوراً كبيراً في اضفاء مسحة من القربانية والمارتيرولوجيا والبطولية على طبقة سياسية لم يكن تظهر عليها لسنوات طويلة شجاعة القول أو العمل بالضد من هذه الوصاية السورية، بل العكس في معظم الأحيان. هذا القسم من الطبقة السياسية الذي تبنى خيارات مناوئة للوصاية تصاعدياً ما بين بدء التحريك السيادي انطلاقاً من بيان مجلس المطارنة الموارنة في ايلول 2000 سيظهر شجاعة مكلفة دموياً له، ومبيّضة إلى حد معين لمساره السابق، وسيلعب ذلك دوراً في التمديد الوظيفي لهذه النخب البرلمانية والسياسية لسنوات. باستثناء حالة النائب عقاب صقر، المنفصلة أساساً عن حالة الكوادر الشبابية الانتفاضية في شتاء وربيع 2005، لن تطعّم الصيغ القيادية الآذارية، ولا النخب البرلمانية الآذارية بكوادر أبدت مهارة في العمل الميداني أو في الانخراط الثقافي ضمن المعركة الاستقلالية. بقي حضور هؤلاء ثانوياً ورمزياً، وفولكلورياً مهرجانياً كمثل يوم قررت قوى 14 اذار في واحدة من احتفالاتها الاحيائية لذكرى انطلاقتها، الاستماع لكلام متفق عليه سلفاً، وعلى سقفه «المعاتب» لها، مع كوادر من شبابها قامت هي باختيارهم، في واحدة من وجوه «ديمقراطية الكاستينغ» التي استأصلت وهج التحريك السياديّ وأفرغته من حيويته وحولته إلى مادة تبرير لأي شيء، أو مادة مضجرة طلباً لاستنهاض الجموع بأن «هبوا مجدداً، في نوبات شعرية بلا مخيلة.
واستطراداً، اليساريون السياديون الذين قرروا عام 2005 الطلاق نهائياً مع الفرع الآخر من اليسار اللبناني، ذلك الذي زادت درجة انحيازه إلى «حزب الله» والنظام السوري سنة وراء أخرى، لم يتمكنوا من تشكيل «جناح يساري» لقوى 14 آذار، بل لم يطرحوا ذلك على أنفسهم، بل وجدوا «ذواتهم» تتفرّق بين مصائر مختلفة. صحيح ان اللون اليميني كان طاغياً على حركة الاستقلال الثاني كما طرحت نفسها منذ البدء، لكنه تعاظم أكثر فأكثر، و»يسار الاستقلال» اندثر بشكل سريع، ولو أنه ساهم بحصتين من المارتيرولوجيا الاستقلالية، مع الشهيدين سمير قصير وجورج حاوي. أما المثقفون المناوئون لخط النظام السوري و»حزب الله»، وقد لعب «ملحق النهار» دوراً مهما في معركتهم، في وقت سابق، فإن علاقة «14 آذار الرسمية» معهم كانت استيعابية لبعضهم، وباردة تجاه البعض الآخر، وارتفعت حدة نقديتهم أكثر فأكثر ضد قيادات 14 آذار، ولم تكن لتخفت موسمياً إلا بسبب عنفية «حزب الله» في 7 ايار، ثم دموية النظام السوري ضد الشعب المنتفض، فضلاً عن جرائم الاغتيال التي ظلت تستهدف المحسوبين على القوى الاستقلالية، كمثل اللواء وسام الحسن والوزير محمد شطح، آخر من جرت تصفيته من الشخصيات الآذارية.
هذا المنظار الضيق في التعاطي مع المثقفين، وذاك المنظار الطقوسي البحت عند التعاطي مع الكوادر الشبابية، إلا طبعاً من اختار التحنط حياً من المثقفين والكوادر، أدّى في هذه العشرية إلى اهتراء فظيع في «14 آذار» الرسمية، وهو ما ظهر أكثر مع عدم وضوح أي موعد ممكن لحسم الصراع التناحري الدائرة رحاه في سوريا، والذي راهن كثير من الاستقلاليين اللبنانيين على سرعته، عساه يكون فاتحة لاعادة وزن الأمور في الداخل اللبناني لاحقاً. في نهاية العشرية، برز تحريك شبابي من نوع آخر، وعلى خلفية الاستهتار الحكومي في مسألة النفايات، ومهما حاول اهل هذا الحراك القول بأنهم ضد كل من 8 و14 آذار، وبأنهم مع تجاوز هذه الثنائية، بل ان «النظام» الذي ينددون به هو وفقاً لترسيمتهم «نظام الآذارَين»، إلا انه يمكن الافتراض بأنّ خصومة هؤلاء هي مع العناوين الاقتصادية الاجتماعية لفريق 14 آذار بالدرجة الأولى، ومع منطق 14 آذار نفسه الذي يقول بأنه لا يمكن حل أي كبيرة وصغيرة في هذا البلد قبل حل مشكلة سلاح «حزب الله»، مع الهمس الآذاري في الوقت نفسه بأنها مشكلة بلا حل، وينبغي فقط الاكتفاء بتفسير لماذا هي عقبة كأداء دون انجاز أي شيء في مواجهته، كي لا نقع في التطرف، وكل هذا «بلا كيف»، أي، دون طرح الاسئلة العملية عن كيفية تجاوز هذه العقبة الكأداء خارج اطار التنديد المتواصل بها ليلاً نهاراً والائتلاف الحكومي معها، بل والتنسيق الأمني.
مشكلة الحراك المدني الانتفاضي مع «حزب الله» وقوى الممانعة هي من نوع آخر مهما قيل. فهناك حساسيتان ضمن هذا الحراك، واحدة لا تزال تنظر إلى «حزب الله» كتراث مقاوم وعمق شعبي في نهاية التحليل، ولا يجوز المماثلة بينه وبين القوى الأخرى، إلا بشكل جزئي، وثانية لا تزال تنظر إلى الثورة السورية كقضية عادلة في مواجهة نظام دموي، بل ان بعض من في الحراك يتأثر بهذه النظرة وتلك في وقت واحد.
مشكلة الحراك المدني الشعبي مع 14 آذار أنها تنهار وثمة نخب شبابية ومدنية واعية إلى انها لا تريد ان تدفع هي ثمن هذا الانهيار من صحتها وسلامتها، بل ان تغتنمها فرصة لما تسميه «اسقاط النظام»، أي أقلّه تحريك المياه الرائدة في البلد منذ سنوات. أما مشكلتها مع «حزب الله» وربعه فمختلفة: هو يريد سلفاً ضبطها بايقاعه، والا قمعها من داخلها، كما كانت سياسته من قبل، بالتحالف مع اخصامه في السياسة ضد حراك «هيئة التنسيق النقابية»، وهي لا تطرح حتى الآن ما من مصلحتها طرحه، من تجاوز بالفعل لثنائية 8 و14، وليس بالتنديد بـ»كلن يعني كلن» على ما يقوله الشعار الآن لدى بعض جماعات الحراك، وهذا التجاوز يقتضي وراثة «14 اذار» نفسها، وخصوصاً التفاوض مع «حزب الله» من موقع الحراك الانتفاضي ضد سياسات الاخفاق والاستهتار الحكومية، ومن موقع الرغبة في ايجاد صيغة اكثر عدالة للتعاقد بين اللبنانيين، بدلاً مما هو قائم، ومن موقع الرغبة في ايجاد حل جذري وشامل لأزمة الانقسام اللبناني بما فيها الانقسام حول مشكلة السلاح الفئوي التغلبي وحول جرائم الاغتيال المتسلسلة، ولأزمة تداخل هذا الانقسام اللبناني، حربياً، مع الانقسام المجتمعي التناحري السوري.
فارق أساسي بين 2005 و2015 انه في أيام «انتفاضة الاستقلال» كانت القومة الشعبية ضد الوصاية السورية وضد اغتيالات اتهم بها «محور الممانعة» طالت شخصيات من الطبقة السياسية، وكانت سمعة الكلام ضد الفساد في ذلك العام سيئة، لأنّ اللافسادية وقتها كانت عدّة الخطاب والدعاية لدى الرئيس الممدد له قسراً، إميل لحود، وشبكة كبار الضباط اللبنانيين الآخرين المعاونين للوصاية السورية. لم تكن سمعة «اللافساد» فاسدة هكذا على الدوام، لدى الرأي العام في لبنان. ولدى الفئات الشبابية التي كانت تتحدّى حظر التظاهر في التسعينيات، كان التحريض أساسياً ضد «الفساد» إلى جانب الدفاع عن الحريات. لكن التجربة اللحودية في محاربة الفساد، وانفضاحها بشكل هزلي في أسابيع قليلة، وظهور الكيدية النافرة، وفشلها رغم ذلك في تحصيل شيء ما قضائياً، رغم قبضتها الأمنية على البلد والمؤسسات، وترافق كل ذلك مع كساد اقتصاديّ، أدّى إلى ردّة فعل شعبية مناوئة لهذه الدعاية المضادة للفساد، وسرعان ما تماشى ذلك مع زيادة محورية المسألة السيادية، بمعنى انهاء الوصاية السورية وجلاء قواتها.
اليوم، عادت لمكافحة الفساد سمعة طيبة لدى الناس وبالأخص الشباب، وينبغي أخذ ذلك بالحسبان بشكل جدي، مع عدم اغفال سيرة «مكافحة الفساد» الفاسدة السمعة في فترات غير قليلة من الربع قرن الأخير. بشكل عام، كل مكافحة فساد ينظّر من خلالها لتعطيل دور الناس واستبداله بدور الأجهزة، وبتعظيم مفهوم «الدولة» ستكرّر بؤس اللحودية. ليس هذا حال مكافحة الفساد المتصلة باعادة تحريك عجلة تداول الأجيال، وانطلاق البحث عن عقد اجتماعيّ بين اللبنانيين، واعادة تأهيل الميثاق الوطني بينهم في ضوء هكذا عقد اجتماعي، فيما بينهم، كأفراد، كطبقات، كطوائف، كمناطق.
٭ كاتب لبناني
وسام سعادة