عن الزيدية السياسية

حجم الخط
3

في البدء، لابد من الإشارة إلى أن «الزيدية السياسية» المقصودة في هذا الطرح ليست المذهب الديني المعروف في اليمن، الذي يسمي «سنة الشيعة»، كما سميت الشافعية، كمذهب ديني في اليمن «شيعة السنة».
المقصود بـ «الزيدية السياسية» هنا، تلك «الآيديولوجيا الزيدية» التي أدخلها الحوثيون على المذهب الزيدي، لربطه مباشرة بمشروع «التشيع السياسي» في المنطقة، وعلى وجه الخصوص مشروع «ولاية الفقيه»، في إيران، حيث اقتبست «الزيدية السياسية» لا الدينية كل شعاراتها ومقولاتها، ومفردات قاموسها السياسي والآيديولوجي من «ولاية الفقيه»، بشكل يجعل «الزيدية السياسية» في اليمن ممثلة بالحركة الحوثية – عند الكثير من الباحثين – صورة كربونية من «ولاية الفقيه» في إيران.
وتعد «ولاية الفقيه» في إيران النموذج الأمثل لعمليات «تسييس التشيع» في العالم الإسلامي، حيث قام تحالف غير نزيه بين رجال دين شيعة مع عدد من رجال السياسة، أو لنقل تمت عمليات متسقة لمزاوجة «التشيع الديني» بـ»الطموح السياسي» في ثوبه القومي الفارسي، لإنتاج آيديولوجيا «ولاية الفقيه» في إيران، التي تعد محاولة من محاولات «السياسي» لاستغلال «الديني» لتحقيق مصالح سياسية واقتصادية تتمثل في الاستحواذ على كعكتي السلطة والثروة. وإذا كانت «الزيدية السياسية» لا تمثل «الزيدية الدينية» في اليمن، وإنما تمثل طموحات «الهاشمية السياسية» في العودة إلى السلطة في البلاد، بعد الإطاحة بها في عام 1962، فإن «ولاية الفقيه» لا تمثل «الإثني عشرية الدينية»، وإنما تمثل طموحات «القومية الفارسية» في العودة إلى أمجاد إمبراطورية تاريخية تلح على القوميين الفرس لتحقيقها، لتتكشف «ولاية الفقيه» عن كونها «كسروية جديدة» بطموحات قومية، ولكن في ثوب إسلامي، تماماً كما تكشفت «الزيدية السياسية» عن كونها «هاشمية سياسية» بطموحات سلالية، ولكن في ثوب ديني.
وبعد أن نجح «التشيع السياسي» في إيران في الوصول إلى الحكم في ثورة عام 1979 الخمينية، ظن الخميني أن التجربة الإيرانية يمكن استنساخها بمحاولة تصدير ليس «التشيع الديني»، ولكن «التشيع السياسي»، أو ما بات يعرف بـ«ولاية الفقيــــه» على الطــــريقة الإيرانــــية، إلى عدد من الأقطار العربية المستهدفــــة بعمليات «التشيع السياسي» المحمومة، التي وصلت ذروتها بزرع مليشيات طائفية، ولاؤها ليس للدولة الوطنية العربية، ولكنها ترتبط آيديولوجيا وعاطفياً بالمشروع الأصلي في إيران.
من هنا استلهمت «الهاشمية السياسية» في اليمن، التي لا تعني الهاشميين اليمنيين، وإنما تعني طامحين سياسيين منهم، وأصحاب مصالح مرتبطين بهم من غيرهم، استلهمت مشروع الخميني في إيران، وسعت للتأسيس لضرب آخر من «التشيع السياسي» في اليمن، خرجت به عن مقتضيات الزيدية كمذهب ديني، وذلك بالتأسيس لـ»الزيدية السياسية» الجديدة في نسختها الحوثية، التي استلهمت شعار الخميني المخــــاتل «الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل»، ثم انطلقت تنهل من مفردات القاموس الثقافي الإيراني بشكل آلي رتيب، يشعر الكثير أنه لا يتطابق مع البناء الاجتماعي، والتكوين النفسي والفكري لليمنيين.
والحقيقة أن عدداً من علماء المذهب الزيدي في اليمن حذروا من «أدلجة المذهب» على يد حسين الحوثي (قتل في عملية للجيش اليمني عام 2004 بعد دخول جماعته في صدامات مسلحة مع الجيش اليمني حينها)، غير أن الحوثي مضى بعد عودته ووالده من إيران في مشروعه لا يلوي على شيء، رغم تحذيرات عدد من رجال المذهب الديني له من الخروج على مقتضيات المذهب، والزج به ليكون «وسيلة دينية» لتحقيق أهداف سياسية لعدد محدود جداً من الانتهازيين الهاشميين لا يمثلون أغلبية الهاشميين في اليمن سواء كانوا سنة أم شيعة. والواقع أن محاولات «الهاشمية السياسية» في اليمن البحث عن «إطار آيديولوجي» للعمل السياسي امتدت لفترة طويلة، لا نبالغ إذا قلنا إنها تعود إلى السنوات الأولى لهزيمة مشروع «دولة الإئمة الزيديين» التي انهارت كدولة عام 1962، لتستمر «الهاشمية السياسية»، بعد ذلك كفكرة تبحث عن قالب ديني مؤدلج، كرسه حسين الحوثي في حركته التي أصبحت طليعة «الزيدية السياسية»، التي لا تعني بحال من الأحوال «الزيدية الدينية»، التي تعايشت مع المذهب الشافعي السني في اليمن لقرون طويلة؟ إن خطورة «الزيدية السياسية» تأتي من كونها عملية «أدلجة» للمذهب الزيدي، وتسييس للتشيع الصافي ليخدم مشروع «الهاشمية السياسية» في اليمن، التي كشرت عن أنيابها، بعد دخول الحوثيين صنعاء يوم 21 سبتمبر 2014 على وجه التحديد.
