تتتخذ بعض الأعمال الروائية موضعها في الذاكرة الإنسانية بوصفها أعمالاً خالدة، غير أن ثمة أسئلة تتعلق بحدود هذا العمل، وأعني كمونه في ذاكرة النسق القرائي، ولا سيما التاريخي الذي يرتهن لإحداثيات اجتماعية وثقافية وسياسية متباينة، وهنا لا أعني المرجعية الزمنية المرتبطة بزمن التلقي، أو زمن القراءة، ولكن أعني الثيمة، والتمكين الفني الذي يجعل من العمل جذاباً، ومتجدداً، أو قابلاً للقراءة، والفهم والتأويل، فضلاً عن مقدار تعالق الإطار المرجعي في العمل، ولكن في ضوء منظور التاريخانية الجديدة التي لا تستند إلى الفهم التاريخي التقليدي باعتبار العمل الفني حدثاً في سلسلة من الأحداث التاريخية، إنما بالتفسير التاريخي للحدث.
أسئلة التأويل وديمومة المعنى
في رواية الروائي الأمريكي جون شتاينبك الحاصل على جائزة نوبل الموسومة بـ«عناقيد الغضب» 1939 ثمة تشكيل سردي لا يحتفي بالكثير من الحيل السردية، ولا بتقنيات شديدة التقدم، أو التعقيد، ومع ذلك، فإن هذا العمل السردي لم يفقد بريقه بمرور الزمن، إذ لا يمكن لنا أن نعدّه عملاً مستهلكاً، أو من نماذج تلك الكتابات التي سرعان ما نفقد الاهتمام بها بمجرد الانتهاء منها. إنها من طينة الأعمال التي تعيد طرح الأسئلة، أو بالتحديد هي تسائل قيماً لا منجزة في الوعي الإنساني، ولكن ضمن سياق تفسيرات الظاهرة التاريخية، انطلاقا من العمل المتخيل الذي يخضع لاعتبارات مختلفة من النسخ الثقافية للتأويل، وهنا أستدعي على سبيل المثال رواية الراحل غسان كنفاني «رجال في الشمس» بوصفه عملاً لا ينضب من ناحية ثراء الإحالات الدلالية، والتفسيرات التاريخية، والأيديولوجية على حد سواء. ومع ذلك فإن هذه القيم التي تختزنها بعض النصوص، كما تلك الأسئلة التي تنطوي عليها، قد تبدو للناظر شديدة الوضوح، ولا تحمل جديداً، فجميعنا نعلم أن الإنسان عنصري، وفوقي، ومتعال، وجشع، في حين أن ثيمات الفقر والجوع، والاستبداد والهيمنة وغيرها عصية على الاستهلاك، فهي ما فتئت تحاصرنا في كل مكان، وزمان، ففي زمننا هذا، نشهد العديد من تحولات في البنى الاقتصادية لكثير من دول الشرق الأوسط، حيث تفرض الحكومات، والسلطات حلولاً للأزمات، ولكن على حساب الشعوب، في حين أن السياسات الاقتصادية الفاشلة، والفساد الحكومي يعد المسؤول الحقيقي، وهذا ما يضاعف من تكون مفهوم الغضب، والانفجار في بنية الشعور الجمعي، وهذا بالتحديد، وأعني الحدث، يتكرر ضمن نسق تاريخي دائري، ففي رواية «عناقيد الغضب»، نقرأ رسماً سردياً لتكون الغضب، أو فعل توليد صورة؛ عناصرها المكون الجمعي الذي يتوالد غضبه شيئا فشئيا ليصل إلى ذروته في نهاية رواية «عناقيد الغضب»، وبالتحديد في المشهد الذي تقوم فيه «روزا» بإرضاع الرجل العجوز الذي يوشك أن يموت جوعاً ومرضاً، على الرغم من أن روزا فقدت طفلها نتيجة البرد والجوع، وتخلى عنها زوجها. هذا المشهد المفتوح، والقابل لتوليد دلالات متعددة شكل سراً من أسرار تميز هذا العمل، وبهذا فإن التمكين الدلالي لا يبدو وثيق الصلة بالبنى السردية بوصفها إضافة، ولا يمكن أن نعدّ العمل إجابة عنها بشكل مطلق، ولكن تمكين التشكيل، ومسالك السرد، ومقدار حرفة الروائي في التحلل من الوصاية على التفسير، أو التوجيه الدلالي، ما يجعل من القارئ في وضعية تشييد