فيلمان سيطرا على شاشات دور السينما في بريطانيا، خلال الشهور القليلة الماضية، نفذهما، بحرفية وإبداع، مخرجان بريطانيان: «دنكرك» لكريستوفر نولان، و«الساعة القاتمة» لجو رايت. كلا الفيلمين رشح لأكثر من أوسكار، وقد نالا بالفعل جوائز عدة من أكاديمية الفيلم وفنون التلفاز البريطانية. في الفيلم الأول، يقدم نولان رؤية ملحمية لواحدة من أهم المحطات المبكرة للحرب العالمية الثانية، عندما نجحت بريطانيا في إجلاء 300 ألف من الجنود من الساحل الفرنسي، في صيف 1940، تحت تهديد غارات الطائرات النازية وطلائع قوات الجيش الألماني.
وفي الثاني، يقدم رايت سيرة سينمائية لنمط قيادة ونستون تشرشل في تلك الأيام المظلمة من 1940، قبل قليل من، وبعد توليه رئاسة الحكومة خلفاً لتشامبرلن، ودفعه بريطانيا للوقوف في مواجهة الهيمنة النازية على القارة الأوروبية، بالرغم من عدم توفر مسوغات مقنعة للنصر. في تجسيده لتشرشل، يقوم غاري أولدمان بواحد من أفضل أدوار مسيرته الفنية؛ بينما يبرز كينيث براناه، في دور ضابط البحرية البريطانية المسؤول عن تنظيم عملية الإجلاء بدنكرك، بالرغم من العدد المحدود من اللقطات التي يظهر فيها، وحرص نولان على تجنب صناعة شريط يتمحور حول بطل فرد واحد.
بدأ عرض الفيلمين في الشهور الأخيرة من 2017؛ وبالنظر إلى حجم العملين، انطلق الإعداد لهما قبل الاستفتاء البريطاني على الخروج من الاتحاد الأوروبي في صيف 2016. ولذا، وبغض النظر عن موقف نولان أو رايت من توجه بريطانيا للخروج من الاتحاد، الذي يعرف اختصاراً بالبريكست، فالمؤكد أن الفيلمين لم يقصد بهما لا التشجيع على، ولا معارضة الموقف من الاتحاد الأوروبي. ولكن ذلك لم يمنع استغلال الفيلمين من قبل أنصار البريكست، سواء في دوائر الإعلام الشعبية، أو من قبل عدد من السياسيين البريطانيين المناهضين للعلاقة مع أوروبا. كلا الفيلمين ولد أصداء إيجابية لدى المشاهد البريطاني، ليس فقط لمستواهما الفني الرفيع، ولكن أيضاً لاستعادتهما تاريخ أيام عصيبة، ولحظات الصمود اليائس، الذي أدى في النهاية إلى تغيير تاريخ القارة الأوروبية والعالم. في لقطة آسرة، يقف ضابط البحرية البريطانية على طرف المرسى الصغير بدانكرك، بعد أن أجلي معظم الجنود البريطانيين، مقرراً البقاء للإشراف على إجلاء من تبقى من الجنود الفرنسيين، ليقول بتواضع عنيد أن ما يبقيه ليس سوى الأمل. وهذا ما رآه البعض من أنصار البريكست في الفيلمين: نحن البريطانيين من ظل واقفاً في مواجهة الطغيان النازي، عندما كانت القارة تنهار تحت جنازير دبابات البانزر وطرقات أقدام جنود الفيرماخت، ولن نخضع اليوم لحكم أقلية بروكسل، التي تحلم بإقامة دولة أوروبية شمولية أخرى!
لم ير هؤلاء الجوانب الأسطورية في الفيلمين، اللذين لم يخف مخرجاهما عزمهما تقديم سردية تاريخية أقرب إلى ما حدث، إلى حد اللجوء، أحياناً، إلى ما يشبه السينما الوثائقية. تجاهل نولان، مثلاً، كما لاحظت «نيويورك تايمز» في اليوم الأول لعرض الفيلم، وجود عشرات الآلاف من أبناء المستعمرات البريطانية والفرنسية، الآسيويين والأفارقة، الذين ساهموا مساهمة كبيرة في الجهد الحربي البريطاني والفرنسي. كما قدم انتصار الإجلاء الملحمي من دانكرك وكأنه صنيعة سفن الصيد والمتعة الصغيرة، التي قادها بريطانيون عاديون في ظروف جوية قاسية؛ بينما يعرف مؤرخو الحرب الثانية أن الإسطول البريطاني من تحمل العبء الأكبر لعملية الإجلاء، وأن مساهمة السفن الخاصة كانت هامشية إلى حد كبير. وأظهر رايت تشرشل مستخدماً قطار لندن، الأندرغراوند، مثل عموم الشعب، بل وساعياً إلى استطلاع موقف رفاقه المسافرين من الحرب، وما إن كانوا يؤيدون الصمود في مواجهة الغزو النازي أو الذهاب إلى صفقة تفاوضية. وهذه، بالطبع، رواية لا أصل لها؛ فالزعيم الشهير، ابن الارستقراطية البريطانية، لم يكن يؤمن بالقيادة من أسفل، وتكشف سيرته عزوفاً عن الاختلاط بعموم الناس، وعداء للطبقة العاملة.
