عن أنواع الكذب الثلاثة: كذب أبيض وكذب بواح وأفلام وثائقيّة… وكبير مستشاري البيت الأبيض صانع أفلام وثائقيّة

حجم الخط
2

هل تُدركون من هو أكثر مخرجي الأفلام الوثائقيّة تأثيراً في العالم اليوم؟ ليس مايكل مور حتماً، بل لربما يكون ستيف بانون، كبير مستشاري البيت الأبيض، والذي يُعتقد على أوسع نطاق أنه العقل المدّبر والموجه الأخطر في الحلقة الضيقة من رجال الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.
هذا على الأقل ما يعتقده لارس تيرير موجنسن، رئيس مهرجان كوبنهاغن الدّولي للأفلام الوثائقيّة بدورته الثالثة عشرة، التي انتهت في العاصمة الدنماركيّة الأسبوع الماضي.
كان موجنسن يتحدث في ورشة افتتاحية أول أيام المهرجان عُنْوِنت بكل بساطة «الحقائق البديلة: عرض ستيف بانون الواقعي».
بالطبع لم يكن أحد ليتوقع في دورة المهرجان السنة الماضية الوصول حتى حدود هذه النقطة، وبانون ذاته كان على الأكثر مجرد مخرج أفلام وثائقيّة متحذلق وذا نفس يميني تعرض أعماله على قناة «فوكس» اليمينيّة المحافظة وأمثالها، ولا تكتب عنها الصحف (الليبراليّة) الكبرى إلا للازدراء والتهكم.
لكن الخبراء يتحدثون اليوم بأن سلسلة أعمال بانون الوثائقيّة، التي أخرجها خلال السنوات الأخيرة تُشكّلُ الحلقة المفقودة لفهم التحول في مزاج الناخبين الذين أسقطوا هيلاري كلينتون، مرشحة المنظومة النيوليبراليّة الحاكمة لمصلحة المرشح الشعبوي – الرئيس – دونالد ترامب.
بدأ بانون علاقته بالإنتاج التلفزيوني في عقد تسعينيات القرن المنصرم من خلال توزيع الأفلام والاستثمار في الأعمال الدراميّة، ويبدو أنه حاز ثروة صغيرة من استثماره في «ساينفيلد»، المسلسل الكوميدي ذائع الصيت، ذي الصبغة اليهوديّة، رغم كل ما يتشدق به موقعه الإخباري الحالي على الإنترنت من عداء مضمر لما يسمى بالساميّة أو اليهود على سبيل التحديد.
اعتبارا من العام 2004 انطلق في رحلة الإنتاج التلفزيوني كتابة وإخراجاً وإنتاجاً، فقدّم سلسلة من الأفلام الوثائقيّة، التي عرض أهمها في فترة آخر خمس سنوات قبل إعلان ترامب رئيساً في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي.

وثائقيات كانت بنية تحتيّة لحملة ترامب

في 2010 أنجز بانون فيلم «الجيل صفر»، الذي حاول فيه نقل اللّوم بشأن الأزمة الماليّة العالميّة في 2008 من البنوك والمؤسسات الرأسماليّة إلى المواطن الأمريكي العادي، معتبراً أن الأزمة نتاج فشل الثقافة الأمريكيّة من الستينيات إلى القرن الجديد لا فشلاً بنيوياً لمنظومة الرأسمال. لحقه في العام نفسه فيلم «المعركة من أجل أمريكا» الذي كان بمثابة دعوة عنصريّة «لاستعادة بلادنا أمريكا» وهجوماً مبطناً على حكم الرئيس أوباما قبل أن يعود عام 2012 ليطلق هجوماً صريحاً على الرئيس باراك أوباما عشيّة انتخابات التجديد لفترة رئاسيّة جديدة من خلال فيلمه «الأمل والتغيير»، وفيه يقدّم شهادات لأمريكيين وأمريكيات انتخبوا أوباما في 2008 لكنّهم في 2012 شعروا بكثير من خيبة الأمل والندم على خيارهم، ليلحقه بفيلم آخر العام ذاته بعنوان «كشف القناع عن (حركة) احتلوا»، الذي ادعى فيه بانون أن حركة «احتلوا وول ستريت» وبعض المدن الأخرى لم تكن سوى تكتيك ليبرالي لتسهيل إعادة انتخاب باراك أوباما للفترة الرئاسيّة الثانية.
لكن أكثر أفلامه تأثيراً كان ربما الوثائقي «كلينتون كاش»، الذي هو أفظع هجوم تعرّض له الزوجان بيل وهيلاري كلينتون عام 2015 خلال مرحلة التحضير للانتخابات الأخيرة، فيكشف عن مداولاتهما الماليّة المشبوهة وجشعهما اللامتناهي لجمع الأموال. وقد تناقل ملايين الأمريكيين ذلك الفيلم عبر «اليوتيوب» ووسائط التواصل الاجتماعي الأخرى ووصل إلى قطاعات واسعة من الناخبين.

