منذ فترة قريبة، كنت وجدت نفسي في موقع فيسبوك مضافا لمجموعة كثيرة الأعضاء، كونتها فتاة صغيرة، في السادسة عشرة من عمرها، تكتب الخواطر العاطفية المعتادة في سنها، وربما في سن أكبر أيضا. وقد أضفت للمجموعة بوصفي أحد معجبي تلك الفتاة، وكان اسم المجموعة، هو معجبي الشاعرة التي ذكرت اسمها ووضعت كثيرا من الصور والخواطر.
لم يكن الأمر مستغربا مني أبدا، وكما هو معروف في فضاء مفتوح مثل الإنترنت، كل شيء يمكن أن يحدث، وذلك الذي كنا نراه في الماضي أساطير بعيدة، نجده يحدث، ولو وجدت تلك الفتاة الصغيرة فرصة أن تضيف درويش والبياتي، وعفيفي مطر، مثلا، وجعلهم معجبين بها، لفعلت.
كنت أتأمل ما كتب في تلك المجموعة، ما كتبته الفتاة بنفسها، أو ما كتبه الأعضاء تعليقا على كتابتها، وأستغرب فعلا أن يكون هناك من يتصيد الوهم بهذه الطريقة، ومن يدفع الوهم ليس خطوات فقط، ولكن مسافات شاسعة حتى يصبح بهذا الشكل. كان ما كتب بوصفه إبداعا، لا علاقة له بالإبداع، وما كتب إطراء على ذلك، لا يمت أيضا للنزاهة بصلة.
أعتقد أن كتابة الخواطر العاطفية، في حد ذاتها فن، وليس أمرا سهلا، وأعتقد أن الإبداع فيها، أن تأتي بكلام جميل مؤثر، نابع من القلب، وموجه للقلب، ويمكن أن يبكي المشاعر حتى. وقد اعتدت ان لا أستخف بهذه الأشياء الإنسانية، لكن ما قرأته لم يكن جيدا ولا مفهوما عند تلك التي نصبت نفسها شاعرة، وضمتني إلى معجبيها مع أشخاص كثيرين فيهم شعراء حقيقيون وكتاب رواية وسينمائيون وتشكيليون.
كان ما حيرني بالفعل كلمات وجدتها تتكرر تحت كل منشور جديد: رائع! عظيم! أسلوب ناضج فعلا!
وبمناسبة «الناضج» هذه فلي في شأنها مواقف طريفة، بعضها حدث معي وبعضها استقيته من مطالعتي أحيانا، لآراء من يدعون القراءة، ولا أظن بأنهم يقرأون حتى عناوين رئيسية، في صحيفة يومية. ويبدو الأمر غاية في الطرافة حين يكتب أحدهم مراجعة لكتاب إبداعي، مات مؤلفه منذ ربع قرن، بعد أن قدم كتابة وارفة ومشحونة، ويذكر في المراجعة، أن على الكاتب أن يقرأ كثيرا من أجل أن ينضج، ولا يعلم أن الكاتب لم ينضج فقط، لكنه تآكل تحت التراب. أيضا أن أحدهم لكاتب في عمري، ينصحه بأن يحاول أن ينضج، قبل أن يكتب الروايات.
وبالتالي تصبح كلمة نضوج، مثل غيرها من العبارات التي أتاحها الإنترنت في إجرامه المتمدد وسعيه لتقريب المسافات بين الناس، لكن بعشوائية مرعبة.
بالنسبة للمجموعات التي ينشئها البعض، ويجعلون منها متكأ شخصيا لهم، فهذا شأن يخصهم بكل تأكيد، ولا اعتراض عليه، يمكنهم أن ينشئوا عشرات المجموعات، يحيطونها بعشرات الهالات الواهمة، ويكتبون فيها ما يريدون، بشرط الاستئذان من الآخرين قبل أن يضموا قسرا إلى مجموعات لا تهمهم، أو هي أقل من مستوى تفكيرهم. وشخصيا لا تهمني مجموعة تناقش شؤونا في كرة القدم، أو كأس الأبطال، أو تعرض أسعار المباني والسلع الاستهلاكية في بلد ما، وحتى تلك التي تهتم بالآداب والفنون، لا أنضم لها أبدا.
أنا أفهم أن الفتاة صاحبة الخواطر، قد تطلب صداقة كاتب قديم، لتتعلم شيئا، أو تستنير بتجربة طويلة، هي تجربته، التي تتضح ملامحها في كتاباته البسيطة على موقع التواصل الاجتماعي. لكن لن أفهم أبدا ضم هذا القديم، من أجل أن يصبح معجبا يكتب: رائع! جميل! كلام ناضج!