السؤال الأخلاقي، كما المعضلة الوجودية، ومن هنا فإن رواية «عناقيد الغضب» تبدو صيغة متفردة، غير قابلة للاستهلاك مع الزمن، وبوجه خاص من ناحية التفسير الدلالي للحدث التاريخي، وانعكاساته في بنية تعتمد ديمومة الحدث في صور متكررة، يعاد إنتاجها. ثمة فرق جوهري، بين روايتين تتناولان واقعاً، أو تاريخاً واحداً، ولكنْ ثمة عمل ينتهي بانتهاء الإطار الزمني الذي تجعله خلفية لأحداثها، بكل ما يكتنف ذلك من مستويات دلالية، في حين أن هناك عملاً يمارس الفعل عينه، ولكنه ينزاح بعيداً ليعد موضعة التمثيل السردي ضمن مقولة عابرة للزمن، وللمكان بحيث لا تستهلك، وهذا ربما يشكل جزءا من مقولة فساد الكتابة الروائية المعاصرة لدى البعض كونها تنطلق من التناول التاريخي في إطار المرجعية الذاتية، أو الأنا بوصفها بؤرة الضوء والانبعاث الدلالي، أو القادرة على تفسير التاريخ، وهكذا يفقد العمل أحد أدوات بقائه.
التجسيد القيمي والفني
في رواية جون شتاينبك «عناقيد الغضب» نقرأ سرداً يتمحور حول عائلة أمريكية تعاني الجوع، ولا سيما أثناء الكساد الاقتصادي الكبير في الولايات المتحدة، خلال الثلاثينيات، أي أن الكتاب معني بتمثيل الأنا التاريخية الجمعية من خلال عائلة، تلعب فيها الأم دوراً محورياً، كونها تشكل مركز العائلة ومحورها، ودرعها أمام فعل التشتت والفناء، فهي تقوم بطهي الطعام، توزع الأدوار، كما تسعى للمحافظة على قيم العائلة، بتواجد أعضائها العضوي معاً، امرأة تقاوم التشتت، وتؤمن بالعطاء حتى في أشد حاجات العائلة للقمة طعام، فتشاركها مع الآخرين، هي أسئلة قيمية معنية بأزمة الإنسان المطلق وإشكاليات المبادئ، وهكذا تتحول الرواية من سلطة السكون إلى سلطة الدينامية، والانتشار لا بوصفها فعلا سردياً فنياً، إنما بوصفها حكاية الإنسان أينما كان، وفي أي زمان، وهكذا تعلو الحكاية لتجاوز حدودها، مع أن قيمتها، وتميزها يتأتى من ارتهانها المرجعي واللحظي لزمنها ومكانها، ولكن كيف تحقق هذا التوصيف؟
لا شك في أن الإجابة عن هذا السؤال، لا يمكن أن يعني بأي حال من الأحوال مقولة ثابتة، وصحيحة، إنما أبقى في خانة البحث عن حقيقة هذا النسيج الدلالي غير القابل للتمزق مع مرور الزمن، ولعل هذا ينتج بفعل التخفف الواضح من الذاتية المفسرة، أو المؤولة لكاتب النص بوصفها وصية على ذهنية المتلقي لتوجيه مقاصده، وتضييق العالم التخيلي الذي ينبغي أن يجعله رحباً، وشديد الموضوعية، وهذا يتبدى في قدرة شتاينبيك على تكوين مقاصد دلالية شديدة الوضوح، ولكنها شديدة الخطورة، إنها كتابة تقترب من حافة الهاوية، إذ تعيد موضعة الأسئلة في مجتمعات لا ترغب في رؤية واقعها، إنها مزيج من الواقعية المطلقة، ولكنها مع ذلك، لا تفتقر إلى بنية محكمة من التخيل العنيف، بالإضافة إلى القدرة على تكريس لوحات، وخطابات شديدة الاقتصاد، والنزوع الجدلي البحت، فالفعل والقرارات التي تقف أمامها عائلة «جود» التي تغادر ولاية لم تعد تصلح للحياة نظرا لقلة العمل والفقر، ولهذا تنطلق إلى ولاية كاليفورنيا للعمل في جني الثمار بعد مشاهدة إعلان يطلب عمالاً، ولكن هذا المسلك يعني في تمثيلات الوعي النفسي الجمعي ارتهاناً للمجهول يطال عائلة لا تملك شيئا سوى وجودها التضامني، وسيارة متهالكة، وقرارات مصيرية يجب أن تتخذ.
