عمى

للمصائب المتوالية التي تقع على رأس العالم العربي فضيلة صغيرة، فهي تساهم في اظهار عمق الخلل الفكري والأمراض النفسية التي نعاني منها كشعوب جمعية. الا أننا، وحتى هذه المنفعة البسيطة لا نستطيع أن نستغلها، فنقف موقف المبرر من خرابنا الداخلي كما موقف الصامت من خرابنا الخارجي. لربما كارثة غزة الأخيرة خير دليل على أمراضنا المتستعصية.
دع عنك ما يفعله العدو الصهيوني، فهو عدو، وهو صهيوني، أراد أن يزرع في غير أرضه، وعندما اعترض أصحاب الأرض، استدعى هو السماء، فادعى أن الله في صفه، وأن هذه الأرض موعودة، فنحن البشر، مخلوقات غريبة غير متطورة، سرعان ما نستدعي السماء وندعي عليها، هي معنا والله في صفنا، ولا أحد يدري الى الآن، كيف سمع هؤلاء كلمات الله أو هدير السماء.
ولكن انتبه للعدو الداخلي، المتربص بيننا، المختبئ خلف ستار الدين والعروبة داخل كل واحد فينا. نحن، بعد سنوات طوال من القمع والظلم والتعذيب والتشتيت، كل ذلك على أيدي حكوماتنا العربية لا على أيادي العدو الخارجي، نحن قد خربنا من الداخل، شيئ ما في نفوسنا عطب ولا راد لعطبه، حتى أن منظر التعذيب والشتات، منظر القتل والترويع، منظر الظلم الساحق والعنصرية القاتلة، كلها مناظر لم يعد لها تأثير في نفوسنا وأثر على أفعالنا، تجدنا بعد أن نلقي نظرة خاطفة نجلس نتحدث عن سنية وشيعية الأطراف في الصورة، عن مؤامرة أمريكية أو ايرانية، عن اصطفاف حكومي، عن انقلاب «اخونجي»، عن ولاء شيعي خارجي، عن كل شيئ، الا الانسان المعذب في المنظر أمام أعيننا، الا عن الكارثة التي تتفشى بيننا، ننظر ببصر مضروب وببصيرة خربة، فلا نرى الا انعكاس خرابنا وعنصرياتنا وتحيزاتنا وتطرفنا.
«جلد الذات» يقولون، اكتبوا بأمل يطالبون، لا ليس جلداً لذات، ولكن وقفة حق من محيط مريض لا راد لمرضه الا بالاعتراف به أولاً، وليس يأساً هذا الذي نقول، بل مواجهة حقيقية مع وضع خرب لربما نحن أكثر من ساهم في صنعه. وكيف نكتب بأمل وغزة بعد سنوات من حصار مريع وضربات متتالية، تعاني اليوم من مجزة لم يشهد التاريخ الحديث مثيلاً لها على مدينة صغيرة منفردة؟ كيف نكتب بأمل والحوار حول غزة تحول، من رد الفعل المطلوب تجاه عدو صهيوني بشع جشع الى صراع أيديولوجي خرب حول «اخونجية» حماس؟ كيف نبقي على أمل، والموقف الحكومي المصري، الموقف الذي طالما كان عبر التاريخ الأقوى تجاه القضية الفلسطينية، ينقلب اليوم على المقاومة الفلسطينية بدل من أن ينقلب على العدو الرابض، فيجير ويجيش اعلام هرم ليبث سمومه مطالباً بضرب فصائل حماس ومقارها في «قلب غزة»؟ نعم، «اضربوا حماس في قلب غزة» هو النداء سيسي النكهة اليوم، فأي مصيبة وأي تغييب وأي مرض عضال هذا؟ ومن أين يأتي الأمل؟
فقدت الحكومة المصرية، وليس الشعب المصري المتعاطف المحب، قدرتها على تمييز العدو، فانقلب الوضع، وبدل من أن تفعل الحكومة المصرية شيئاً للتخفيف من أثر الحصار ووقع المجازر القائمة الآن، تضيق هي الخناق وتشير الى المقاومة على أنها العدو، عمى تام عن المنظر الحالي، عن صورة أطفال يقتلون وأسر تباد وبنية تحتية تتتهشم ومدينة تتكبل بالنيران وتغرق في الدماء والموت، كل ما تراه السياسة المصرية اليوم هو «اخوان» ضد اسرائيل، وعدو عدوي، يصبح… صديقي؟
وليست الحكومة المصرية وحدها، هناك صمت مطبق في العالم العربي، حتى الشجب الذي كنا نضحك منه والاستنكار الذي كنا نسخر بسببه، لم يعد لهما صوت اليوم. تغيرت المصالح وسار الزمن على رقاب وجثث أطفال غزة، ولابد للسياسة أن تجاري هذا المسير. فالكيان الصهيوني أصبح عدو اسرائيلي، ثم اصبح اسرائيل، تغيرت التعابير ومعها المشاعر، فحل الرضا مكان الغضب العربي، والوفاق مكان النضال القومي. ويقولون لا تجلدون الذات، نحن والله نستحق أن نسلخ أنفسنا بأنفسنا.
قبل أيام، انتشر فيديو لطفل لبناني يضرب آخر سوري وفي الخلفية تسمع أصوات أشخاص كبار يحرضون الطفل اللبناني على ضرب وركل وامعان المذلة في الطفل السوري. الفيديو والتعليقات التي تلت انتشاره تقف جميعاً شاهداً على أمراضنا، على غياب الصورة الحقيقية التي سرعان من نضع مكانها صورة أخرى موبوءة. لم يستطع الناس أن يرو طفالاً يذل آخر، لم يستطيعوا أن يقرؤوا ما فعل العداء المستمر بين الجيران في نفوس البشر حتى لأصبحوا يوحشوا أطفالهم، لم يستطيعوا أن يميزوا مصيبة حقيقية تمتد فارعة في حياتنا بغرسها عميقاً في وجدان الأجيال القادمة، لم يستطيعوا أن يفهموا أن كلا الطفلين في الفيديو ضحية، كل ما استطاع الناس أن يميزوا هو سنية وشيعية الطفلين، فدار حواراً مريضاً قميئاً عن صراع طائفي متمثل في شخص هذه الصغيرين، فضاعت الرسالة الحقيقية وانكتم ناقوس الخطر الذي يجدر به أن يصم آذاننا. بعدها تطور الحديث الى المقارنة بين عذابات أطفال سوريا وعذابات أطفال غزة، وكأنها مسابقة يربح فيها من الأطفال من يتعذب أكثر، أي مرض هذا يستدعي أن نقارن بين معاناة الأطفال وكأننا نفخر بها؟ كيف نقف لنتداول حواراً كهذا لمدة ثانية واحدة وهؤلاء الصغار يتعذبون وينتهكون ويموتون كل يوم؟
نحن مرضى، ومصائبنا تشخص أمراضنا، ولكن أين الدواء؟