حين كنت طالبا في المرحلة الثانوية، في مدينة بورسودان الساحلية، كنت أغشى مقر رابطة الأدباء والفنانين في المدينة، غالبا في آخر الأسبوع. كنا مجموعة نقرأ الشعر ونكتبه، وبعضنا يهب قصائده للمغنين الموجودين معنا في الدار، ودائما ما أشاهدهم في الأركان البعيدة من الحوش الواسع، صحبة آلاتهم الموسيقية، يوقعون ألحانا جديدة، أو يعيدون توقيع ألحان قديمة. كنا نحن الشعراء بدورنا نجلس في ركن بعيد، نقرأ أشعارنا لبعضنا. إنها مجموعة منشأة بغرض تبادل النصائح، وربما الإعجاب أيضا إن قرأ أحدنا ما يعجب.
كنت ومعي شاعر آخر صغير ومبتدئ مثلي، لا نبادر بقراءة أعمالنا أبدا، إلا إذا سمح لنا، ولا نجرؤ أن نقاطع شاعرا آخر من القدامى وهو يقرأ أو يترنم بغطرسة. وحين يأتي دور الملاحظات على ما قدمه، وحتى لو كانت ثمة ملاحظات سلبية، لا نستطيع قولها. كان الأمر عاديا جدا كما أراه، وطبيعيا جدا، أن يكون المبتدئ منصتا، وصاحب التجربة ملكا للمكان. حين ذهبت إلى مصر بعد ذلك، وجلست في المقاهي التي كانت منابر ثقافية، في ذلك الوقت، وتعرفت إلى الشعراء والكتاب الكبار، كان جلوسي، في آخر مقعد في الجلسة، وأستحي من قراءة قصيدة، أو بالأحرى أخاف، فلربما تكون سيئة ولا أعرف، أو ربما أواجه بنقد عنيف، قد يبعدني عن سكة الشعر.
وكنت قرأت مرة قصيدة اسمها «اتكاءات»، للراحل محمد مستجاب، وبعد إلحاح منه، في أول أيام تعرفي إليه، وكان رأيه ليس كلمات مثل رائع، وجميل، ولكن كلمات مشجعة أخرى للاستمرار. وحتى بعد أن كتبت رواية أولى، وامتلكت ثقة أنني قد أصبح كاتبا يوما ما، كنت أتردد كثيرا قبل أن أوقع نسخة من كتابي وأهديها لأحد، خاصة أولئك الكتاب أصحاب التجارب الكبيرة. وكثيرون غيري من جيلي كانوا ينتهجون السلوك نفسه، وبالطبع كان أمرا طبيعيا، ذلك أن ترتيب الأجيال والعمر، والعطاء الذي قدمه القدامى المبدعون، لا بد أن يبجل بهذه الطريقة.
لا مانع أن يزيل الإنترنت بعض الحواجز بين الناس، ولا مانع أن تزيل الملتقيات الثقافية التي كثرت أيضا في الأعوام الأخيرة، حواجز أخرى بين المبدعين الذين يدعون إليها بحيث تتطور الصداقات وتتعمق كثيرا، ولو وجد مبدعون من أجيال مختلفة، فهذا أفضل حتى تتحقق مسألة التواصل الكبير. ولكن أعود مرة أخرى لعملية الإضافة إلى المجموعات التي تصنف مجموعات معجبين بشخص ما، هذا ما لن أستطيع استيعابه.
كاتب من السودان
أمير تاج السر
تحياتي للدكتورأميرتاج السرّ…ورمضان مبارك :
لأنّ موضوع المقال فيه عن شيئين ( الوهم والنضج )…أكتب لحضرتك هذه الملاحظة ؛ كما جاءت نصّاً بمقالك الوهم والنضج : ( ويمكن أن يبكي المشاعر حتى ).لا أعرف ما هوالموضوع والأسلوب العربيّ الذي يتيح لكاتب وضع ( حتى ) كما في هذه العبارة…لأنّ ( حتى ) لها وظائف محددة منها :
# إنّ ( حتى ) تجري مجرى الواووثمّ في التشريك بين طرفين ؛ فهي عاطفة.
# إنّ ما بعد ( حتى ) يدخل في حكم ما قبلها قطعاً…
# إنّ ( حتى ) تختصّ بالغاية…
# إنّ ( حتى ) تأتي للتعليل في موضع : كي.
# إنّ ( حتى ) تكون حرف ابتداء…
فما موقع ( حتى ) المقال في هذا السطر؟ مع المودة حتى مطلع الفجر.