جئتكم كي أحوّل الأفلام سلاحاً

وثائقيات بانون المصنوعة على نمط وثائقيات مايكل مور – عرّاب الوثائقيات – لكنها وعلى خلاف أعمال مور العبقريّة والبناءة، وإن أعطت من النظرة الأولى إيهاماً بالعمق والانحياز لسلطان الأخلاقيات والبحث العميق، فإن التدقيق فيها يكشف عن تعامٍ مقصود عن جوانب (سلبيّة أو إيجابيّة حسب الشخص موضع الهجوم) مقابل التركيز الكثيف على جوانب أخرى ودون تقديم أي طروحات بديلة لنظريته المزعومة في تفسير العالم. فهو في فيلم سابق له عن الرئيس الجمهوري رونالد ريغان يغفل ذكر فضيحة «إيران – كونترا»، وكأنها لم تكن، وفي فيلمه عن اليمينيّة سارة بولين، ينقل معظم كلامها من مذكراتها، التي كتبت لها فتبدو شديدة الحكمة والتعقل على غير الواقع.
بانون لم يعتذر بالطبع عن ذلك، فهو يقول «أنا دخلت صناعة الوثائقيات كي أحوّل الأفلام سلاحاً». وهو يصف أسلوبه الفني بأنه «حركيّ» يستهدف السيطرة على المشاهد وترافقه موسيقى عنيفة أشبه بتلك التي يمكن أن تكون في أفلام الانحرافات السيكولوجيّة مع مؤثرات بصرّية ساذجة في رمزيتها وتنميطاتها (دولارات ملطخة بالدماء في فيلم «كلينتون كاش»، وبنايات عالية تنهار، وديكتاتوريون أفارقة سود وهكذا) مع اختيارات مقحمة من الكتاب المقدّس، ليس لها محل إعرابٍ في سياق الفيلم.
بالطبع هو ليس وحده غول ساحة الأفلام الوثائقية ذات النفس اليميني في أمريكا والتي تعرض على التلفزيونات الأمريكيّة، لكنه لا شك يتمايز عن الآخرين بإحساسه الشعبوي وقدرته الفائقة على استفزاز دواخل قطاعات واسعة من الأمريكيين العاديين.
فهو يُظهر نفسه من خلال أفلامه كعدو للمؤسسة، ضد العولمة وضد عصابة واشنطن ونخب المدن الكبرى الفاسدة، وأيضاً ضد الصين وضد السلالات الأمريكيّة الحاكمة وقدّم أيضاً نوعاً من انتقام أخلاقي نقي ضد كل من سرق «أمريكا» من أهلها البيض (الأصليين) – طبعاً لا وجود للهنود الحمر في قاموس بانون -.

ترامب و «بريكست» ونظام «وثائقي» جديد

سيرة بانون الفنيّة هذه لا شك تثير القلق على مستويين، أوّلهما أن هذا الرّجل بأفكاره الشديدة الانحياز، والشعوبية المفتقدة إلى العمق النظري أو البحث النزيه أصبح اليوم الصوت الأعلى صدىً في رأس الرجل، الذي يحكم الإمبراطوريّة الأكبر في هذا العالم.
أما المستوى الآخر فهو سوء الفهم لدى غالبية الجمهور العادي من غير العاملين على إنتاج «الحقيقة» عن الأفلام الوثائقية بتصورها عموماً منتجات تسجّل الوقائع وتبحث عن الحقائق وهذا أبعد ما يكون عن روحية الواقع. فالوثائقيات منذ خلقت هي – كما يقول ملك الوثائقيات ج. جريسون – بمثابة دين معاصر يقدّم للكتل الشعبيّة الأفكار والمفاهيم، كما تريد لها النخبة المهيمنة أن تعتقد وتصدّق. أي كما وصفها عناوين أحد الكتب: هناك كذب أبيض، وكذب بواح ووثائقيات!
المؤسف دوماً أن الكثيرين ينتهون إلى تقبل وجهات النظر المبرمجة التي يطرحها أمثال بانون وكأنها حقائق موثوقة، وينتخبون شعوبيين مثل ترامب، أو يختارون «البريكست»، نكاية بالليبراليين، الذين سرقوا الخبز والطحين والخميرة والفرن معاً. وهي النتيجة التي يخلص إليها الحاضرون في مهرجان كوبنهاغن للأفلام الوثائقية: لقد انتفى تماماً الخط الفاصل بين الحقيقة والمُتخيّل في الأعمال الوثائقيّة، وإذا استمر هذا الاتجاه في التكرّس بمعالجة القضايا السياسيّة، فلربما ينبغي إعادة النظر في طبيعة المهرجان ذاته وفتحه للأعمال الدراميّة العاديّة، وتحويله إلى نسخة إسكندنافيّة من مهرجان «كان».

إعلامية لبنانية تقيم في لندن

عن أنواع الكذب الثلاثة: كذب أبيض وكذب بواح وأفلام وثائقيّة… وكبير مستشاري البيت الأبيض صانع أفلام وثائقيّة

ندى حطيط

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الدكتورجمال البدري:

    رائعة أنت سيدة ندى حطيط…لديك قدرة على التقاط الخيط الأبيض من الخيط الأسود بمهارة ( خيّاط ).كي تخرجين للقاريء بدلة قياس تصلح
    لكلّ المواسم ؛ من دون تفريط ولا افراط.( هناك كذب أبيض، وكذب بواح ووثائقيات! ).وهناك نوع آخرمن الكذب هوكذب المغفلين الذين يقعون ضحية أحد أنواع الكذب الثلاثة.عنوان مقالك يذكّرني ببعض حكايات ألف ليلة وليلة ؛ إذْ يبدأ الراوي من الإطارليدخل إلى الحكاية الأم وهي ( الحوش ) ومنها إلى الحكاية الوسطى التي تسمّى ( المجاز ) ومنه يتسلل إلى الحكاية الصغيرة وهي ( القبو) ومنه يدلف فجأة إلى عالم فسيح
    من الفلاة هو( الباب ).وهكذا جاء عنوان المقال بذكاء واحتراف : ( عن أنواع الكذب الثلاثة : كذب أبيض وكذب بواح وأفلام وثائقيّة… وكبير مستشاري البيت الأبيض صانع أفلام وثائقيّة ).

  2. يقول سامح //الأردن:

    *مع كل الإحترام والتقدير للأخت الكاتبة ندى
    والأخ المبدع د.جمال.
    *ما دام في كذب (أبيض)
    المفروض في أيضا كذب (أسود)..؟؟؟
    *اصحاب الكذب الأبيض شريحة من (الأبرياء)
    أما أصحاب الكذب الأسود شريحة
    من الدجالين والانتهازيين ومعظم السياسيين
    حياكم الله جميعا.
    سلام

إشترك في قائمتنا البريدية