خطورة «الزيدية السياسية» أنها تستهدف «الزيدية الدينية» في اليمن كمذهب ديني، ثم إنها تستهدف الهاشميين اليمنيين، الذين لا شك أنهم سيدفعون – للأسف – ثمن تهور مشاريع الحوثيين، الذين كرسوا الفرقة الطائفية والسلالية بين اليمنيين إلى حد مريع. وقد أخذت «الزيدية السياسية» عدة مسارات في سعيها لاستعادة «الحق الإلهي» المنصوص عليه في نصوص دينية «اختلقت» في المذهب الزيدي، تمثلت باشتراط أن تكون «الإمامة السياسية» في رجل من «البطنين»، وهما نسل الإمامين الحسن والحسين، ليضمن الإمام الهادي يحيى بن الحسين (مؤسس دول الأئمة الزيديين) بقاء السلطة والثروة في أولاده من بعده.
وقد عبرت «الزيدية السياسية» ـ كأداة آيديولوجية في يد «الهاشمية السياسية» ـ عن نفسها في أكثر من شكل، وأكثر من تنظيم، حيث أسس القاضي أحمد فليته – وهو والد الناطق الرسمي باسم الحوثيين اليوم محمد عبدالسلام – ما سمي بـ «تنظيم الشباب» في ثمانينيات القرن الماضي، ثم ظهر تنظيم «الشباب المؤمن» عام 1991 بإيعاز من العلامة بدر الدين الحوثي على أساس من «تنظيم الشباب» القديم، إلى أن أخذت الحوثية فيما بعد اسم «أنصار الله» عام 2010، مكرسة ارتباطها العضوي بـ»التشيع السياسي» في إيران الذي يروق له أن يدرج لفظ الجلالة المقدس «الله»، في معظم شعاراته للتغطية على المصالح السياسية بـ»المقدسات الدينية». ويتضح ذلك في تسمية معظم الحركات والتنظيمات التي أنشاتها إيران من مثل: حزب الله، وثأر الله، وبقية الله، وغيرها من التنظيمات المليشاوية الشيعية، التي أنشئت لشق الصف العربي لصالح مشروع «التشيع السياسي» في بعده القومي الفارسي.
وفي مقارنة بين الزيديتين: الدينية والسياسية، فإن الزيدية الدينية خرَّجت كبار الإئمة المجتهدين في العالم الإسلامي من مثل الشوكاني والمقبلي وابن الوزير، والذين تعرضوا للأذى من رموز «الزيدية السياسية» القديمة، من حكام زمانهم الذين لم ترق لهم الطروحات الفكرية والفقهية التي أتى بها هؤلاء الأئمة المجتهدون الأحرار. وفي المقابل فإن «الزيدية السياسية» قدمت لنا نماذج مرعبة من حركات «العنف السياسي»، التي سفكت دماء مئات الآلاف من اليمنيين على مدى تاريخ دموي من حكم وصراعات «الإئمة الزيديين»، على اعتبارات دينية زائفة تأتي في مقدمتها نظرية «الحق الإلهي» سيئة الصيت. وما العنف الذي يمارسه الحوثيون اليوم في اليمن، إلا تجاوب مع طموحات هذه «الزيدية السياسية»، التي جن جنونها بعد أن خرج مؤتمر الحوار الوطني في اليمن الذي انتهى في يناير عام 2014 بأهم مخرجين، وهما: التأكيد على «المحتوى الديمقراطي» للعملية السياسية، الذي يعني الوصول للسلطة عبر الانتخاب الشعبي الحر، وهو ما يتعارض مع مقولات «حصر الولاية في البطنيين» التي أتت بها «الزيدية السياسية»، والتي لا تعتمد على «الانتخاب الشعبي»، ولكن على «الاختيار الإلهي»، حسب العلامة بدر الدين الحوثي. والمُخرج الآخر من مخرجات الحوار الوطني التي أغضبت «الزيدية السياسية» يتمثل في «نظام الأقاليم الفيدرالي»، الذي يعني فقدان السيطرة على ثروات البلاد من قبل المركز الذي نهب هذه الثروات لسنوات طويلة.
وتعد انطلاقة الحوثيين المجنونة لتقويض العملية السياسية بعد انتهاء مؤتمر الحوار الوطني مباشرة دليلاً على تخوف «الزيدية السياسية» في بعدها المناطقي الجهوي من هذين المخرجين، أعني «المحتوى الديمقراطي» للعملية السياسية، الذي لن يمكنهم من الاحتفاظ بالسلطة على أسس دينية، و»نظام الأقاليم الفيدرالي»، الذي يعني كبح نهم «الزيدية السياسية» لنهب ثروات اليمنيين على أساس مركزية الدولة اليمنية.
كاتب يمني من أسرة «القدس العربي»

