عما يمكن أن يكون جرى… تلك الليلة

حجم الخط
1

مثلما فعل ياسمينة خضرا (الكاتب والروائي الجزائري، رغم اتخاذه لنفسه إسما مؤنثّا) فعل كلّ منا في ما خصّ ذلك المشهد الأخير من حياة معمّر القذافي. بادئين من صورته تلك، التي ظهر فيها مهزوما مدّمى وواقعا في قبضة من سيردونه قتيلا بعد قليل، راح كلّ منا يؤلّف روايته الخاصّة عن حياة «العقيد القائد».
لم يكن يحتاج ذلك إلى أكثر من تذكّر لبعض ما كنا شاهدناه أو عرفناه منه، مضيفين إليه طبعا ذلك الفاصل الأخير الذي يبدأ من حيث أُوقفت الصورة، أقصد مستقبل القذافي الذي بقي له، المستقبل القليل المقتصر على ساعة أو ساعتين على الأكثر.
وها هو ياسمينة خضرا يكتب أنّ ذلك أقلّ من ساعة واحدة، لم يزد الوقت الذي أعقب ظهوره على التلفزيونات عن دقائق قليلة، إذ سريعا ما اخترقت الرصاصة صدره، ليموت وهو هناك، حيث شاهدناه جالسا تنهال عليها اللكمات واللعنات. كان سيوفّر على نفسه ذلك السقوط المذلّ في ما لو انتحر فعلا، مكملا اندفاعه نحو القذائف التي كانت تسقطها الطائرات على مخبئه هناك في سرت. لو لم يردّه وزير دفاعه أبو بكر يونس عن ذلك لكان، على الأقل، مات بطلا، متفوّقا في ذلك على صدام حسين، الذي أذلّه اختباؤه في ذلك القبو. ولم تغفل عن ذلك رواية خضرا، إذ أفردت مقاطع طويلة أقام القذافي فيها المقارنة بين نهايته ونهاية صدام. بدا له أن المقارنة هي لصالحه، إذ كان ما يزال منتظرا أن يصل إليه ابنه المعتصم ومعه خمسون مركبة تكفي لاختراق حواجز المسلّحين بين سرت وأبها التي كان أخلاها المسلّحون.
في تلك الليلة، الأخيرة كان القذافي محاطا بالقليلين من خلصائه. ثلاثة رجال أو أربعة وامرأة واحدة، ربما كانت الأقرب إليه من بين حارساته الشهيرات. كانت سمراء ضخمة وفي قامة رجل. وهي أطّلت مرّة واحدة على القذافي في غرفة اختبائه تلك لتعرض عليه، بين خدمات أخرى، مشاركته السرير. لكنه أبى، إذ أن الوقت ليس مناسبا لذلك. أما الآخرون فكانوا يائسين، حيث بدا منصور، وهو من كبار معاونيه، «جالسا القرفصاء، يد على الأرض والأخرى على جبينه، كمن سيتقيّأ أحشاءه»، وذلك في مشهد ظهوره الأول في الرواية.
في تلك الليلة حافظ هؤلاء على ولائهم التام لقائدهم، رغم يقينهم المطرد، ساعة بعد ساعة، أن الأمل بالنجاة يتضاءل. في مرّتين على الأقل خرج أبو بكر، ومثله منصور، عن لغة الإذعان التام في التكلّم مع القائد أو في تحمّل إهانته، بل إنّ منصور جعل يحاججه في ما يجب وما لا يجب. هنا لن تكفي السطوة لردع المتجرّئ، حيث التجبّر بات مفتقِدا القوة. في موقف مثل هذا يشعر الآمر بأن السقوط يبدأ من هنا، من قبل وصول المسلّحين الثائرين إليه.
