لديّ مشاريع أدبية عريضة وطموحة وأحمل في صدري وتختمر في رأسي أفكارٌ وتصوراتٌ عن مقالاتٍ وتحليلاتٍ تتناول الثورة المصرية المغدورة، والربيع العربي بمآلاته البائسة، في ظل ليل الثورة المضادة الرمادي.
إلا أنني كلما هممت بالكتابة عن تلك القضايا الكبيرة والعميقة والمعقدة، وما أن أستقِر على عنوان مقالٍ استهل به تلك السلسلة المرجوة عصية التنفيذ، إلا ويبتليني النظام المصري بقمعه وبطشه أو الإعلام الدائر في فلكه، بما يشغلني ويحرفني عن تلك المشاريع الأكبر والأهم في نظري؛ يقذفني بمعركةٍ صغيرة، وليس لديّ أدنى شك في أنه يفعل ذلك عامداً قاصداً، كستارٍ من الدخان للتغطية أو تشتيت الانتباه عن هدفٍ، مصيبةٍ أو فضيحةٍ في وصفٍ أدق، ارتكبها في مكانٍ آخر تزامناً مع فرقعته الإعلامية، إذ يبدو أنه وقد أظلنا زمن الثورات، لم تعد مباريات كرة القدم كفيلة بالقيام بهذا الدور المعهود لها به تقليدياً، ما استلزم البحث عما يسد تلك الفجوة في منظومة التشتيت والوعي الزائف بواقعٍ مغايرٍ وهمي، يحتفي بها النظام كشرطٍ وجودي، إعمالاً لشعر عمنا الراحل أحمد فؤاد نجم على لسان المخلوع مبارك مخاطباً شعبه (المملوك حصرياً له وفق التصور العميق لدى العسكر المماليك الجدد): «أحبك محشش مفرفش مطنش ودايخ مدروخ وآخر انسطال».
ففيالق الإعلام المأجور تقوم هنا بدور كتائب الدعم، في استعارةٍ من لغة العسكر التي يبتهجون بها ولا يعرفون غيرها، برسائله الغثة وحكاياه الخيالية عن انتصاراتٍ وغزواتٍ وهمية تناسب قامات النظام الضئيلة، في معركته الخائبة ضد الزمن.
والمعركة الصغيرة التي نحن بصددها تتعلق بحفلةٍ لفرقةٍ غنائية لبنانية، «مشروع ليلى» التي يجهر أحد أعضائها البارزين بمثليته الجنسية، وقد حضرها ما يزيد على العشرين ألفاً بقليل، وتصادف أن قام نفرٌ قليل (في الحقيقة لا يعنيني البتة عددهم) برفع علم قوس قزح المستخدم كرمزٍ من قبل المثليين جنسياً في أنحاء العالم، فثارت من ثم تلك القضية على صفحات بعض الجرائد ووسائل التواصل الاجتماعي.
في الحقيقة عليّ أن أعترف بأنني لم أسمع بهذه الفرقة من قبل، ولم تعجبني أغانيهم حين استمعت لها مؤخراً، وذلك ربما لا يعني شيئاً أكثر من تقدمي في السن، واختلاف الذوق لا أكثر، بل أعترف بأن جهلي وعدم استساغتي لا يعنيان شيئاً ويتوقفان عند حقي كفرد في الاستماع لما يطربني؛ لكن لما كان جل الحضور الساحق الماحق من غير المثليين، وكانت لفتة رفع العلم محض حركة عابرة، وعلى خلفية رحيل المرشد السابق الأستاذ مهدي عاكف التسعيني رهن الاعتقال مريضاً، وذلك الحكم الخزعبلي بالحبس ثلاثة أشهر ضد المحامي والحقوقي الأستاذ خالد علي، وتغريمه ألف جنيه لقيامه بفعلٍ خادش استناداً إلى صورةٍ مفبركة، تأكد لديّ الهدف الفرقعي من وراء الضجيج، فقد كنت سأمر عليه مفوتاً الفرصة على هذه المعركة الصغيرة ملتفتاً إلى الأهم، إلى «معاركي أو معاركنا الكبيرة كثوريين» إلا أن رد الفعل بين بين «الغيورين» من أبناء البورجوازية (خاصة الصغيرة) التي عبّر أفرادها عن هلعهم من تردي الأخلاق وانهيار المجتمع وتساؤلهم اليائس، إذ يعتصرهم الألم عن أين نحن والبلد ماضون؟ جعلتني أعدل عن رأيي.
إزاء ذلك الانتفاض الأخلاقي والخوف الوجودي من دمارٍ وشيك لم أعد أملك رفاهية تجاهل تلك «المعركة الصغيرة والعابرة»، بل بات يتوجب عليّ الانخراط فيها بكل مخزوني من الغضب والغيظ، فشمرت عن ساعديّ مستحضراً ما روي عن بشار بن برد في الأثر، حين كان يهم لينشد شعره، حيث كان يصفق بيديه ويتنحنح ويبصق عن يمينه وعن شماله، ولما كنت لا أكتب الشعر ولا أدعي أن لي موهبةً تقارب بشاراً أو مررت يوماً قرب باب حارته فإن ما أكتبه من سجالٍ سيكون أقرب للردح، وهو المقصود. كما أدركت أن تلك المعارك الصغيرة قد تكون فرصةً للولوج إلى ما تحيل إليه من مضامين أكبر تتعلق بطبيعة النظام، الذكوري الأبوي القمعي، منطلقين من قناعةٍ لا تهتز بأن الحرية لا تتجزأ.
