تشهد نظرية المعرفة والأدب، عبر تاريخها المُتحول والمُتطور، كما يعرف تاريخ الأفكار، وهو يبحث في تاريخ الفكر البشري، من حيث الثبات والتحول، تميز أسماء فكرية، يُصبح تجاوز استحضارها في عملية الفهم المعرفي والإدراك الفلسفي مسألة غير ممكنة، نظرا لكونها لم تقف عند مستوى إنتاج الأفكار، إنما استطاعت أن تنتج طريقة في التفكير، وتُوفر للتاريخ فكرا مُولَدا للأسئلة، ومُتجاوزا للحقل المعرفي الواحد، والحاجة إلى استحضارها لا تخص فقط محتوى خطابها، ومنطق تصورها، وهو شيء تفرضه الضرورة الفكرية والثقافية، وإنما القصد يتحقق أيضا من قدرة هذه الأسماء على إنتاج خطاب تصبح له القدرة-تاريخيا- على التعليم المنهجي بصياغة السؤال، وبناء الفكرة، وثقافة القراءة. ولهذا، تظل تلك الأسماء حاضرة بكل قوة في كل محطة فكرية، كما يظل خطابها مُولدا للأفكار والتصورات، وحقلا خصبا لاقتراح الأسئلة. كلما تطور الفكر البشري، وامتد منطقه عبر حقول جديدة، ومن خلال وسائط مختلفة، أثبتت تلك الأسماء قدرتها على مواصلة تدبير الفهم المعرفي، وعلى كونها لم تكن حالة ثقافية خاصة بتاريخ سياق معين، إنما أصالتها في قدرة خطابها على مواصلة الحياة، بدعم الفكر في تدبير أسئلته وإدراكه.
في الذكرى المئوية لميلاد رولان بارت، نستحضر هذا الصوت الفكري الذي أنتج خطابا معرفيا مُولَدا للأسئلة. كيف يمكن إعادة قراءة رولان بارت في الذكرى المئوية لميلاده؟ وكيف يتحقق الاقتراب من خطابه النقدي؟ وكيف يصبح المجيء إلى بارت بعد التحولات التي تشهدها خطابات وأبنية الكتابة والصورة؟ للاقتراب من هذه الأسئلة وغيرها، مع حلول الذكرى المئوية الأولى لميلاد الناقد الأدبي والسيميولوجي الفرنسي رولان بارت (12 نوفمبر/تشرين الثاني 1915-12 نوفمبر 2015) تُخصص «علامات»، المجلة الثقافية المحكمة المغربية، التي يُديرها الناقد والباحث المغربي سعيد بنكراد عددها الأخير 44/2015، لرولان بارت تحت عنوان «رولان بارت في الذكرى المئوية لميلاده». وقد شمل العدد مجموعة من المقالات والدراسات التي حاولت أن تُعيد قراءة بارت، من خلال إعادة ترتيب تصوره النقدي، ورؤيته المعرفية، وبناء خطابه الفكري الذي تميز به في الدرس النقدي المعرفي. وبهذا، فإن الذكرى المئوية لميلاد بارت، تحمل أكثر من علامة، بدءا من إعادة تركيب تصوراته الفكرية النقدية، من أجل تقريبها من القراء والأجيال الجديدة، إلى محاولة التأمل في طبيعة بناء المشروع الفكري. وقف الناقد سعيد بنكراد في مقالته «بعض من بارت… أبصر النور فتغيرت طريقتنا في الإبصار»، عند بارت باعتباره من المؤسسين الأوائل للسميولوجيا (السيميائيات عامة)، ومن الذين حددوا مسارات هذا التخصص العلمي باعتماد لسانيات بنيوية، مع توسيعه لدائرة هذا التخصص، وجعله شاملا لكل الأنساق الدالة، بدءا من اللفظ ومرورا بالفرجة الحياتية، وانتهاء بكل النصوص البصرية. تعود أهمية رولان بارت في تصوره البنائي للمعنى داخل النص، إلى قدرته المعرفية على فك التناقض بين الأحكام النظرية الجاهزة والقدرة على تركيب المعنى من داخل النص.
أعطى بارت للقراءة قيمة معرفية ومنهجية يكبر النص فيها وبها، وتجلى ذلك في مقالته حول «موت المؤلف» (1968)، التي منحت موقعا جديدا للقارئ الذي يعيد كتابة النص، وستعرف المقالة اهتماما بالغا من طرف القراء والنقاد والطلبة، خاصة أنها اقترحت شكلا جديدا في قراءة العمل الأدبي، بعد أن ظل المنهج التاريخي المهتم بالمؤلف يهيمن على الدراسة النقدية، وبقي معه القارئ خارج الاهتمام. لذا يرى بارت في كتابه «س/ز» أن تعددية المعنى «هي التي تجعل كتابته لاحقة لفعل القراءة ذاتها… فالأنا التي تأتي إلى النص هي ذاتها مزيج من النصوص». ويدخل هذا التوصيف للمعنى – كما يرى الناقد سعيد بنكراد- ضمن ما يسميه بارت بالتدليل، الذي ليس هو الدلالة التي تشير إلى حالة التطابق بين اللفظ والدلالات القريبة في الذاكرة، أما التدليل فهو نظام للمعنى، ولهذا كان بارت يُحارب سلطة اللغة، باعتبارها بؤرة التمثيل المباشر للتصورات الجاهزة، والأحكام العنصرية والاجتماعية، وخزانا لخطابات الأمر والنهي والتوسل والاستجداء، ومن خلالها يتحقق الانتماء، ويعتبر الأدب أهم منفذ لمحاربة اللغة من داخلها عبر الاستعمالات الاستعارية.
