تونس ـ «القدس العربي» من ضياء بوسالمي: يتمتع الرّسام بأمرين لا يتمتّع بهما العامّة، الحسّ المرهف، والقدرة على رؤية الأشياء من زوايا مختلفة، فضلاً عن الموهبة التي تخوّل له إعادة إنتاج مخزون ذاكرته على الورق من خلال مداعبته للبياض ليملأه في النّهاية بمزيج من الخطوط والألوان التي تتشكّل لتأخذنا في رحلة إلى عوالم بعيدة.
يخبرنا الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز أنّ الفكرة هي عماد أيّ عمل فلسفيّ، فنيّ أو حتّى علمي، إذ ليس من السّهل أن نعثر على الفكرة إنها بمثابة الحدث القادح لا بل «هي نوع من الاحتفال» على حدّ تعبيره.
المتمعّن في أعمال الرّسام حسام الدين سعاف، يلاحظ من الوهلة الأولى وجود خيط رابط بين كلّ لوحاته. ثمّة فكرة واضحة تجول وتحوم في أفق هذا السّواد الكثيف والمُوَزَّعِ على المساحات بطريقة تجعل التقاءه مع الضّوء يعكس وهجًا ويولّد انبهارًا يصعب التخلّص منه. وفي وسط هذا الجوّ الخالي من الألوان، والذي نتوهّم أنّه خال من كلّ إحساس أيضا، رؤية ستتغيّر كلما ركّزنا واندمجنا أكثر مع اللّوحات. يبني سعاف عالمه الخاصّ ويصبُّ في لوحاته كلّ تقلّبات كيانه وسوداويّة الخواطر التي تتنازعه، ويقيم بذكاء نادر علاقة ترابط «آليّة» بينه وبين المتلقي.
هذه العلاقة الجدليّة بين الرسام والمشاهد تتميّز بذلك الخيط الرّفيع الذي يشدّها والذي يحمل رسائل اختار حسام الدين أن يمررها عبر أعماله. هنا، يتحوّل فنّ الرّسم إلى وسيلة للتّخاطب وأداة للتّواصل وإقامة علاقة بين الفنّان من جهة والمشاهد من جهة ثانية في عالم رحب تؤثّثه اللّوحات وما تحدثه من تفاعلات وما تتركه من آثار على النّفس.
إنّ الفكرة «الدولوزيّة» القائلة بمحوريّة إيجاد الفكرة في الرّسم والفلسفة والأدب وغيرها من الفنون وأنّها يجب أن تكون موجّهة لميدان معيّن؛ أي دقيقة وواضحة، نجد صداها في أعمال هذا الرسام.
فالفكرة هي وصف عالم باطنيّ تعجز الكلمات عن نقله بأدقّ تفاصيله. وأمّا الهدف من ذلك فهو ليس مجرّد إبهار المشاهد فحسب، بل إلقاء الحيرة في نفسه وتمرير هذا القلق الوجوديّ الذي تعبق به هذه اللّوحات. فالأجساد المشوّهة، الوجوه المتحوّلة والنّظرات السوداء كلّها تتكامل لإعطاء اللّوحات بعدا عجائبيّا-قبيحا. وتقنية استعمال الألوان الداكنة -التي تتدرّج من الأسود إلى الأقلّ سوادا مع ترك مساحات بيضاء في أماكن مدروسة تضفي مزيدًا من التوجّس في النّفس، وهو الشعور الذي ينتابنا أمام هذه اللّوحات. فقد عمد سعاف إلى «تَقْبِيحِ اٌلقَبِيحِ» أو لنقل استبطن الفنان قبح هذا العالم بموجوداته وتدثّر بعباءة إله خالق محطّما العالم القديم المألوف فارضا عالمه «القاتم» المستحدث على المتلقي الذي يبقى مشدوها أمام عجائبيّة وهول المشهد.