يبدو أن الثورة المضادة تمكنت من إنتاج كيان مواز متحكم في مفاصل المؤسسات الحكومية والعامة والخاصة ومهيمن على أنشطة الاستهلاك والقطاع الخاص والصحافة والإعلام؛ وهذا أعاد الذكرى غير السارة للرئيس الموازي جمال مبارك وما فعله بأهل مصر.. وانتهى الأمر بسقوطه المدوي، بعد ما طفح الكيل وانفجر الطوفان البشري، الذي أزاح الكيان الموازي ومن يَمُتُّ له بصلة قرابة أو مصلحة، وهذا كشف عن حالة بدت موجودة ولم يكن هناك من يشعر بها مثلما نشعر بها الآن، وتمثلت في سهولة إجهاض التغيير وسلب قدرة الناس على مواصلة الثورة، وتعتبر ثورتا يناير ويونيو مثالين يؤكدان وصول هذه الحالة إلى ذروتها.
تحولت أحلام الثورة في العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية إلى كوابيس أصابت المواطنين بالأرق، وأطارت النوم من عيونهم، وشلت تفكيرهم، الذي ناء بما يحمل. والثورة بطبيعتها حالمة (رومانسية)، وحين تبدأ التعامل مع الواقع ينقلب الوضع ويتبدل الحال إلى صدام مع شبكات المصالح والفساد المعقدة، وهذا يسبب صدمات للثوار ولمن وقفوا في صفهم ودافعوا وما زالوا يدافعون عنهم.
ولإجهاض الثورات في مصر جذور وتاريخ؛ بدأ حديثا نسبيا بثورتي القاهرة الأولى والثانية في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر. وفي الماضي القريب ومنذ خمسة وأربعين عاما ونيف، وحين دار الزمان دورته هبت على مصر رياح معاكسة مضادة للثورة. وإذا بأنور السادات ينقلب على ثورة ونظام سياسي وحكم كان مشاركا في بنائه وتأسيسه، وكان جزءا منه، وفي البداية كان دائم التذكير؛ بالتصريح تارة والتلميح تارة أخرى، بأنه شريك لجمال عبد الناصر؛ في كل خطوة خطاها، وذلك قبل زيارة كيسنجر البائسة في نوفمبر 1973!!.
وكثيرا ما خانت النوايا السادات رغم حرصه ومراوغاته ومناوراته، وحين يُذكَر اسم عبد الناصر يبادر بالدعاء: «الله يرحمه»؛ بطريقة وبنغمة توحي بعكس ما يقصد، ولم يغب ذلك عن فطنة شعب لماح، ومن يَعود للنكت المصرية في تلك المرحلة فسوف يجدها كاشفة لكثير من نواياه، واستمرت إساءاته، ولم تنقطع ممن أتوا بعده حتى يومنا هذا، لعبد الناصر وثورة يوليو، واختصر السادات طريقه واصفا انقلابه بـ«ثورة التصحيح»، وبذلك جسد الثورة المضادة بفكرها وفسادها وتوحشها وعنصريتها.
أقتُلِعت جذور الثورة من التربة الوطنية؛ الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية، وبعد حرب 1973، تسللت جحافل الثورة المضادة إلى قلب المؤسسات الرسمية والمنظمات الأهلية وبين صفوف الرأي العام؛ بلغة ما زالت سارية، وبقيت على تحفزها واستمرت في تقديم أوراق اعتمادها لرعاتها
وبدأ الإجهاض بإجراء استعراضي لحرق أشرطة تسجيل، قيل أنها لمكالمات سجلتها الأجهزة الأمنية للمواطنين؛ في وقت كانت الهواتف في مصر محدودة للغاية، ولم يكن العالم قد وصل إلى حالته الراهنة من التقدم في عالم الاتصالات.. وصُوِّر الأمر وكأن جموع المصريين، وغالبيتهم من الفقراء وذوي الدخل المحدود؛ كأنهم خاضعون للرقابة الدائمة، والتنصت المستمر، في صورة فكاهية وساخرة أشبه بحالة جسدها عادل إمام في احدى مسرحياته حين ذهب ليشكو من الرسوم المطلوبة منه عن مكالمات لم يجرها، لأنه ليس لديه هاتف من الأصل، ومع رفض شكواه، جاء الإصرار بدفع الرسوم والقول: «يا تدفع يا إما نشيل العدة»، وقال مخاطبا الجمهور: «بيني وبينكم انا خفت على العدة بصراحة، رحت دافع ولا هممني حاجة»!!.
السؤال ما هي مناسبة ذكر السادات؟؛ قد يظن البعض أن السبب هو قرب تاريخ مولده في 25 ديسمبر؛ بعد اسبوعين من الآن.. وهو نفس تاريخ ميلاد السيد المسيح (عليه السلام) حسب التقويم الغربي.. وكان رأي السادات أن التوافق في التاريخين لم يأت صدفة!! وكانت مناسبة يحتفل بها ويوجه فيها حوارا متلفزا ومطولا مع الإعلامية الراحلة همت مصطفى. وسبب ذكر السادات هو لاسترجاع خبرته في الاغتيالات، وكان أحد ممارسيها، وشارك عبد العزيز خميس ومحجوب علي محجوب وحسين توفيق، ومحمود يحيى مراد؛ شاركهم في عملية اغتيال وزير المالية «الوفدي» أمين عثمان في يناير 1946. وتخرجت من هذه المدرسة أجيال اتقنت الاغتيالات والتصفيات الجسدية للخصوم الحزبيين والسياسيين، وهذا قربه من جماعة الإخوان المسلمين
وأخطر عمليات الاغتيال هو اغتيال الثورة من داخلها.. وذلك حدث في انقلاب مايو 1971، وهي خبرة استفادت منها الإدارة الأمريكية في إسقاط الاتحاد السوفييتي السابق من داخله، وكان إمبراطورية نووية عظمى مترامية الأطراف. وكان السادات عضوا في تنظيم «الضباط الأحرار» الذي قام بثورة 1952، وأصبح عضوا في مجلس قيادتها، واختار الجانب الأكثر أمانا بالولاء المطلق لقائدها، وعند التصويت على أي قرار كان يكرر التأكيد على أن صوته لجمال عبد الناصر يتصرف فيه كيف يشاء، وفكرة اغتيال الثورة نمت لديه مع تعيينه أمينا عاما للمؤتمر الإسلامي، ومن خلاله اقام «علاقة خاصة» برئيس المخابرات السعودية كمال أدهم؛ وكان على علاقة بالمخابرات الأمريكية بحكم وظيفته، وتعاونا معا على إجهاض ثورة يوليو، وكان السادات محسوبا عليها، وإسقاط دولتها وكان مسؤولا فيها!!.
وكنت على قناعة وما زلت؛ أن ثورة 25 يناير مختلفة عن كل ما سبقها من ثورات؛ لم تركن إلى حزب، ولم تلجأ لجماعة، ولم تعتمد على طائفة؛ ولا راهنت على مذهب؛ كانت عابرة لكل الحواجز التي بين تلك القوى والجماعات. وبقدر ما كانت هذه السيولة مصدر قوتها كانت مقتلها أيضا.. ولست مع ما قيل عن أصابع خفية أو معلنة؛ داخلية أم خارجية؛ كيف لها أن تفجر طوفانا بذلك الحجم، أو تتصدى له إذا ما حاد عن السبيل؟، ومع كل ما جرى لثورتي يناير 2011 ويونيو 2013، فعجلة التغيير تحركت لن تتوقف؛ حتى لو تعثرت وتأجلت أو تعطلت عن بلوغ منتهاها، وتحتفظ بقوة دفع تعيد عجلاتها إلى الدوران.
ومن يدقق في عمق المشهد المصري سوف يلحظ وعيا مرتفعا ومتقدما بين الشرائح الوسطى والدنيا من الطبقة المتوسطة، وبين جمهرة محدودي الدخل والكادحين والفقراء وصغار الكسبة، وذلك في تناقض واضح مع سلطة تنفيذية غائبة، وإدارة سياسية مرتبكة، ومجلس تشريعي أشبه بإدارة أمن ملحقة بمجلس الوزراء، وجميعها لا تملك وعيا كافيا، ولا ترى أبعد من وقع أقدامها.. وثقافة الغالبية العظمى منها ضحلة.. ودائمة البحث عن حلول لمشاكلها المستعصية من خارج مصر، وتستعين بالحلول المعلبة، وتطلب المال من أي مصدر وتقبل بشروط الدائنين.
إنه عمى اجتماعي وعجز سياسي؛ أدى إلى العودة إلى «دفاتر قديمة» لا تسعف، وتعيد إنتاج الفشل، ومعه يمطرون الشعب باللعنات صباح مساء، ويوجهون إليه الإهانات واللعنات المستمرة، وبين يوم وليلة اضحى شعب مصر العريق بلا ميزة.. حتى لو كان قد وثق في من يلعنونه ويسبونه يوما، ونسوا أنه أوصلهم إلى مقاعد الحكم والسلطة.
٭ كاتب من مصر
محمد عبد الحكم دياب