عند الوصول إلى الولاية الجديدة، تنبذ المجموعة المهاجرة من قبل الملاك، ينامون في العراء، تحاصرهم المياه، يموت الجد والجدة، ويقتل الابن رجلاً، يموت طفل الابنة روزا، الكل يتضور جوعاً، فضلاً عن أحداث أخرى، تعكس الهوة بين منظورين طبقيين، هذا المستوى من الفعل الحكائي يمكن أن يضطلع به كاتب من الدرجة العاشرة، ولكنه سيقع في فخ الطغيان السردي، ومحاولة اختطاف التوجيه الدلالي من قبل القارئ الذي يستشعر بأن ثمة وصاية عليه، وهذا ما تخلص منه جون شتاينبيك بحذق، ومهارة، لقد ترك الفعل السردي كي يحاكي الواقع، وبهذا فإن لحظة التطابق بين الحدث السردي والتأويل، بما في ذلك ردة الفعل على الأحداث، تبدو شديدة الحياد، في حين أنها كلها تتجمع في بؤرة واحدة، ما يدفع المتلقي إلى تنشيط الذهنية القرائية، ولاسيما حين تحاصر الأمطار الحاوية التي تعيش فيها العائلة في مشهد متقن. ولعلي لا أجانب الصواب لو قلت بأن شتاينبيك يتقن ممارسة كلاسيكية الأسر السردي في خلق عالم من التشويق الذي يعد من وجهة نظري قيمة الفعل السردي الحقيقي، ومركزه الحيوي، ولا سيما في عالم بات يتقدم من حيث توفير عوالم الإثارة والتشويق، وخلف متواليات من المتخيل، وبهذا فإن شتاينبيك في رواية «عناقيد الغضب» تفوق، فقد جعل روايته مقروءة وشديدة المتعة حتى لقارئ اليوم، الذي سيعيد ملء بنيته الشعورية بعمل إنساني خالص، وبالتحديد حين يواجه عنصرية الآخر، حيث يقوم أهل كاليفورنيا بالانتقاص من العمال المهاجرين القادمين من ولايات أخرى، بل يصفونهم بـ«الأوكيبي»، وهو مصطلح يحمل معاني دونية، ولكن مكون السلطة ينحاز في هذا الصراع إلى الأقوى، أي الملاك، وهذا ما يعيد تفسير تموضع السلطة في الخطابات، مع التأكيد على أهمية تعرية هذا النسق في الرواية، فقد شبّه مؤلف الرواية الجياع بأمواج النمل التي تزحف، ولكن مع عوائق السلطة، وطبقة الملاك، وعدوانيتهم، ومحاولتهم استغلال الفقراء، يزداد الغضب شيئا فشيئاً.