بدايةً، فملاحظة أن تلك المعركة ثارت على وسائل التواصل الاجتماعي والصحف، ذات التوزيع المزري البائس، ليؤكد البعد الطبقي لها، فالغالبية العظمى من الناس، على الرغم من مشاركتهم في المنظومة الأخلاقية المتعارف عليها، همها الأول التحايل على المعايش، وبالتالي فلم تكن لتلتفت لحفلاتٍ كتلك، وربما ترمي كل من يحضرونها من المرفهين بـ»المثلية» تعبيراً عن ازدراءٍ طبقيٍ بحت. لكن جل المعترضين ينتمي للبورجوازية الصغيرة، تلك التي عُمدت بـ»حزب الكنبة»، أرضٌ تقع في الوسط، تنازع عليها شفيق ومرسي، فك الله أسره، فكانوا من حسم السباق، منسيون تماماً، عاجزون عن الحراك ناهيك عن كونهم خائفين منه، فقد اهتز عالمهم وفاجأهم تغييرٌ كانوا واثقين من استحالته فلم يعرفوا كيف يتعاملون معه إذ دهمهم، فانحازوا خوفاً من المجهول لليمين وراء البورجوازية الكبيرة بقيادة الجنرال، والبورجوازيتان في مصر خائبتان رثتان تماماً.
وبورجوازيونا الصغار، أو حزب الكنبة، منسيون تماماً، يزدادون فقراً يوماً بعد يوم، جراء سياسة المشير التي نهشتهم، ولم يعد لهم سوى ذلك الدور المسموح لهم به منذ عهودٍ سحيقة (ناهيك عن كونه يحلو لهم) «وكلاء الله على الأرض» فدائماً ما تجدهم يؤكدون على أن الله سيعاقب فلانا، أو أن ما حل به من مرضٍ كان عقاباً من الله له، كأنه تعالى استشارهم أو أطلعهم على أسبابه وتصاريفه وقربهم من منابع حكمته، فهم شماتون يشيع في حياتهم النفاق.
انتفضوا لمجاهرة بعض المثليين بمثليتهم وحقهم في مشاعرهم والتصرف بإرادتهم في أجسادهم، في حين لم نسمع للكثيرين منهم صوتاً إزاء نظامٍ يمارس القمع والتعديات الجنسية بصورة منتظمة ومنهجية، ليس أمام معارضيه فحسب، وإنما في أقسام الشرطة حيث إيلاج العصي في الموقوفين أمرٌ اعتيادي، بل وستجدهم يجدون ذلك مبرراً لأن «هذه الأشكال» يعنون المجرمين لا ينفع معهم سوى تلك الأساليب، تماماً كما وجدوا مبرراتٍ لكشوف العذرية على الفتيات، بل وثبوا فراسخ للأمام فانتخبوا المسؤول الأول عن هذا الاغتصاب رئيساً للجمهورية، فالخلاصة إذن أن اختيار المثلية الجنسية طامةٌ تهتز لها ضمائرهم اليقظة ونفوسهم المرهفة، فيرثون حال البلد وما آل إليه، أما حين يمارسها زبانية النظام اغتصاباً فهذا حسنٌ ومباح، بل ويثاب الآمر المسؤول بالرئاسة ويرون القشة في عين بضعة مثليين، ولا يرون الهروات الغليظة حين تُقحم عنوةً في أجساد معتقلين. وما بال القتل والتصفيات والحريات المعطلة والمجال العام المصادر وأرض البلد حين تباع بخساً؟ يبدو في النهاية أن البلد ومستقبله وحريته مربوطة حصراً في ميول البعض الجنسية ومصيره معلق على انحناءات أجسادهم، علماً بأن مجتمعاً في التاريخ والحاضر لم يخل من التنوع في الميول الجنسية ومن بينها المثلية.
على يقينٍ أنا بأن هؤلاء الغيورين على الأخلاق الذائدين عن حياضها، لا يدركون أنهم بتشبثهم بتلك الرؤى الذكورية لا يدعمون شيئاً سوى النظام خوفاً من التغيير، لكن ما لا يدركونه حتى الآن وسيتحتم عليهم مواجهته قدماً، هو ذلك الكم المذهل من المتغيرات في المجتمع على كل المستويات، ومنها الأخلاقي، فزمن الثورة يطرح الأسئلة، حتى وهي منكفئة أو حتى مهزومة، أسئلة عن كل شيء، تهز كل الثوابت.
كما أسلفت، فالحرية والكرامة الإنسانية لا تتجزأ، والمعارك الوهمية لن تحل المشاكل العالقة. فقط حين نحتج لحق خصومنا السياسيين في المحاكمة العادلة والحياة والمعاملة الكريمة، نستطيع أن ننتفض من أجل الأخلاق ونتحدث عن مستقبلٍ ما لبلداننا المنكوبة، المسكونة بالقمع بشتى صوره، المعشش في كل الأركان والمتغلغل في كل المستويات. فالانعتاق إما أن يكون جماعياً أو لا يكون، وهو لن يأتي إلا بهدم تلك التركيبة الاجتماعية الاستغلالية الذكورية، القمعية في الأساس.
كاتب مصري
د. يحيى مصطفى كامل
هي بالفعل معركه واهيه و كاذبه تكشف عن السقوط الاعلامي المهين و الدرك الاسفل الذي وصل اليه من يسمون انفسهم ذورا و بهتانا اعلامين! فهذا الشعب الذي يئن و يكاد يلفظ انفاسه تحت وطئه اقتصاد منهار و لا يجد ضرورات الحياه لا يعرف- و لا يريد- شيئ عن حفل موسيقي في مكان يمثل له كل معان الطبقيه و العنصريه!