يكاد يجمع العرب والمسلمون على أن فترة حكم الخليفة الخامس عمر بن عبد العزيز كانت، على قصرها، من أزهى فترات الحكم الإسلامي. هنا، وبدون الغرق في التاريخ الذي يمكن الرجوع إليه في كتبه ومظانه، نتساءل عن الفائدة التي يمكن أن نخرج بها، في قرن ما بعد الحداثة الذي نعيشه، من تجربة ذلك الخليفة الذي لم يأت في وقت نموذجي كما نتصور، بل جاء في زمن مليء بالتحديات والفتن والمؤامرات.
هذه النقطة مهمة، لأننا كثيراً ما ننظر لهذه الرموز على أساس أنها مخلوقات نورانية خلقها الله، سبحانه وتعالى، بمواصفات خارقة لا يمكن استعادتها ولا التشبه بها. لكن ذلك غير صحيح بدليل المشكلات التي واجهوها وبدليل ما اجتهدوا في تقديمه وما أصابوا فيه وأخطأوا. سأركز في هذا المقال القصير على ثلاث إضاءات يمكن الوقوف عندها عند المرور بسيرة الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز. أولها وأهمها هي أن التدين لا يتعارض مع ممارسة السياسة والاهتمام بها، حيث أن من حجج المؤمنين بضرورة فصل الدين عن الحياة العامة وخاصة السياسية، هي أنه يجب ألا يتلوث الصالحون والمتدينون بغبار المعارك السياسية، وأنه إذا كانت السياسة لعبة قذرة كما يصفها الغربيون فإنه لا يعقل أن تشمل متدينين حريصين على دينهم. ويستشهد أصحاب السياسة بعبارات من قبيل عبارة تشرشل الشهيرة التي يقول فيها، إنه لا يمكن، بحسب تصوره، أن يكون المرء صادقاً وسياسياً في الوقت نفسه.
لكن ما هو البديل إذا تم استبعاد أصحاب التقوى والدين والخوف من الله من مراكز صنع القرار؟ لا بديل سوى تصدّر أصحاب الأهواء وأعداء دين الأمة وثقافتها تحت ستار فصل الدين، والخوف على المتدينين من الغرق في وحل السياسة. النتيجة ستكون كما كانت في كل مكان حدث فيه ذلك «التحييد» للمتدينين: ممارسة سياسة بلا أخلاق ولا وازع وإطلاق حرب شعواء على التاريخ والتراث في سبيل التشبه بالآخر من جهة والتشبث بالحكم المرتبط بفوائد مادية ودنيوية منفصلة عن الحساب والعقاب والجزاء الأخروي من جهة أخرى.
من الأحاديث الصحيحة المهمة التي تربط بين الدنيا والآخرة قول النبي (ص): «ما من وال يلي رعية من المسلمين فيموت وهو غاش لهم إلا حرم الله عليه الجنة».
هكذا لا ينتهي الأمر بحسب هذا الحديث بانتهاء الفترة الانتخابية، أو التنحي أو الموت، لكن تلك الأكاذيب التي روج لها «الوالي» وأبواقه الإعلامية التي ستكتشف الشعوب حقيقتها عاجلاً أو آجلاً لا تنتهي بالتقادم، وإذا لم يستطع أولئك معاقبة هذا الوالي في حياته فسيكون ذلك من سوء حظه، لأن الله سيكون قد ادخر له العاقبة الأكثر ألماً. ولأن المسؤولية عظيمة فعلاً كان أولئك الأخيار يتهربون دائماً من تحملها ويفضلون العيش كغمار الناس، لكن أحياناً تدفع الظروف البعض لتصدر المشهد السياسي بلا رغبة منهم ولا طلب كما حدث مع عمر بن عبد العزيز.
هنالك استطراد مهم آخر وهو أن ما ذكرناه أعلاه لا يعني أن كل متدين أو عالم شرعي جدير بأن يدخل غمار السياسة، فقد رأينا أن بعض هؤلاء، رغم ما قد يحملون من نوايا صادقة، يكونون عبئاً على الحياة السياسية وخصماً حتى على الغايات الإسلامية، حينما يتبرعون بفتاوى سياسية كارثية أو غير واقعية. كان من قدر الله أن اجتمع لعمر بن عبد العزيز العلم الشرعي، حيث كان من أئمة عصره، والفهم لأضابير السياسة باعتبار أنه ابن عبد العزيز بن مروان أخ عبد الملك بن مروان الخليفة الأموي الخامس.
هكذا يمكننا أن نفهم العلاقة الطيبة التي جمعت بينه وبين فقهاء المدينة المنورة حينما كان حاكماً عليها، والتي بنيت على التقدير المتبادل وطلب المشورة، لا على التنافس وتبادل التحقير، كما حدث ويحدث في كثير من الأحيان. المسار السياسي للقائد الشاب الذي أصبح والياً على المدينة بعمر الخامسة والعشرين لم يكن معبأ بالورود، فهو لم يكن يعيش زمناً مثالياً بلا ابتلاءات، ففي تلك الأيام كان للأمويين حاكم آخر وهو الحجاج بن يوسف الشهير بغلظته وجرائمه، الذي كان يرى في تصدّر عمر تهديداً له. نجح الحجاج في تنحية عمر بن عبد العزيز عن حكم المدينة والحجاز، لكن الوليد بن عبد الملك سرعان ما استعان به في حكم بلاد الشام كمستشار وكانت تلك فترة مهمة لبذل النصيحة بشجاعة والتعقيب على كل ما يصدره الخليفة من قرارات قد تجانب الصواب.