وفي هذا السقوط المتسارع سيبدو تخريفا كل ما يقوله القذافي عن عظمته. «أنا معمّر القذافي، أنا الذي بواسطته يأتي الخلاص. لا أخشى الأعاصير ولا حالات التمرّد والعصيان. تلمّسوا قلبي إذن، تجدوه يضبط الحركة المحسوبة لتشتّت الخونة». بهذه الكلمات كان القذافي يحاول استرجاع اعتداده بنفسه وبقدرته، لكنه كان أيضا، رغما عنه ربما، يسعى إلى ربط حاضره بماضيه الأول. ها هو يتذكّر خاله الذي كان يصطحبه ولدا إلى الصحراء: «كنت آنذاك أصغر من أن أدرك ما كان يسعى إلى ترسيخه في ذهني، لكنني كنت أجد متعة في الإصغاء إليه». ثم هناك تلك الخيبة التي تلقاها بعد عودته، هو ابن القبيلة الفقيرة، ضابطا متخرّجا من لندن. رفضه والد حبيبته، المتعجرف الحديث النعمة، لضآلة نسبه. أما هو، الضابط، فلن يتأخّر انتقامه طالما أنه، وهو بعد في أواخر عشرينياته، حكم البلد كله بقبضة من حديد.
لقد أتيح له أن ينتقم، وأن يتذكّر، وأن يستعيد تلك الصورة لفان غوغ فقيرا مستأصلا أذنه بنفسه بسبب نقمته على فقره. ياسمينة خضرا جعل مثال فان غوغ حاضرا في الرواية كدافع للانتقام والثأر. بين ما خسره القذافي في ليلته الأخيرة تلك، ودائما بحسب الرواية، هو حضور نقمة فان غوغ فيه. لم يعد ذلك مثال الرسام الفقير حاضرا لينجده أو ليحرّضه على الأخذ بالثأر.
معمّر القذافي بطل تراجيدي في رواية ياسمينة خضرا. قسوته عائدة إلى بصيرته التي لولاها لبقي شعبه في تخلّفه. إنه يقودهم إلى التقدّم الذي لم يكونوا ليعرفوا له طريقا لولاه. لذلك يحقّ له أن يقتل من يشاء. ليس فقط الألف والمئتي معارض الذين أفناهم في مقتلة واحدة، بل يحقّ له أن يقتل نصف شعبه « من أجل أن يتمكّن النصف الآخر، الباقي، أن يعيش بكبرياء وكرامة»، بحسب ما تُجري الرواية على لسانه.
هو بطل تراجيدي رغم ذلك، وإلا لما كان ممكنا لما كتب عنه أن يكون رواية. الرواية وحدها تتيح العذر للقسوة، وللجريمة، وحتى للإبادة والقتل الجماعي. في الرواية يصير مرتكب الفظائع ضحية تكوينه الفردي، وما سبق من مراحل حياته. وقد يكون أيضا ضحيّة للفساد المركوز في طبائع البشر عموما، على نحو ما في الأساطير القديمة، بدءا من قايين وهابيل. ياسمينة خضرا، بجعله معمر القذافي بطلا مأساويا، فعل ما فعله شكسبير بماكبث، حين ردّ نزوعه للقتل المتسلسل إلى جشع البشر وحبّهم للسلطة، البشر عموما، وما يودي بالقتلة هو الخطأ الذي وضعه فيهم خالقهم.
رواية ياسمينة خضرا «ليلة الريّس الأخيرة» صدرت عن دار الساقي بترجمة أنطوان سركيس في189 صفحة، 2016.

٭ روائي لبناني

عما يمكن أن يكون جرى… تلك الليلة

حسن داوود

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول عبد الله الشيخ:

    من المؤسف أن تتحول الرواية إلى تقارير، ومن الموسف أكثر من ذلك أن لا يتوقف كاتب كياسمينة عن كتابات لا يمكن ان ترتفع إلى مستوى السرد الروائي، لكن لا بأس فنحن أمة الهبوط بامتياز

إشترك في قائمتنا البريدية