بيد أن مثل هذه الانتقادات لم تترك أثراً يذكر على رؤية أنصار البريكست للفيلمين. التاريخ، في النهاية، يصنعه المؤرخون؛ وقد تمثل نولان ورايت دور المؤرخ بجدارة، وصنعا صورة بطولية لعلاقة الجزيرة البريطانية بجوارها الأوروبي، وعززا، من حيث لم يقصدا، على الأرجح، السردية القومية للبريكستيين.
تعيش بريطانيا، منذ صوتت بأغلبية صغيرة، في صيف 2016، للخروج من الاتحاد الأوروبي، انقساماً متفاقماً، وانشغالاً متأزماً بنفسها. هذه هي المرة الأولى التي تختار فيها دولة مغادرة الاتحاد؛ وإلى جانب تعقيد وصعوبة التفاوض حول شروط الطلاق، تبدو الخيارات المتاحة جميعها سيئة. تصور أنصار البقاء في الاتحاد أن مرور الزمن سيكشف للأغلبية أن وعود الذين قادوا حملة الخروج استندت إلى أكاذيب أو حسابات خاطئة، وأن تياراً قوياً سيتبلور، يتيح العودة، بصورة أو بأخرى، عن نتائج استفتاء 2016. ولكن ذلك لم يحدث. ثمة نزعة قومية صلبة، سيما في الكتلة الإنجليزية، التي تمثل أغلبية الشعب البريطاني، لم تزل على رأيها في وضع نهاية للعضوية في الاتحاد. في الوقت نفسه، لم يعد ثمة شك، حتى في تقارير أكثر مؤسسات الدولة عقلانية وحيادية، مثل بنك إنجلترا، أن الخروج بلا اتفاق حول مستقبل العلاقة مع أوروبا، سيما العلاقة الاقتصادية ـ التجارية، سيوقع ضرراً بالغاً بالاقتصاد البريطاني. ولذا، فقد أصبح سؤال الاتفاق شغل الحكومة البريطانية الشاغل، ومصدر جدل انقسامي متفاقم، داخل الطبقة السياسية وخارجها. كيف يمكن التوصل إلى اتفاق بريطاني ـ أوروبي، يستجيب للتصويت بالخروج من الاتحاد، ويكفل استمرار العلاقات التجارية السلسة مع شريك بريطانيا التجاري الأكبر، بأقل تكلفة مالية ممكنة؟
بصورة من الصور، يبدو التصويت بالخروج في استفتاء 2016 وكأن بريطانيا أطلقت النار على قدمها، وكأنها، بسابق تصميم وتصور، أوقعت ضرراً بالغاً بذاتها. وليس مثل حالة الحيرة والانقسام، والجدل الذي لا يزداد إلا حدة، دليلاً على ما فعلته بريطانيا بنفسها. وهذا ما ولد جدلاً من نوع آخر، سيما بين علماء السياسة والتاريخ، حول لماذا، لماذا صوتت الأغلبية البريطانية في ذلك اليوم الحاسم من يونيو/ حزيران 2016 بالخروج من الاتحاد. أوضح الأسباب، بالطبع، كان براعة حملة البريكست، وعدم تورع قادتها عن إطلاق الوعود الكاذبة، وتصوير الخروج وكأنه الإجابة الأبلغ على كل حاجات البلاد الاقتصادية. ويتعلق السبب الرئيسي الآخر بقصور الاتحاد الأوروبي ذاته، وعجزه عن بناء مؤسسات ديمقراطية، تعمل على تجسير المسافة بين مركز قرار الاتحاد في بروكسل والشعوب الأوروبية في أنحاء القارة. ولكن المسألة التي لا خلاف حولها أن التصويت بالخروج ولد من تصاعد مثير في المشاعر القومية البريطانية؛ وأن جميع تعبيرات خطاب البريكست، من استعادة السيادة، التحكم في الحدود والخشية من أعداد المهاجرين، ليست سوى انعكاس لتأزم قومي بريطاني.
ولأن لابد لكل تأزم قومي من عدو، وهمي أو فعلي، فما تستبطنه هذه الموجة من القومية البريطانية هو الإحجام المقيم عن التأقلم مع القوة الألمانية المتزايدة في القارة الأوروبية. في كتابه «خلف خطوط الدبلوماسية»، يقول باتريك رايت، كبير الدبلوماسيين البريطانيين في نهاية الثمانينيات، أن رئيسة الحكومة آنذاك، مارغريت ثاتشر، كانت مسكونة بالخوف من هيمنة الألمان على أوروبا. ثاتشر، كما هو معروف، هي من أسس لخطاب مناكفة أوروبا والتشكيك في العلاقة البريطانية مع القارة. وما إن وصلت بريطانيا لحظة الاستفتاء على العضوية في الاتحاد، بعد عقود من ذهاب تاتشر، حتى كانت القومية البريطانية من الحدة بحيث لم تعد فيه لتكترث بإيقاع الضرر بالمصالح البريطانية ذاتها.
٭ كاتب وباحث عربي في التاريخ الحديث
د. بشير موسى نافع
يستطيع المرء ان يتفهم سعي البريطانيين الى تقديم انسحاب او الهروب من دنكرك على انه انجاز عظيم او حتى انتصار ان شاؤوا ذلك فبالنهاية هذا دور وسائل الدعاية اي المساهمة في ترسيخ قراءة معينة و موحدة لكل الاحداث سواء التاريخية و المعاصرة لدى كل الاشخاص او الجماعات الموجه اليها العمل الدعائي.
و لكن لا اعتقد انه من الصواب ان يتم نشر نفس الدعاية و توجيهها لقراء هذه الجريدة المحترمة و الذين اقل ما يمكن ان يقال هو انهم ليسوا معنيين بهذه الدعاية، و الذين ان كان من المهم اطلاعهم على احداث تاريخية لم يكن لهم و لا لاجدادهم دور فيها، فاولى ان يتم ذلك بطريقة موضوعية.
اذكر الكاتب المحترم ان تشرشل بنفسه عندنا راى مبالغة وسائل الدعاية في تضخيم “انجاز” الهروب من دنكرك اكثر مما سعت اليه حكومته و تقديمه كانه انتصار، حذر البريطانين من ان الانسحاب لا يمكن ان يؤمن الانتصار في الحروب.
لقد كان “انسحاب” دنكرك هزيمة مدوية و مهينة لبريطانيا و قد مثلث اول مسلسل الاهانات الذي تعرضت له بريطانيا كقوة عظمى خلال الحرب العالمية الثانية و الذي جعل نهاية الامبراطورية البريطانية بعد الحرب مسالة تحصيل حاصل.
القوات التي تم سحبها من دنكرك هي قوات اصلا جيئ بها الى فرنسا لمساعدة فرنسا لمواجهة غزو الماني محتمل لبلجيكا باعتبار ان وجود خط ماجينو يجعل غزوا المانيا لفرنسا غير وارد. فكيف يمكن بعد ذلك اعتبار سحب هذه القوات بعد غزو المانيا ليس فقط لبلجيكا و لكن لفرنسا ايضا انجازا و انتصارا؟ هل يعقل ان البريطانيين قاموا بارسال قواتهم لفرنسا فقط من اجل تحقيق الانتصار الذي يمثله هروب دنكرك؟
لقد كان بامكان المانيا اسر كل الجنود البريطانيين او على الاقل منع انسحابها من دنكرك و لكن المانيا لم يكن هدفها بالنهاية اهانة البريطانيين.و لو كان هدف المانيا خوض حرب مفتوحة مع بريطانيا، كان اولى لها القضاء على اكبر من الجنود في دنكرك من اجل كسر عزيمة بريطانيا اولا و ثانيا من اجل تفادي مواجهة هذه القوات لاحقا خلال الحرب.
كما ان كل روايات المؤرخين الغربيين تتفق على ان ايقاف المانيا تقدمها لفترة معينة خلال الهجوم، على الرغم من اختلافهم في تاويل ذلك، هو ما منح الفرضة للبريطانيين للهرب.