يركز الباحث بنكراد في مقالته على العنصر الخلاق لتوليد المعنى، والمنتج للمتعة، من خلال مفهوم الانزياح الذي يحقق الانفلات من التعيينات التقريرية المباشرة والجاهزة. وفي مقالته «المغامرة السيميائية عند رولان بارت» يقف الباحث محمد البكري عند مراحل المغامرة السيميائية لدى بارت، وهي مرحلة استكشاف اللغة والدراسة النقدية للكتابة الأدبية البرجوازية، «درجة الصفر 1953» ثم مواجهة الخطابات الخرافية الغربية بدراستها ونقدها، ودراسة عمليات إنتاجها للمعنى، وذلك بطرق سيميائية. ومرحلة ثانية تمثلت في إرادة بناء العلم، وتحققت بكتابين أساسيين في تاريخ تكون السيميائيات، وهما «مبادئ السيميائيات»، والمترجم بعنوان» مبادئ علم الأدلة». وكتاب» نظام الأزياء» أو «نظام الموضة» (1967). بهذين الكتابين تجاوز رولان بارت مرحلة التأسيس للسميائيات، وجعلته يرتاد أفاقا جديدة. أما الباحث جعفر عاقل، فقد أضاء في مقالته «في الحاجة إلى رولان بارت»، مجموعة من الملاحظات الخاصة بالعلاقة التي أسسها رولان بارت مع المغرب، من خلال وسيط الصورة الفوتوغرافية. فقد شكلت زيارات بارت للمغرب، وإقامته القصيرة في الرباط فرصة للإعجاب بالمغرب وبألوانه وروائحه، وباليومي المغربي البسيط، وحفزه ذلك على تجريب أسلوب جديد في الكتابة، واستعمال أسناد مختلفة، وإبداع أشكال تعبيرية جديدة تمزج بين النص البصري والمكتوب، إلى جانب الاهتمام بالصورة الفوتوغرافية، التي سترافق بارت في رحلاته للمغرب بتوظيفات واستعمالات متعددة وجديدة. كما تقترح «علامات» الاقتراب من رولان بارت، عبر قاموسه البصري مع الباحث كمال عبد الرحيم، إضافة إلى ترجمة بعض نصوص بارت حول «بلاغة الصورة» و»النظرة». تستحضر علامات رثاء تودوروف لبارت، من خلال ترجمة أحمد الفوحي لنص بارت الأخير، وهو المقال الذي شارك به تودوروف زملاءه في رثاء رولان بارت، ونُشر في عدد 47 من سنة 1981 من مجلة «الشعرية/ البويتيك». يقف تودوروف في رثائه عند العلامات المميزة لشخصية رولان بارت، التي جعلت تعويضه إمكانية مستحيلة. من بين هذه العلامات، استطاع بارت إحداث مباينة عن كل خطابات الأستاذية التي كانت متداولة، بخلخلته الأستاذية المرتبطة بالخطاب. ولهذا، فقد تعرض – كما يقول تودوروف- لحملات وهجمات لكونه كان خارج المألوف في شكل الخطابات التي ينتجها، ونظام النص الذي يكتبه، كما لم يكن مُقيدا بحقل معرفي واحد، يسمح بتصنيفه العلمي والمعرفي ضمن خطابات مألوفة. لقد استطاع بارت – يرى تودوروف- أن يهدد خطاب الأستاذية بإنتاج خطاب أصيل غير مسبوق. معتمدا في ذلك على الخيال. لذا، جاءت كتاباته وخطاباته ونصوصه لا تشبه غيرها، خارج المتعارف عليه في منطق الأشكال والخطابات والنصوص، يمكن اعتبارها خطابات إبداعية، تشتغل بالفكر والعقل والخيال دفعة واحدة. ولهذا، ستظل كتاباته مفتوحة على المستقبل، ومُدعمة لنشاط القراءة، ومُحرضة على خلخلة الرأي الذي يعتبر الثقافة هي الطبيعة، والطبيعة بمثابة قوانين جنائية، كتابات بارت لا تعرض أفكارا، إنما هي – على حد تعبير تودوروف- إشارات لفظية، فعل كتابي، تحصلت قيمتها من كونها إنتاجا لصاحبها/ رولان بارت. تحقق مجلة «علامات» باحتفائها بالذكرى المئوية لميلاد بارت، قراءة – بمستويات مختلفة – لهذه الإشارات اللفظية، التي حقق من خلالها رولان بارت تميزه الإدراكي للنص والمعنى واللغة والصورة الفوتوغرافية والخرافة والأساطير والموضة، وغير ذلك من الخطابات التي جعلت حضوره ضرورة ثقافية، وحاجة علمية. ولأننا بتنا نعيش في زمن يهيمن فيه منطق الاستهلاك، على مستوى الحياة وموادها، والأفكار ومعانيها، والمفاهيم ودلالاتها، فإن الأفراد والمجتمعات أصبحوا يعيشون تحت رحمة منطق الاستهلاك، الذي يحولهم إلى ذوات مُرغمة على استقبال إرساليات دلالية، تُخفي قصدها الإيديولوجي، وفق صناعة محكمة لخطابات تمر عبر الصورة والخطاب والنص والأساطير والخرافات واللعب والموضة ومختلف أشكال الإعلام والإشهار والدعاية والإعلان والتسويق، فإن الحاجة إلى رؤية بارت وفكره، تُصبح ضرورة منهجية ومعرفية وتاريخية، من أجل تمثل سلطة اللغة وهي تُجبر الفرد على تمثل قراراتها وأوامرها ودلالاتها.
روائية وناقدة مغربية
زهور كرام