د. محمد جميح

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول خالد-اليمن:

    تعظيم سلام للدكتور /جميح
    مهما تحاول تجميل السياسية الزيدية وهذا دليل حبك للم الشمل واللحمة اليمنية
    وتسامحك واخلاقك النبيلة .ولكن للاسف هم لايفهمون هذا الحس الوطني الذي تمتلكة…..(يايحكمك يا يقتلك ).هولائي هم اصحاب مطلع كما نسميهم لاامل فيهم كلهم قبليين وعسكر ومشايخ وسادة وعلمانيين ومتعلمين للاسف الحكم لهم وبعدها نتفاهم يقولك

  2. يقول الكروي داود النرويج:

    أكد أساتذة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة أن «جماعة الحوثي» مخترقة فكراً وثقافة ومنهجاً ومذهباً من قبل دولة إقليمية استطاعت أن تؤثر على زعيمها الأول بدر الدين الحوثي وتستقطبه للدراسة وتغير مذهبه لما يعرف بالجارودية القريب جداً من المذهب الاثني عشري الذي رفضه أعلام وأئمة المذهب الزيدي.

    ولهذا فالحوثيين ليسوا زيدية على مذهب الامام زيد بن علي زين العابدين بن الحسين السبط بن الإمام علي بن أبي طالب.

    ولا حول ولا قوة الا بالله

  3. يقول حواء-اليمن:

    للأسف وجدت الزيدية السياسية حاضنة شعبية لدى بعض القبائل التي اعتادت أن يأتيها رزقها رغدا واستغلت أيضا البطالة والحاجة وخاطبت النزعة التسلطية لدى البعض والرغبة في استعادة أمجاد السلطة لدى البعض الآخر والعصبية المذهبية والنزعة التسلطية محدثة ردة مجتمعية يتمايز فيها الناس بحسب النسب والولاء المذهبي والانتماء القبيلي وهذا الشرخ المجتمعي الذي أحدثته بدأت تتكشف للعيان مظاهره الخطيرة ولاعزاء للمستنيرين.

إشترك في قائمتنا البريدية