عصر الشعبويّة

هل الشعبويّة صفة فرديّة أم هل هي صفة عصر؟
إذا كانت الشعبويّة صفة أفراد، فإنّ الفرديّة ممّا يتعذّر وصفها أو تصويرها؛ وإنّما نحن نحسّها ونستشعرها. ويصدق هذا على كلّ الشخصيّات الكبيرة سواء في عالم السياسة أو في عالم الأدب، كما يقول الفيلسوف الألماني ولهام ولدنباند (1848 ـ1915). وقد يتسنّى أن نحسّ بظلال فرديّتهم، وأن نفهم مختلف العناصر التي تضافرت في صياغة طبائعهم، من منظور تاريخي نستطيع أن نباشره عقليّا؛ ولكنّ جوهر فرديّتهم يظلّ كما يقول، وقفا على «وحدة» يتعذّر أن نعبّر عنها باللفظ، أو أن نجعل منها موضوع تأمّل وبحث، لأنّها «تلمح بالبداهة وتدرك بالبصيرة الواعية». فلا هي بالأرض الموطّأة أو التجارب العلميّة التي يثبتها التكرار. ذلك أنّ الفرديّة قد لا تكون أكثر من وعي الفرد بنفسه كيانا انسانيّا خاصّا وهو يصدر عن أصول اجتماعيّة تضفي على الفرديّة بعدا موضوعيّا، أو هي هذه الذات التي تمثل كيانا اجتماعيّا وسيكولوجيّا وهويّة وتاريخا مرتبطا بالمكان وبهيئة العصر الاجتماعيّة أو شكله. ومن ثمّة قد يكون مردّ الفرق بين عصر وآخر، إلى هذه الفرديّة والسمة الغالبة عليها أو الدرجة التي تظهر فيها؛ وتكون الشعبويّة محصّلة منظومة من الاحتمالات مادامت الفرديّة هي العنصر الوحيد الثابت في كلّ عصر؛ أو هي جماع العلاقات الناشبة بين سمات هذه الفرديّة أو تلك من جهة ونظام العصر من جهة أخرى بتحوّلاته الكميّة النوعيّة. أي هي محصول مثل السكّر والزاج.
أمّا إذا كانت الشعبويّة صفة عصر، فهذا يقتضي الإقرار بأنّ العصر بناء محدّد أو هو قائم بنفسه، أو أنّ له سمات وملامح مدارها على عنصر مركزيّ فيه هو نواته أو محرّكه. وهي ملامح تسم لحظة تاريخيّة بعينها، ثمّ تستقرّ وكأنّها حقائق أو مسلّمات في وجدان الناس وعقولهم.
الشعبويّة شعبويّات، ولا يخلو عصر منها سواء سادت فيه قوانين العقل، أو تجلّت فيه الروح الدينيّة أو الاحتكام إلى الوجدان والانفعال.
أمّا أذا تتبّعنا الموضوع تاريخيّا، آخذين بالاعتبار ما نسمّيه في البحث العلمي «حوافّ المسألة» أو جوانبها، فيمكن القول إنّ الشعبويّة واضحة بقدر ما هي غامضة بالنسبة لمستخدميها. فهي في الأصل حركة سياسيّة روسيّة ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر؛ وكانت تخوض صراعا ضدّ القيصريّة، مستندة إلى الشعب؛ وهي تعده بتغيير الوحدات الزراعيّة التقليديّة وإصلاحها. ولكنّ الشعبويّة من منظور أعمّ ايديولوجيا أو موقف تتّخذه حركة سياسيّة تقول إنّها تتعلّق بالشعب أو تفوّض الأمر إليه، وتثير حميّته ضدّ «النخبة» أي الحكّام وأصحاب الأمر أو ذوي الامتياز من الموسرين، أو مقابل كلّ أقليّة أنانيّة استولت في عرف هذه الحركة على السلطة واستأثرت بها وبمكاسبها دون الأغلبيّة. ولهذا يرى الشعبويّون أنّ الديمقراطيّة التمثيليّة تخلف وعودها ما أن يتسنّم أصحابها السلطة، ويعدون الشعب بديمقراطيّة مباشرة تعيد السلطة إليه.