الدور الأهم الذي قام به عمر بن عبد العزيز كان إبان فترة حكمه بلا شك، لكنه قام بأدوار مهمة أيضاً إبان اقترابه من الخليفة سليمان بن عبد الملك، الذي كان يعتبره مستشاره الخاص، الذي يحتاج دائماً إليه وهو ما استغله عمر في إبعاد الشخصيات الفاسدة، وإفراغ السجون وغيرها من الاصلاحات التي يصعب تفصيلها في هذه العجالة. كان لعمر بن العزيز الكثير من العبارات الموجعة منها قوله للخليفة سليمان الذي نظر بفخر للحشود التي كانت أمامه ذات حج، والتي تسابقت لإعلان ولائها له: «هم اليوم رعيتك وغداً خصماؤك عند الله»، ومنها قوله لأحد ولاته أو وزرائه بعد توليه الخلافة حين اشتكى له من كثرة الأعباء والسهر: تذكر سهر أصحاب النار!
كان ما يحاول عمر بن عبد العزيز نشره غريباً على الأمويين، الذين كانوا يعتبرون أن الخلافة والحكم حقاً طبيعياً لهم وهو حق يشمل التمتع اللا محدود بكل خيرات وثروات الرقعة التي يمتد إليها ملكهم وهو ما كانوا يفعلوه بلا حرج. القدر هو من أوصل عمر إلى سدة الحكم، حيث أنه لم يكن على خريطة ولاية العهد بعد وفاة سليمان وبدأ بذلك العهد الذي نعرف والذي اشتهر ليس فقط بالزكاة التي لم تجد من توزّع عليه، والرفاه بعد أن فاض مال بيت المال. عهد عادت فيه فضيلة الزهد التي كانت قد أصبحت غريبة على النخبة الحاكمة إلى الحياة. فوجئ الناس بذلك الخليفة الذي يجرد نفسه من كل ما اكتسب سابقاً من مال، وبدلاً من أن تصبح السلطة أداة للإثراء، أصبحت سبباً لإفقاره وإفقار زوجته التي جرّدت من ملابسها الفائضة ناهيك عن حليها. ثم ما لبث أن فرض عمر على بني أمية جميعاً إعادة الأموال والأراضي التي أخذوها فقط باعتبار أنهم «أسرة مالكة».
الإضاءة الثانية تتعلق بحقيقة أن التهديدات السياسية والحروب ليست حجة للقهر والظلم والاستبداد، فالوقت الذي استمرت فيه الفتوح وأعمال الجهاد وتواصل فيه الصراع الداخلي ضد الخوارج الذين يناصبون الدولة الأموية العداء، كان الوقت ذاته الذي ازدهرت فيه الدولة وخلت فيه السجون وتحققت فيه الحقوق.
أما الإضاءة الثالثة فهي المتعلقة بالزمن، فحينما نراجع كتب التاريخ سنعلم أن خلافة عمر بن عبد العزيز كانت شديدة القصر، لكن ما فيها من خير وما حدث خلالها من تقدم لا يمكن اختصاره بدون إخلال. هذا يعني أن الحكم الرشيد والقيادة الصالحة المترفعة عن الفساد وغير الساعية لمكسب شخصي أو جهوي لا تحتاج لعشرات أو مئات السنين من أجل تحقيق إنجازات وتغيير على الأرض. لحسن الحظ فإن أمثلة هذه الإضاءة الأخيرة هي الأكثر وضوحاً حتى في زماننا المعاصر، فكم من بلد لم يكن شيئاً مذكوراً قبل عقد أو عقدين من الزمان، فإذا به اليوم مارد عظيم وقوة اقتصادية وإقليمية مهمة، وكم من دول كانت ذات شأن فلما تولى أمرها مفسدون أصبحت من الأفقر والأكثر مرضاً وضيقاً. المشهد الأخير في حياة عمر بن عبد العزيز كان مؤثراً، فقد كاد أن يختم حياته بتحقيق سلام تاريخي مع الخوارج، وبدأ بالفعل معهم مفاوضات ناجحة. في الواقع فقد كان عمر مؤهلاً لهذا الدور، فهو لم يكن على طول حياته جزءاً من ذلك الصراع بين بني أمية وبين آل علي بن أبي طالب، بل إنه قال لفاطمة بنت علي ذات يوم، إن آل بيتها أحب إليه حتى من آل بيته. وصل الحوار مع الخوارج إلى درجة متقدمة حتى طلب أولئك منه أن يعزل نفسه وأن يعزل ولي عهده يزيد، الذي اختاره الخليفة السابق سليمان باعتبار أن كلاهما بلا شرعية وأن الأمر يجب أن يطرح لأخذ رأي الجمهور.
الخليفة الزاهد لم يكن ليتمسك بالخلافة وإذا كان تنحيه سينهي هذه الفتنة العظيمة فهو لن يتردد في تنحية نفسه وولي عهده، خاصة أن الأمر سيرد إلى الناس الذين قد يعيدوه إلى الخلافة مرة أخرى لكن بطريقة قد ترضي الخوارج وتدفعهم إلى مبايعته برضا. لكن جميع بني أمية لم يكونوا على زهد خليفتهم، وكان الأمر يحتاج لجهد كبير حتى يقتنعوا بعرض الخوارج. أولئك كان بعضهم ما يزال ناقماً على الخليفة الذي لم يأخذ فقط أموالهم وأملاكهم، ولكنه أوقف عنهم أيضاً الرواتب المجزية التي كانت تصرف للأسرة الأموية بلا مقابل. الذي حدث هو أن الخليفة توفي بشكل غامض قبل أن تصل هذه القضية إلى غاياتها، وبين المرض المفاجئ والموت بالسم المدسوس ستنتهي حياة الرجل التي لم تتجاوز بأي حال، ولدهشتنا الكبيرة، الأربعين عاماً!
٭ كاتب سوداني
د. مدى الفاتح