أسئلة الأدب العظيم
إن أسئلة الأدب العظيم، وديمومة الحضور، والتجدد القرائي من الأهمية بمكان، ولا سيما حين تحاصر بهذا الكم الهائل من السرد الفاقد للروح، ما يضطر القارئ لاستعادة هذه الأعمال العظيمة بهدف موضعة الحس الإنساني في عالم تشيأ، وترقمن إلى حد أننا نسينا بشريتنا. ومن منطلق جدلي، وغير محسوم، فالأعمال العظيمة التي يكتب لها النجاح ينبغي لها أن تحافظ على النزعة الإنسانية بشفافية مطلقة، ولا تنساق إلى خطاب فوقي، أو شديد السذاجة كونها تعاني من إحساس منشئها، فالرواية، أو القصة العظيمة تبقى معنية بطرح التفكير، والمتعة ضمن مبدأ عضوي، ففي «عناقيد الغضب» ذات العنوان الاستعاري، ثمة تقاطعات بين معطيات عرقية وتاريخية، وطبقية، واقتصادية، واجتماعية وسياسية، ثمة عالم برمته في حكاية هذه العائلة التي تقاوم الجوع، وتبحث عن أي عمل يؤمن قوت يومهم، ولكن هذا المسعى يصطدم مع بنية، وتصورات سلبية ميزت المجتمع الأمريكي في ذلك الزمن، الذي خبر تحولاته، ليستشعر مكانته السلبية، ونقد هذا التصور، ما أفسح مجالا للتطور، ومعاقبة هذه الحقبة التاريخية.
إن بنية الخوف من الآخر، ولا سيما الخلايا الاشتراكية قد هيمن لزمن على العقلية الأمريكية، وهذا تجسد بالمكارثية – سلوك اتهامي بلا أدلة- التي تعدّ حقبة سوداء في التاريخ الأمريكي، ولكن المجتمع لم يكن ليدرك مستويات هذا الجانب المظلم في تكوينه الشعوري والنفسي بدون الاستعانة بالظواهر الفنية كما جسدتها رواية «عناقيد الغضب» التي استقبلت بترحاب كبير من قبل الكثيرين، ولكنها اتهمت أيضا بأنها تروج للاشتراكية، والأفكار الشيوعية، كونها تنطلق من الصراع الطبقي، وتدعو للثورة، وهذا يعني تفسيراً للحدث، ولكن جون شتاينبيك كان يدرك بأنه يمضي إلى الحقيقة بغض النظر عن التأويلات، والفهم، لقد كان معنياً بنقد ظاهرة مجتمعية، أو لنكن حقيقيين بمجتمع فقد إنسانيته، فضلاً عن دولة لا تحترم قيمها، فنزعات الاستعلاء التي مارسها أصحاب المزارع، والاستغلال، والكراهية المطلقة تجاه الآخرين، أو القادمين من الولايات الفقيرة بوصفهم لصوصاً، وبرابرة قد أعاد ذهنية العقل الأوروبي، أو الغربي منذ قديم الزمان الذي يعدّ كل من هو غير إغريقي في خانة البرابرة.
٭ كاتب فلسطيني ـ أردني
رامي أبو شهاب
تحياتي استاذ رامي
رغم أني اشتريت رواية عناقيد الغضب من شهور و لكن قراءات اخرى محببة زحمت عليها الطريق ..
و لكن عرضك القيّم و العميق و المكثّف بخلاف أنني استمتعت به و سأحاول الاستفادة من بعض أفكارك و ملاحظتك الذكية في قراءاتي
الناقدة أو النقدية مطبّقا بعضها على ما قرأت..
قطعا ما قرأته في قراءتك النقدية سيجعلني أنفض الغبار عن الرواية و أضعها في سلم الأولويات بل سابدلأأ بمطالعتها منذ اليوم…
و لا أظن أن أسمك سيفلت من ذاكرتي فساتابع كتاباتك دائما..
و ألف شكر