على أنّ للشعبويّة خصومها من رجال السياسة الذين ينتقصونها ويضفون عليها كلّ الصفات المحقّرة الحاطّة؛ ويعتبرونها دهماويّة أو غوغائيّة تتملّق الشعب لإثارته وتهييجه، بوعود انتخابيّة خياليّة، أو هي تصانعه وتدغدغ حواسّه وغرائزه؛ مثل إثارة نعرته القوميّة أو تهييج رهاب الأجانب ومشاعر الكراهيّة والريبة والعنصريّة لديه، وتحويل الأمن إلى هاجس شعبيّ عامّ وجعله في صدارة المشاغل؛ على نحو ما يفعل الرئيس الأمريكي وحكّام ايطاليا الجدد وأقصى اليمين الفرنسي مثل الجبهة القوميّة التي يصنّفها البعض حركة شعبويّة بل فاشيّة أو بوجاديّة (نسبة إلى الحركة السياسيّة التي أطلقها بوجاد دفاعا عن التجّار والحرفيّين). وهو ما وظّفه هؤلاء في سياستهم الانتخابويّة الانتهازيّة.
إنّ هذه الشعبويّات تثير من الأسئلة، أكثر ممّا تجترح من الأجوبة. فما هي الحدود الفاصلة بين شعبويّة وأخرى؟ بل أليس في هذا الاستعمال المتعدّد ما يؤكّد أنّ هذا مفهوم لا يمضي أبدا على ثبات وديمومة واطّراد، وأنّه يغيّر ما بنفسه توسيعا أو تقييدا أو تحويلا؟
وإذا كنّا نسوّغ الرأي في أنّ قليلا أو كثيرا منها ينمّ على إفادة من المخزون الثقافي والذاكرة الشعبيّة الجمعيّة، وقدرة على التصرّف بالمفردات والمعاني على نحو ما نجد في الشعبويّة الروائيّة من حيث هي نظريّة الروائيّين الشعبيّين الذين يزعمون أنّهم يصوّرون بواقعيّة حياة عامّة الشعب، أو عند بعض المنشّطين التلفزيونيّين؛ فليس من شأن ذلك أن يسوق إلى التسليم بهذه «الواقعيّة»، ذلك أنّ العامّيّ ليس قرين الواقعيّ دائما.
من ذلك مثلا المفردات الفاحشة أو غير اللائقة أخلاقيّا أو تلك الموقوفة على التّخاطب الخاصّ الحميم التي يديرها الشعبويّون ساسة وكتّابا ومنشّطين على ألسنتهم أو في نصوصهم وتصريحاتهم؛ لا تنمّ على همّ واقعي أو على وقائع محسوسة مألوفة؛ بقدر ما تجلو رغبة هؤلاء في واقعيّة انفعاليّة أشدّ، أو حشد الجمهور أو جلب انتباهه. ولغة الشعبويّين هي عند جلّهم أبعد ما تكون عن «الصفويّة»، إذ لا يتردّد الشعبويّ في استجلاب القاصي والدّاني من الكلام، كأنْ يستعمل كلمة مألوفة وكلمة شعبيّة وكلمة مستهجنة قاصدا متقصّدا.
ونحن وإن كنّا لا ننازع في أنّ كثيرا أو قليلا من مشتملات هذه الشعبويّات وموضوعاتها مستمدّ إلى حدّ كبير من البيئة الاجتماعية، فإنّ تأثير البيئة في تقديرنا، لا يبلغ من أصحابها أبعد من هذا المدى، ولا نخاله يصلح لتفسير هذا «التّهجين» اللغوي أو المعجمي الذي يتوخّونه بنسبة أو بأخرى. إنّما هي صيغ قادحها قدرة على الإيهام بالتصديق والحمل عليه أو إقامة أمثلة الأشياء مقام الأشياء نفسها، ومصدرها ما نسمّيه «كلمات القبيلة» أو كلمات معظم الناس.
من المفيد إذًا أن نحكم التّمييز بين معجم شعبويّ «واقعيّ» و»نافع» أو «مفيد»؛ ولا نجعل هذا قرين ذاك، إذ نحن بهذا الصنيع نسلخ الكلمة من سياقها، ولا نتنبّه إلى أنّ دلالتها محكومة بـ«مقام التّلفّظ» أو «مقام القول». ونقصد بهذا أنّها محصّلة كلّ المؤشّرات التي تجعل من الخطاب الشعبوي فعلا لغويّا تؤدّيه ذات فرديّة تعيد استخدام اللّغة المشتركة حيث الكلمة لا تؤخذ مباشرة دون وسيط، وإنّما تتداولها الأيدي وتلوكها الألسنة قبل أن تنتظم في الكلام، فتضفي على الخطاب قيمة مثلما يمكن أن تسلبه إيّاها.