د. ابتهال الخطيب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول غادة الشاويش:

    * نحن عندما ندين الطائفية يا دكتورة ابتهال ونحلل الاسباب التي قادتالى هذا الفعل فانما نشخص السبب ولا نهتم بالعرض هذا عرض لمرض خطير هو الطائفية البغيضة التي ادت الى ان يقتل الناس بعضهم بعضا دون تجاهل من هو الظالم ومن هو المظلوم نحن عندما نربط بين معاناة اطفال سورياوفلسطين انما نرفع صوتنا في وجه وحوش زماننا الذينيرون بعين واحدة لا لشيء الا لان القاتل الفلاني او العلنتاني ابن طائفتهم نحن كقراء عندما نعلق لسنا سطحيين ولكننا ضد تجاهل الظلم لا كظاهرة بل كاسباب ما قيمة ان ابكيعلى طفل وفقط ان اهم ما يجب علاجه هو ما ادى الى اضطهاده وهذه هي الصورةالتي نؤكد عليها لا سجالا كما يطرح بعضضيقوا الافق بل تاكيداعلى انالاجرام لا هوية مذهبية له ولا تخفيف من عيار الظلمان ارتكبه الحليف انه الظلم الذي هو نتيجة لمقدمة خطيئة كبرىاسمها ان وقعت الضحية في صفك فاقم الدنياولا تقعدها وان وقعت في صف غيرك طنش هذاانحدار هو سبب الاستهتار بدماء الناس ودماء الابرياء اما اذا كان الربط بين مظلومية اطفال غزة ومظلومية اطفال سوريا يفسر تفسيرا سياسيا عندك فانت مخطئة كل ما فيالامراننا لا نسمح بالتجاوز على طفولة الاطفال ولا نسمح بالعور المذهبي نحن نحلل الاسباب لا النتائج ونركز على المرض المرض الذي يدفعنا للتركيز على الظاهرةلا على اسبابها لا لشيء الا لاننا في سرنا نؤيد بعض القتلة بل اكبرهم وندين اصغرهم انه وثن الطائفةالذي اتمنى لقلمك ان يتحرر هو الاخر منه اننا نحتج على الظلم وعلى الازدواجية ولن تفلح تغطيته مهما حاول منيدعونالحياد ويبكون بدموعالتماسيحعلى الناس انه زمن الاجرام والاجرام المضاد ولا يسكت الا شريك في دماءومعاناة الناس .
    وزارة المستضعفين عاصفة الثار جريحة فلسطينية منشقة عن كل خوارج العصر القتلة الذين غضوا النظر عن دماء الابرياء من حزب ( الله ) الى داعش الى كل خوارج العصر ومنحازة الى دماءالمساكين والمستضعفين انى كانت ملتهم ومذهبهم وتؤكد انه لا مذهبللظلم انه مذهب الاثم مذهب كل الاثمين

  2. يقول lمحمدسالم:

    د/ ابتهال انتي انسانه عظيمه وانا اعتبرك افضل من رجالاتنا اليوم الذي هم في بحبوحه من ثراء وملبس ومأكل ومشرب ومركب على حساب ابناء غزة الذي هم يدفعون فاتورة بقاء هؤلا على هذة التخمه فعلا الحكام وشعوب ان يدعو لغزة والمقاومه لليل ونهار لان ما بهم من عيش رغد هو بفضل الله ثم المقاومه التي تدافع عليهم من عدو يريد ان ينقض عليهم في اي وقت لولا فضل الله ثم المقاومه يا استاذتي ماجدة مهما بلغو من ذالك الترف الذي ذكرة سوى كانو حكام او شعوب او عملاء فان حياتهم لاطعم لها ولا لون ولا ذوق حياة ولا وزن حياة عبثيه عندما تشاهد اطفال ونساء وهؤلا كان الامر لايعنيهم

  3. يقول محمد الأحمد:

    عمى وستين عمى على هذه الحضارة التافه التى تقف متفرجة على وحشية الأعداء والطائفين الذين قاتلوا شعوبهم واغتصبوا النساء والأطفال ودمروا البيوت على رؤوس أصحابها لا لشئ الا لان تلك الشعوب تريد ان تعيش كالبشر. عمى وستين عمى على كل طائفي قذر لا يري الا مصلحة طائفتة ويتشدق ليل نهار بالحرية والمواطنة والعروبة والإسلام وهو يعلم بان الأخريين يعلمون انه منافق يقطر النفاق والأجرام من عمامته وجلبابه ولحيته. عمى وستين عمى على كل إنسان لا يحركه ضميره ولا خلقه ولا دينه لكل ما يحدث في غزة او سوريا او ليبيا أر العراق او اي مكان يعامل البشر فيه كما في تلك المزارع المسماة دولا. أمة بلا ضمير ولا خلق ولا عتب على الأعداء بعد ان شاهدوا ما يفعله ابن الوطن المتسلط لشريكه في المواطنة كما هو الحال في سوريا او ليبيا او العراق. لا عتب على اسرائيل لانها عدو لدود اما المصيبة فهي في بشار وحسن نصرالله والمالكي وبوتفليقة وقطاع طرق ليبيا وغيرهم من صعاليك هذا العصر. فلا نامت أعين الجبناء.

  4. يقول حميد الجزائر:

    الطائفية بغيضة وابغض منها تقنينها على شكل مطالب محاصاصتية ،ظنا منا أنها بدايةالتسيير العادل ،وهي في حقيقة الأمر بداية الإحتقان وغياب العقل،وبداية الابتعاد عن الادانة الفردية والاقتراب من التعميم الطائفي ،وهو نهاية العقل وبداية العاطفة وهذا كله ناتج عن تهميش الكفاءة وحرمان المحتاج لأن الكفاءة تعمل لصالح الجميع والإستفادة تكون لمن هو محتاج إليها أكثر وهذا كذالك نتاج دولة الولاء لا دولة المواطنة وغياب الديمقراطية الحزبية وحضور الديمقراطية القبلية الطائفية

  5. يقول خيرة من الجزائر:

    i thunk it is too late to make people understand your point of view no way to correct their (ama) they won t accept UNFORTUNATELY madam you are right and just WISE

  6. يقول حسن:

    سلم قلمك وتحليلاتك صائبة فما هذا الشبل إلا من ذاك الأسد رحم الله والدك الدكتور أحمد الخطيب فقد كان من أخيار الأمة في الكويت العزيزة.

  7. يقول غادة الشاويش:

    حميد من الجزائر افضل تعليق

  8. يقول عاطف - فلسطين 1948:

    ما نراه فقط هو جزء من التخلف الذي ينخر الامة. كل المحاصصة التي طالب بها البعض في العراق ولبنان وكذلك ربما ثوار سوريا ما هي الا جزء من مسلسل التخريب الذي ينخر المنطقة. كيف كان لحسن نصر الله ان يطالب بالمحاصصة ويريد ازدهار لبنان, بعض الكتاب والمثقفين العرب حذروا مسبقا من انزلاقاته ونبهوا بالا ننبهر بانجازاته . فعلا لا ننكرانجازاته في تحرير لبنان ولكن كان عليه تحرير لبنان ايضا من التفكير الطائفي وليس تكريسه. مشاركته في سوريا للاسف هي تكريس للطائفيه ودمار للمنطقة. السؤال الذييسأل نفسه الان : هل تستطيع النخب الثقافيه في الوطن العربي اخراج المنطقة من هذا المسار الحالك الذي قادونا اليه مقاولي الاستعمار من رؤساء العرب وملوكهم. فعلا للاسف الضحايا هي كثيرة جدا ولا توعد ببناء مستقبل افضل.

  9. يقول foufpu lakhdar:

    ومضة عاقلة.لك كل التقدير

  10. يقول samia abaas lebanon:

    we love Kuwait because of people like you longlive palestine and Kuwait allah yerham abouki ya Asseela !!

1 2

إشترك في قائمتنا البريدية