يحاول بعض الباحثين الغربيين كالبريطاني دوغلاس جونسون، التقليل من دور الاحتلال الإنكليزي في تشكيل ما سيعرف خلال القرن العشرين بمشكلة جنوب السودان.
مثل أولئك «الخبراء» يعتبرون أنه من المبالغة القول بأن الإجراءات التي اتخذها المستعمر آنذاك كانت هي السبب الأساس وراء الحرب الأهلية التي استمرت قرابة النصف قرن. بتهرب واضح سيتم تحميل المسؤولية للحكومات الوطنية المتعاقبة التي فشلت في احتواء الجنوبيين، وخلق مجتمع متجانس وسيعتبر ذلك السبب الأهم لاستعار الحرب وبزوغ الرغبة في الانفصال.
سميت ذلك تهرباً لأن أصل المشكلة يكمن في ذلك الشعور بالاختلاف الذي سيطر على المواطنين الجنوبيين وصور لهم أنهم ينتمون إلى ثقافة خاصة وخلفيات لا يمكنها بأي حال أن تلتقي مع تلك الشمالية تحت أي مظلة كانت. إذا اتفقنا على ذلك فسوف تصبح تبرئة المستعمر صعبة، خاصة إذا تساءلنا عن الكيفية التي ولد بها ذلك الشعور بالاختلاف. وليس المقصود بالاختلاف هنا التباين الحتمي بين البشر الذي تفرضه الطبيعة والموجود حتى بين أفراد الأسرة الواحدة، لكن المقصود هو ذلك النوع من الاختلاف الذي يجعل الحياة تحت سقف وطن واحد مستحيلة، والذي يصور الحرب والمطالبة بالانفصال حلا وحيدا. من أين جاء ذلك؟ وهل يمكن أن يكون قد حدث بعفوية وبلا تخطيط من الدولة العظمى التي تحكمت إدارياً في تلك الرقعة الجغرافية خلال النصف الأول من القرن العشرين؟
على كل حال فإن ما فعلته بريطانيا من زراعة لأسباب التفرقة والتقسيم لم يكن بدعة، بل نهجاً استعمارياً غالباً مارسته القوى الامبريالية المختلفة كل بطريقتها وشكلت جميعها نواة لأحداث دامية وصراعات مأساوية في عدد كبير من المستعمرات السابقة، وليست مجازر رواندا المبنية على نظرية وهمية تدّعي وجود اختلاف أصيل بين الهوتو والتوتسي منا ببعيدة. أولئك المستعمرون لم يكتفوا بتورطهم المبدئي، بل كانوا دائماً هنا وعلى طول مسار تلك الصراعات التي لم يدخروا وسعاً في سبيل تغذيتها بالنظريات والدعم الأخلاقي واللوجستي، من أجل أن يصبح التنوع داخل المجتمع الواحد مستحيلاً. هنالك تصور تبسيطي للمسألة السودانية يفترض أن أساس الاختلاف ديني بين الشمال المسلم ذي الثقافة العربية والجنوب المسيحي ذي الثقافة الأفريقية وأن التدابير الاستعمارية، التي كانت ذروتها عام 1932 بالقانون الذي صنع ستاراً حديدياً بين الجنوب وبقية أجزاء السودان، إنما جاءت لحماية الثقافة المسيحية. لكن بالإمكان دحض كل ذلك ببساطة، فالجنوب لم يكن في ذلك الوقت، وربما حتى الآن، بثقافة مسيحية غالبة، بل كان مجتمعاً يقوم بشكل أساس على الديانات المحلية، ولا تشكل له الديانة سبباً للاحتراب أو الاقتتال. الذي حدث هو أن المستعمر نجح في استغلال الدين وتصوير الصراع كصراع صليبي، وهو ما سيجعل القضية تأخذ زخماً أكبر عند الغالبية المسلمة التي ستستفزها حملات التنصير والتشويه وعند الحكومات والمنظمات الغربية التي ستتدخل لاحقاً بذريعة حماية حقوق المسيحيين.