ومن هذا الجانب، يمكن أن نتكلّم على صلة ما بين هذا المعجم والواقع، ذلك أنّ دلالة هذا المعجم عنصر من مسألة أعمّ تلامس نمط «التدلال» المخصوص باللّغة نفسها أو «الدلاليّة وهو المقابل العربي لـ«signifiance» الذائع في المغرب والجزائر. والمقابل التونسي «تدلال»، دون شوفينيّة أو تزمّت وطني؛ أنمّ وأدلّ على هذا النمط الذي يضرب بجذوره في سجال يقابل بين رؤيتين: اعتباطيّة اللّغة أو تواطؤيّتها من جهة، وتوقيفها أو تعليلها من جهة أخرى. والثانية إنّما تدلّ على تواصل ما بين اللغة والعالم ذي طبيعة يمكن نعتها بـ«التّماثليّة».
وتغريدات الرئيس الأمريكي، وينبغي أن لا ننسى أنّه كان منشّطا تلفزيونيّا؛ لا تستلهم الكلام المألوف فحسب، وإنّما الشعبيّ أيضا، وهو الذي يتمثّل بوضوح مستوى أدنى من اللّغة المحكيّة. وأكثر من ذلك فإنّ عناصر الكلام المألوف يمكن أن تجري في الكلام الشّعبي وليس العكس. و «الشّعبي» أقلّ صحّة وضبطا من «المألوف» إذ يجري عادة على ألسنة العوّام الذين لم يرزقوا حظّا وافرا من المعرفة. ومن ثمّة ينفذ الخطاب إليهم بكثير من اليسر.
بل هو خطاب يتّخذ أحيانا ميزة خاصّة مردّها إلى استعمال الكلمات «السّوقية» أو «البذيئة»؛ لأنّه موجّه إلى العوامّ، وهؤلاء على ما يقوله أهل الاختصاص يأنفون من التّعبير عن المشاعر النّزيهة (المترفّعة) ومن إظهارها؛ إذ يرون فيها علامة أنوثة وصبيانيّة، ويتّقون انفعالهم بأنواع من العنف والفحش يعتاضون بها عن شعور بالضّعف. والميزة الأسمى [لديهم] هي أن تكون فظّا، للنيل من الخصم أو الغضّ من شأنه. ومن ثمّة لا غرابة عند الشعبويّين أن تطّرد الكلمات «الشّعبية» أو» السّوقيّة» الجارية على ألسنة الناس حتى لو انحدرت إلى التكلّف والحذلقة والسّماجة.
لعلّ الأرجح ونحن نعيش عصر شكّ واضطراب يحتدم فيه الصراع بين الأقوياء، وبعضهم تذهب به الشعبويّة أبعد المذاهب، وتوفي على منتهى الكبرياء والتفنّج، والاستخفاف بالضعفاء الذين يستظلّون بلوائهم؛ أن نقول إنّ الشعبويّة ايديولوجيا مثلما هي حركة سياسيّة كما ذكرتُ، تعلي من شأن «الشعب» بالدعاية والإغراءات. على أنّ الشعب الذي تخاطبه هو نفسه مفهوم فضفاض، فقد يكون أغلبيّة وقد يكون أقلّية؛ بل قد يكون «مُتخيّلا»، والشعبويّة تجعل منه «الطيّب» و»السويّ» و»المخدوع»؛ وهي تثير ارتيابه في النخب سواء أكانوا أفرادا أم متحزّبين، وفي نظام مختف متآمر على مصالح الشعب، أو في دول وهيئات وشركات ومنظّمات متنفّذة. ولذلك يكون خطاب الشعبوي «وُطانيّا» (نوستالجيّا)، ويكون هو «القاضي» و»الخصم» و»الحكم».

كاتب تونسي

11RAI

عصر الشعبويّة

منصف الوهايبي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية