عشيرتنا المتوسّطيّة: التونسي الذي أسّس المسرح الروماني

منذ سنوات غير بعيدة، كان هناك احتفاء بثقافات المتوسّط؛ ورغبة في إعادة مدّ الجسور التي يمكن أن تمتدّ بين ضفّتيه.
وكنت مثل غيري، أحدس ذلك، بل ألمسه في مهرجانات وملتقيات غير قليلة تنعقد هنا أو هناك؛ في شمال المتوسّط أو جنوبه، في فرنسا وإيطاليا وإسبانيا، وتونس والمغرب والجزائر خاصّة، بل في البرتغال وهو بلد أطلسيّ، ولكنّ كتّابه وشعراءه وفنّانيه يقولون إنّ ثقافتهم ثقافة متوسّطيّة. كان ثمّة حلم ـ نخشى أن يكون قد بدأ يتحوّل إلى كابوس ـ يراود قليلا أو كثيرا منّا، كلّما تعلّق الأمر بالأدب تحديدا: ألا يمكن أن يكون هناك أدب متوسّطيّ؟ وإذا لم يكن، فما الذي يحول دون إيجاده؟ ولكن بأيّ أدوات، وعلى أيّ رهانات؟ بل هل مهّدت الآداب المتوسّطيّة قديمها وحديثها السبيل لبعث «متخيّل» متوسّطيّ يمكن أن يتولّد منه هذا الأدب المنشود في تأصّل وتفرّع؟
الأسئلة شائكة صعبة، والإجابة عنها أصعب. وقد يكون الأمر نوعا من مراودة المستحيل كما يقول فرنسوا كزافيي في مقدّمته للكتاب الجماعي «رحلة أدبيّة في المتوسّط» (بالفرنسيّة)؛ فهناك أفضية قد تجعل ـ بسبب من الجغرافيا والتاريخ ـ هذا الحلم بعيد المنال. وربّما أضيف إليها اليوم هذا «الصدام» الحضاري الذي تحاول طوائف منّا ومنهم أن تزجّ بنا فيه. وكان باسكال بونيفاس قد حذّر من خطورة طرح هنتنغتون «صدام الحضارات». ومع ذلك فإنّ إعادة قراءة تاريخ المتوسّط، توقفنا على أنّ هذا الماءَ المِلْحَ الذي يصل بين الضفّتين؛ هو شيء آخر غير سفر رحلات أوليس. إنّه باختصار المكان الذي يمكن أن نتعهّد فيه مستقبلنا جميعا، على نحو ما تعهّده تونسيّ لا أحد يذكره اليوم.. تونسيّ يدين له المسرح الروماني، بنشأته.
سمعت بـ«طيرنسيوس» الكاتب المسرحي من أصل تونسيّ بربري؛ أو «تيرنس» كما ينطقه الفرنسيّون، في منتصف الستينات من القرن الماضي؛ وأنا تلميذ بالثانويّة، من أستاذنا الفرنسي الراحل المسيو كلافيريا؛ كان يدرّسنا مسرح موليار، وأشار إلى أنّه في بعض مسرحيّاته تأثّر بكاتب تونسي قرطاجنّي هو طيرنسيوس المعروف بالأفريقي. ومن المعروف تاريخيّا أنّ اسم موريتانيا كان يُطلق على المغرب الاقصى، وتوميديا على الجزائر، وزوجيتان على تونس. وأفريقيا (أفريقيّة) تطلق على تونس وطرابلس. وهذا الاسم يوناني قبل أن يكون رومانيّا.. أمّا قارة أفريقيا فكان اسمها ليبيا.
كان التمثيل شائعا عند البربرالقدماء، خاصّة عهد يوبا الثاني في مدينة شرشال. ويرجّح الباحثون أنّ أصوله مصريّة؛ إذ هو في الأصل أناشيد ومشاهد، مدحًا للآلهة واستعطافا لها. ويذهب هؤلاء إلى أنّ البربر عرفوا الشعر الملحمي قبل الرومان، وهم الذين كتبوا في العصور الإسلاميّة ملاحم من أشهرها ملحمة «الصابي» بلغة تشلحيت، فيما لم يعرف الأدب العربي هذا الجنس الأدبي إلاّ حديثا.
ومن دون تنقيب في التاريخ، نشير إلى أنّ الرومان وهم شعب عسكريّ بالأساس مقارنة بالقرطاجنّيّين الذين كانوا شعبا تجاريّا فلاحيّا؛ كان لهم أثرهم في العلوم والأدب وشتى فنون المعمار وغيرها. على أنّ كبار المفكرين والكتّاب اللاتينيين يتحدّرون من أصل أفريقي مثل أوغوستينوس وفريانوس وكرتيليانوس، وصاحبنا طيرنسيوس، وهو من كبار الكتاب المسرحيّين الذين عرفتهم روما. وقد اُشتُهِرَ بـ»الأفريقي» نسبة إلى تونس[أفريقية] . هو عبد محرّر مثل كثير من كبار الكتّاب والفنّانين القدماء: الشاعر الساخر كايسليوس، والأساطيري فيدر (مؤلّف الحكايات الأسطوريّة)، والرواقي ايبيكتيت (نسبة إلى الرواق الذي كان يجتمع فيه مريدُو زينون. وهي فلسفة تقول بأنّ كلّ شيء في الطبيعة يقع بالعقل الكلّي، ويقبل مفاعيل القدر طوعا).
وطيرنسيوس هو صاحب المقولة التي اُشتُهِرتْ أكثر منه: «أنا انسان، ولا شيء ممّا هو انسانيّ؛ بغريب عنّي». ثمّ طوى النسيان هذا الاسم، كما يطوي أشياء كثيرة لا تنتظم في سلك مشاغلنا ولا نحن نرصد لها أوقاتنا؛ حتى وقعت في يدي منذ أعوام قليلة، منشورات تونسيّة قديمة؛ من بينها مجلّة «العالم الأدبي» لزين العابدين السنوسي أبريل/نيسان 1930. وفي هذا العدد ثلاثة مقالات عن المسرح: واحد عن «طيرنسيوس»، وثانٍ عن «التمثيل التونسي على عهد الرومان» وثالث عن «عالم التمثيل» وهو مجموعة أخبار عن المسرح في تونس الثلاثينات. وها أنا أفسح لزين العابدين السنوسي، ليحدّثنا عن «طيرنسيوس كاتب قرطاجنّة الروائي» من دون أن أعلّق على حديثه، على ضرورة ذلك؛ فثمّة إشارات تحتاج إلى قدْر من التدقيق؛ استئناسا بما نعرفه عن «تيرنس» في المراجع الفرنسيّة.

* * *

«طيرنسيوس أكبر كاتب مسرحي نبغ في هذه الديار. هو بولس طيرنسيوس، ويلقّب بالأفريقي نسبة إلى مسقط رأسه. ولد في مدينة قرطاجنّة حوالي سنة 185 قبل الميلاد. كان أبوه عبدا بربريّا. وقد ورث عن أبيه شيئا من أخلاق البربر. كان معتدل القامة أسمر اللون طويل الوجه ذا ملامح لا تختلف في عمومها عن ملامح عامّة البربر. وكان ذكيّا ألمعيّا، حلو الشمائل عذب الحديث خفيف الروح لطيف الحسّ. انتقل إلى مدينة رومة منذ نعومة أظفاره. فاشتراه أحد رجالات الرومان السيناتور (طيرنسيوس لوقانوس) لِمَا توسّم فيه من الذكاء والألمعيّة، مع خفة الروح وجمال الصورة. وكانت العادة عند الرومان أنّ العبد يُسمّى باسم سيّده، فصار اسم صاحبنا طيرنسيوس بولس الأفريقي. وقد اعتنى به مولاه غاية الاعتناء، فربّاه أحسن تربية، وثقّف عقله بعامّة علوم ذلك العصر؛ من اللغة والنحو والخطابة والتاريخ والآداب، ثمّ لمّا كبر وظهر نبوغه، عتقهُ إكراما لعبقريّته. كان طيرنسيوس قد أتقن اللغة اليونانيّة، إذ كان من عادة أدباء ذلك العصر أن يجيدوا لسان الإغريق لِما فيه من آيات البلاغة والفلسفة العميقة. وقد أولع المجتمع الروماني بآداب اليونانيّين ولعا كبيرا؛ حتى كان من أمر الخاصّة أن يتخذوا لهم النوادي ليجالسوا فيها الأدباء، ويتجاذبوا معهم أطراف الحديث، في مواضع الأدب اللاتيني أو الأغريقي.
وقد اشتُهِر في جملة ما اُشتُهِر من هذه المحافل (نادي شبيون) في القرن الثاني قبل الميلاد. كان يجتمع فيه رجال السياسة وأصحاب الفنون والأذواق والملَكات. وكان طيرنسيوس في جملة من يختلف إلى ذلك النادي حتى فاق فيه معاصريه ومجالسيه. فقرّبه شبيون وجعله من خاصته. فعاشر رفقة طيّبة من نبغاء أصحاب القرائح بمدينة رومة، ممّا كان له أثره في تكوينه وتفوّقه.
ذهب طيرنسيوس إلى مدينة أثينة عاصمة اليونان وكعبة روّاد البلاغة ومحبّي الفلسفة. فأقام بها ما أقام وزار البلاد وشاهد وتعلّم. ثمّ أقبل على مصنّفات مينادر ينقلها إلى اللاتينيّة، فنقل منها زهاء المئة.(كاتب مضحك يوناني ولد في أثينا سنة 340 ق.م. وتوفي سنة 292. وكان ابيقوريّا غنيا قد ألّف أكثر من مئة رواية مضحكة)؛ لكنّه «طيرنسيوس» لمّا امتطى متن السفينة، عند أوبته؛ غرقت السفينة فضاعت كتبه المنقولة وما طال به مرض الحسرة حتى مات أسفا عليها ومأسوفا عليه سنة 159 قبل.م خلّف لنا طيرنسيوس من المؤلفات ست روايات مضحكة:

■ (اندريه) وهي مسرحية مستنبطة من بعض روايات ميناندر وقد مثّلت سنة 166. كان الأثيني بمفيل يحبّ الأمَة كليسير. فمانع أبوه سيمون في زواجهما لأنه يريد أن يزوّج ابنه من فيلومينة وهي أثينيّة وجيهة وعنيدة. وأخيرا وجدت الأمَة أباها فكان هو غين أب تلك الاثينيّة؛ فتزوّج بمفيل محبوبته.
■ (هيسير أو الحَماة) مثّلت سنة 166 ق.م
■ (المعاقب نفسه) وهي مسرحية تمثّل إنسانا يعاقب نفسه لأنه تعصّب في تربية ولده حتى نفاه إلى آسيا
■ (اونوخوس أو الخصي). وهي مستنبطة من بعض روايات ميناندر. وقد نجحت نجاحا عظيما
■ (فورميو أو المحتال). وهي تمثّل تدخّل الداهية المحتال بين المتحابّين وإفساده الأشياء، لجلب المصالح على نفسه. وقد اقتبس منها موليار روايته»حيل اسكابين»
■ (اذلفة أو الأخوان) وهي تمثّل أخوين أحدهما اشين ربّاه عمّه تربية دلال وتسامح. وثانيهما كتيزفون ربّاه أبوه تربية عنف وشدّة. والمؤلّف يُؤثِر تربية الدلال. وقد اقتبس موليير من هذه القطعة روايته» مدرسة الأزواج».
نبغ طيرنسيوس نبوغا خاصّا في وصف الطبائع وبيان الأخلاق وتصوير العواطف. فإنّك لتجده يصوّر لك أبطال روايته من الحشم والإماء والآباء والطفيليّين تصويرا حقيقيّا بجميع الألوان اللطيفة والأشكال الدقيقة الطبيعيّة.
فهو أوّلا له براعة ممتازة في سبك ما أخذ في قالب خاصّ يجعل لمسبوكاته صنعة شخصيّة، ثمّ هو ثانيا لم يخلُ من كلّ ابتكار مصدره محض اشتراعه «من اشترع الشريعة: سنّها». لذلك نرى هذا الرجل قد اُشتُهِر شهرة كبيرة عند بني جنسه. فذكره الخطيب شيشرون وأثنى عليه. وفسّر مصنّفاته غير واحد من الكتّاب اللاتينيّين. وكان الاوروبيّون يطالعون آثاره في القرون الوسطى. وقد أعجب به الفرنسيّون إعجابا كبيرا في القرنين السابع عشر والثامن عشر؛ حتى أنّ الكاتب فينلون كان يراه أعظم من موليار؛ وناهيك بها من شهادة… مع أنّ تونس والتونسيّين يجهلون آثاره».

كاتب تونسي

منصف الوهايبي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول مصطفى المهدوي تونس:

    د. منصف الوهايبي يفاجئنا بمثل هذه الاكتشافات. كم نجهل إسهاماتنا في الحضارة العالمية. شكرا للقدس العربي

إشترك في قائمتنا البريدية