فرق تسد نظرية قديمة وتقسيم الخصم إلى كتل ومجموعات صغيرة عوضاً عن مواجهته ككل موحد أيضاً نظرية بالقدم ذاته، ولم نكن ننتظر الكتابات والتسريبات الغربية المتأخرة حتى نقتنع بأن تقسيم دول المنطقة وإشغالها بالصراعات هو ضرورة لحماية المصالح الاستعمارية. نزعم اليوم، واتكاء على الدراسات الكولونيالية المعاصرة، أنه حتى لو كان السودانيون جميعهم، على دين واحد ومذهب واحد، فإن المستعمر لم يكن ليعدم وسيلة لاختلاق اختلاف. المثال الأوضح هنا هو المثال الصومالي، فبعكس الحالة السودانية نحن هناك إزاء شعب متماسك يتكلم اللغة ذاتها ويدين بالدين نفسه وينتمي للخلفية القبلية ذاتها. رغم ذلك فقد استطاع الدهاء الاستعماري أن يفرّق بين هرغيسا في الشمال التي ستخضع للاستعمار الانكليزي ومقديشو في الجنوب التي ستكون مستعمرة إيطالية واليوم، ونتيجة لذلك، فقد وصل العداء بين أبناء العمومة حد مجاهرة أبناء الشمال بالرغبة في الانفصال وإعلان استقلالهم من جانب واحد، مرة أخرى بذريعة أن الاجتماع مع أولئك «الجنوبيين» غير ممكن.
في أحايين كثيرة يكون مجرد التقسيم لكيانين كبيرين غير كافٍ، فالمحتل الأمريكي، وخلفه النظام الدولي، لم يكتف بتقسيم العراق إلى سنة وشيعة، بل عمد إلى تشجيع الانفصاليين الأكراد الذين آمنوا باختلافهم عن بقية السنة، كما ساهم النظام المبني على المصالح المالية وتقسيم النفوذ إلى خلق اختلافات حتى داخل الجبهة الشيعية على نحو ما نتابعه حالياً من أحداث تظاهرات ورفض للواقع السياسي بقيادة فصائل معارضة من داخل البيت الشيعي. لن تكون بريطانيا بريئة إذا علمنا أن قانون «المناطق المقفولة» كان يقضي بالأساس بتحريم أي لقاء بين شمال وجنوب السودان، كما كان يقضي باتباع سياسة لغوية في الجنوب تحظر تعلم اللغة العربية، في الوقت الذي تشجع فيه استخدام اللغة الإنكليزية كلغة تعليم وعمل وتخاطب.
القانون الصارم كان يمضي أكثر من ذلك لحرب الديانة الإسلامية وصد محاولات توغلها الحثيث إلى العمق الأفريقي، بعمليات ممنهجة لتشويه المسلمين، في الوقت الذي يتم فيه إظهار الكنائس بشكل براق. وإذا علمنا أنه تفرعت من ذلك القانون قوانين أخرى تحظر استخدام الأسماء العربية والعادات الشمالية في الأكل، خاصة اللباس فيمكننا أن نصل إلى نتيجة مفادها أن التواصل كان طبيعياً بين الضفتين وأن الوضع كان سيكون مختلفاً لولا التفكير في هذه القانون المبني على إحداث جدار ثقافي واجتماعي عازل، فلو كانت القطيعة موجودة لما احتاج البريطاني لمنع الأسماء العربية والأزياء الوطنية بالقوة. أدت هذه السياسة إلى انحسار التجارة بين شطري البلاد واستبدال التجار من شمال السودان بآخرين إغريق أو أفريقيين أو غيرهم، شريطة ألا يكونوا من العرب المسلمين. هذا لم يكن كل شيء فقد تم ربط التعليم ليس فقط بالثقافة الإنكليزية، ولكن أيضاً بالكنيسة، بحيث يتم خلق جيل جديد ونخبة مثقفة تجمع بين الإنكليزية والمسيحية، في الوقت الذي كانت اللغة السائدة في عموم السودان هي اللغة العربية التي ستظل رغم ذلك لغة التواصل الشعبية بين مكونات السودان الكبير.
عن طريق التعليم الكنسي وسياسة الانغلاق نجحت الإدارة الاستعمارية في الترويج للفروق بين العرب والأفارقة وإقناع النخبة الجديدة بأنها أقرب إلى شعوب وسط وشرق أفريقيا ثقافياً، وأن العرب، وهي بالتأكيد تسمية مجازية ومغرضة، لم يريدوا إلا استغلال الجنوبيين كعبيد أو على أحسن حال كمواطنين من درجة ثانية أو ثالثة.
