في كتابها «السينما العربية: التاريخ والهوية الثقافية»، 1998؛ تعمد فيولا شفيق، الناقدة والمخرجة السينمائية الألمانية ـ المصرية، إلى تصنيف السينمائيين العرب في سلسلة مقولات عريضة، لا تخلو من تعسّف مدرسي وأكاديمي (إذْ أنّ النصّ كان، في الأصل، أطروحة دكتوراه). وعلى سبيل المثال، تُدرج عمر أميرالاي (1944 ـ 2011)، السينمائي السوري الكبير الذي تمرّ ذكرى رحيله الخامسة هذه الأيام، ، في مقولة شاملة أولى هي «الواقعية»، وأخرى فرعية هي «وثائق الحياة اليومية». والأسلوبية الغالبة، هنا، هي أنّ «الواقعية التسجيلية» تتحقق من خلال استخدام ممثلين هواة، وتصوير البيئة والمحيط على نحو تكثيفي، ومن خلال شروط الحياة المتدهورة للطبقات الفقيرة. وضمن هذه المجموعة نجد عطيات الأبنودي وهاشم النحاس وأحمد راشد وخيري بشارة، من مصر؛ وجان شمعون، رندة الشهال، جوسلين صعب، وهيني سرور، من لبنان؛ ومي مصري وغالب شعث، من فلسطين. هؤلاء، تقول شفيق، تأثروا بحركات «السينما المباشرة» و»سينما الحقيقة» في الغرب، ومثّلوا «إيديولوجيات ليبرالية ويسارية خلال الستينيات»، من جهة أولى؛ كما استفادوا من إدخال تقنيات الـ16 ملم، من جهة ثانية.
والحال أنّ بعض العناصر التي تسوقها شفيق، إذْ تتوسل تأطير أسلوبية هذه المجموعة، تتوفر بالفعل في سينما أميرالاي؛ لكنها ليست تلك السمات الجوهرية، أو المفتاحية، الأبرز التي تختصر المعمار الأسلوبي الشاهق، والفريد المتفرد، الذي شيّده هذا السينمائي الكبير. لقد كان، بادئ ذي بدء، سينمائياً من عيار ثقيل حقاً، دائم الانخراط في القضايا الحارقة، ذات الإشكالية، الوطنية المحلية والإنسانية الكونية؛ ودائب الانهماك في صناعة وعي سينمائي توثيقي ونقدي، ينبثق أوّلاً من الإبداع في التسجيل، والذكاء في توظيف الدينامية التاريخية خلف ما يُوثّق ويُسجّل. ولقد جرّب على الدوام، ونوّع، في الأشكال والمضامين؛ وقارب السرد الروائي، وبعض التشكيل المسرحي، لأسباب درامية جوهرية وليس لاقتفاء إغواء سطحي؛ ولم تخل أعماله (كما يجدر بأيّ فنّ تعددي رفيع) من تحقيق الإجماع هنا، أو إثارة الخلاف هناك؛ دون تنازل عن حقوق الفنّ السينمائي الجمالية أوّلاً، ودون انزلاق إلى ابتذال السياسة اليومية، أو اللهاث خلف التسجيل العابر.
وبهذا المعنى فإنّ مقولة «الواقعية» لا تكفي لتوصيف سينما أميرالاي، ليس لأنها قاصرة عن الإحاطة بالقسط الأهمّ من سماته الأسلوبية، بل على وجه الدقة لأنها مقولة فضفاضة، ذات مدلول تعميمي واسع، يمكن أن يشتمل على مقاربات شتى، فوتوغرافية أو طبيعية أو ميكانيكية، لالتقاط «الواقع»؛ دون أن يكون الواقع الفعلي قد تمثّل جيداً حقاً، وبما يكفي، على نحو إنساني وشعوري وإبداعي وحيوي ونقدي؛ ودون أن تكون جمالياته الخاصة، اللصيقة به عضوياً، عامل إيصال أساسي في تمثيله. وفي السينما السورية تحديداً، حيث المؤسسة تابعة للدولة والكثير من أفلامها التسجيلية ليست سوى نشرات دعاوى للنظام، يسهل على المرء العثور على «واقعيات» من كلّ صنف ولون؛ لكنّ صلتها بالواقع الحقيقي، حتى ذاك الذي تزعم نقله بأمانة، ليست واهية فحسب، بل منعدمة أصلاً، لأنها شائهة وتشويهية، وزائفة وتزييفية.
وسينما أميرالاي هي تلك التي ابتدأت مع «الحياة اليومية في قرية سورية»، 1974، الشريط الذي كان ذروة مبكرة، وصاعقة؛ صحبة المسرحي السوري الكبير الراحل سعد الله ونوس، شريك أميرالاي في التنقيب عن الجذور الأصدق لحقائق الواقع؛ وكاميرا حازم بياعة وعبده حمزة، التي تكفلت بالتوغل في مواطن محتشدة بالتفاصيل والمعنى والدلالة، في غمرة جماليات قاسية وجارحة، بقدر ما هي جذابة طافحة بإيقاعات الأسود والأبيض. كذلك تولى السيناريو، البارع والذكيّ والمتقشف في آن معاً، إحداث الصدمات المتتالية طيّ المفارقات الساخرة الخشنة، واستثارة الذهول البسيط قبل استدراج حسّ الاستفزاز البالغ، على امتداد 80 دقيقة من مشهدية الحياة اليومية في قرية «المويلح»، على أطراف وادي الخابور، شمال شرق مدينة دير الزور. ورغم أنه كان من إنتاج المؤسسة العامة للسينما، فإنّ الشريط مُنع من العرض، ودشّن بذلك تلك الحال السوريالية التي تجعل قطاعاً حكومياً ينتج أشرطة ذات قيمة فنية وفكرية عالية، تلقى الترحاب في المهرجانات العربية والعالمية؛ ولكنه يبقيها حبيسة العلب في سوريا ذاتها، لأسباب سياسية ورقابية (المثال الكلاسيكي الأبرز يظلّ أسامة محمد، في «نجوم النهار» و»صندوق الدنيا»).
وتشديد هذه السطور على «الحياة اليومية في قرية سورية» مبعثه أنّ الشريط، في يقيني الشخصي، صنع أيضاً تلك النقلة الحاسمة الكبرى في السينما التسجيلية السورية، عموماً؛ وفي شطر منها ينهض، خصوصاً، على نقد جسور لسياسات السلطة وميادين انحطاطها الأكثر أذىً، وديماغوجية. وقد يصحّ القول إنّ الفيلم التسجيلي السوري كان في حال، قبل نقلة أميرالاي تلك؛ ثمّ صار بعدها في حال أخرى رسّخت سلسلة مقتضيات لحدود التوثيق الدنيا، كما شرعت سلسلة أخرى من ضرورات الانفتاح وكسر الحدود، أية حدود.
صبحي حديدي