هل كان المستعمرون جادون في قلقهم على المواطنين الجنوبيين؟ هذا مثار شك، ففي فترة الجدار الثقافي العازل تلك والتي احتكروا فيها إدارة الأقاليم الجنوبية، لم يقم البريطانيون بأي أعمال مهمة على صعيد البنية التحتية، لا عن طريق تجويد التعليم وبناء القدرات، ولا حتى عن طريق تنمية الاقتصاد، مما خلق مفارقة بين الحياة الاقتصادية في الشمال والجنوب، وهو ما سيساهم في سيطرة الشماليين على مفاصل الدولة بعد الاستقلال، ليس لرغبتهم في إقصاء الجنوبيين أو تهميشهم، ولكن لأن واقع الحال كان الغلبة الأكاديمية والتدريبية للكوادر الشمالية، مقابل أولئك الذين حرموا من المنافسة بسياسة مقصودة. من الناحية التاريخية بدأت الحرب بالفعل بتمرد جنوبي قبل عام من الاستقلال، لكن الأمور ازدادت سوءاً بعد ذلك، حيث تعاملت الحكومات الأولى مع الجنوب على أساس أنه جزء لا يتجزأ من السودان العربي المسلم، وهو ما جعلها تنظر بقليل من التعاطف لمطالبه وخصوصياته، ومن هذا السياسة التي بدأ في استخدامها الرئيس عبود والتي كان هدفها إعادة الجنوب للثقافة العربية والإسلامية بأي طريقة كانت، ومنع تمدد الإرساليات وأعمال التنصير.
لم يقبل الجنوبيون ذلك ببساطة وتلقوا دعماً خارجياً مهماً من أجل الوقوف ضد عمليات الأسلمة والتعريب، وبدأ آنذاك دعم دول الجوار الأفريقي، التي يغلب عليها التدين المسيحي، للمطالب الجنوبية، فبعد استقلال السودان وانضمامه السريع لجامعة الدول العربية، رأى أولئك أن السودان أدار ظهره لأفريقيا وأنه أصبح جزءاً من محور آخر. استغل السياسيون الجنوبيون ذلك رافضين «عروبة» السودان ومعتبرين أنهم هم السودانيون الأصليون وأن أولئك «العرب» ليسوا سوى غزاة واختاروا «تحرير السودان» اسماً لحركتهم، التي تم استقبالها في الوسط الأفريقي بحفاوة كامتداد لحركات التحرر الأخرى. المستعمر القديم لم يكن بعيداً عن كل ذلك، وكان لاكتشاف الثروة البترولية أثر في استدعاء قوى جديدة لمسرح الحدث زادته تعقيداً.
الخلاصة كانت أن السياسي الجنوبي دخل المفاوضات النهائية بنية الانفصال، فرغم ما قدمه وفد الخرطوم المفاوض من تسهيلات ومرونة كقبول حكم ذاتي للجنوب يكون ذا مرجعيات مختلفة واستثناء الإقليم من القوانين المستمدة من الشريعة لخصوصية سكانه وغير ذلك من اقتراحات، إلا أن المفاوض الجنوبي كان يبدو واضحاً أنه حزم أمره وأن كل ما يعنيه كان تثبيت فترة الحكم الذاتي لخمس سنوات استعداداً للانفصال كدولة مستقلة.
في الشمال أيضاً كان هناك من يظن أن كل المشكلات ستنتهي بانفصال الجنوب، لكن ذلك لم يحدث، فقد ظهرت أزمة دارفور التي سلطت عليها الدول الغربية الضوء بغزارة. لم يكن ممكناً استنساخ نظرية الصراع الديني عند الحديث عن إقليم دارفور المسلم، لذا فقد روّج الغربيون لنظرية مغايرة تعتبر أن مشكلة السودان ليس مشكلة دينية، بل عرقية ولونية بالأساس. أما في الجنوب فقد أدى التخلص من الشماليين «العرب» إلى الصراع بين القبائل المختلفة على توزيعات السلطة والثروة، وهو الأمر الذي سرعان ما تحول لحرب أهلية فاقت شراستها الحرب الأولى. هروباً إلى الأمام سيصبح استفزاز السودان واستنساخ أدبيات العداء القديم استراتيجية يتم اللجوء إليها من حين لآخر كأحد سبل توحيد الجبهة الداخلية.
تدخل الدولتان اليوم مرحلة دقيقة ومهمة في تاريخهما، وهي مرحلة تتطلب التعاطي بحكمة مع التحديات القائمة والاستفادة من دروس الماضي، كما تتطلب تحييد تلك الأصوات التي تسعى، بوعي أو بغير وعي، لتنفيذ أجندات الأعداء المفضوحة.
٭ كاتب سوداني
د. مدى الفاتح