ذهبت كثير من التحليلات في تونس إلى ما مفاده أن رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة السابقة سهام بن سدرين، كادت أن تنجح ببراعة فائقة في صرف الانظار عن عملية تجديدها غير القانوني لعمل الهيئة التي تشرف عليها. وتم ذلك من خلال إثارة موضوع الوثائق التي قيل أنها تدين الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة الذي بات التهجم عليه اختصاصا «حصريا» لهذه الهيئة التي تحظى بدعم جماهير فريق سياسي حاقد على باني تونس الحديثة، كما بات أيضا التهجم على بورقيبة مطية في السنوات الأخيرة لكل من يرغب في البروز والخروج إلى دائرة الضوء.
وقد وجد أعداء بورقيبة والناقمون على دولة الاستقلال الأرضية خصبة لتصعيد الحقد الذي يملأ قلوبهم على الزعيم الراحل ودولته. ولدى هؤلاء يقين راسخ، اكتسبه بعضهم بالوراثة والسماع، أن بورقيبة عميل باع البلاد والعباد، حتى لو ثبت ألف مرة زيف ادعاء ابنة سدرين وعدم جديتها، ومهما رأوا من الحجج والبراهين التي تؤكد زيف ما يدعونه.
و يذهب البعض إلى اعتبار أن توجيه الخطاب إلى هذه الفئة لمحاولة إقناعها بالدليل العلمي والحجة الدامغة بزيف الادعاءات التي تطال بورقيبة والتي يهدف مروجوها إلى تشويهه وتشويه منجزات دولة الاستقلال، هو مضيعة للوقت لن يقدم ولن يؤخر. ومن الأفضل، حسب أصحاب هذا الرأي، عدم الانخراط مع هذه الفئة تحديدا في نقاشات بيزنطية قد تساهم في تأجيج الأوضاع في بلد يسعى لتجاوز أحقاد الماضي وإيجاد التوازن للخروج من أزماته المتكررة.
وأمام كل هذا اللغط الحاصل هذه الأيام في تونس بشأن ما تدعيه بن سدرين من أن بورقيبة تنازل عن الثروات الباطنية لتونس إلى الاستعمار الفرنسي في وثيقة الاستقلال الداخلي التي سبقت الاستقلال التام بسنة واحدة، لا بد من إبداء بعض الملاحظات: أولها أن بورقيبة وقادة الحزب الحر الدستوري التونسي، وإن شاركوا في حكومات تشكلت في عهد الملك محمد الأمين باي إلا أنهم لم يكونوا وحدهم أصحاب القرار وليسوا هم من يمضي على الاتفاقيات. فقد كان في تونس في تلك الفترة ملك ورئيس حكومة أو وزير أكبر وأصحاب جاه في المملكة من كبار عائلات الحاضرة (العاصمة) على وجه الخصوص، وهم فاعلون في القرار ومؤثرون في التوجهات العامة أكثر من الدساترة (أنصار بورقيبة). فوثيقة الاستقلال التام اللاحقة لوثيقة الاستقلال الداخلي وقعها في 20 آذار/ مارس 1956 الوزير الأكبر الطاهر بن عمار نيابة عن الملك محمد الأمين باي وليس الحبيب بورقيبة الذي لم تكن له أي صفة في ذلك الوقت ليمضي على الوثائق سوى أنه زعيم حركة تحرر وطني. وبالتالي تحميله المسؤولية في كل مرة من جمهور الحاقدين على كل ما حصل في تلك الحقبة فيه تجن على الرجل وعلى حزبه وعلى أبناء الحركة الوطنية برمتها.
ثانيا: تخص هذه الوثائق مرحلة انتقالية الاستقلال الداخلي، ولا يتعلق الأمر باستقلال تام، ومن الطبيعي أن تكون السيادة منقوصة لتكتمل لاحقا عند التوقيع على وثيقة الاستقلال التام. فلم يذكر التاريخ أن بروتوكولا مؤقتا يمهد للاستقلال لدولة ما نص على سيادة تامة لهذه الدولة على كل شيء، فمثلما جثم الاستعمار الفرنسي على تونس على مراحل (الكومسيون المالي، الغزو العسكري، إجبار الملك محمد الصادق باي على التوقيع على معاهدة باردو في 12 مايو/ آيار 1881 التي أقرت الحماية، إجبار الملك علي باي على التوقيع على معاهدة المرسى في 8 يونيو /حزيران التي رسخت الاستعمار وتجاوزت مبدأ الحماية)، حصل الاستقلال أيضا على مراحل، وإن رأى البعض اليوم أن هذا الاستقلال منقوص فعليه العمل على استكماله وشكر جهود من سبقوه في التحرر بالتدرج من ربقة الأجنبي رغم الخلل في موازين القوى.
ثالثا: يمكن الجزم وبعد الاطلاع على وثيقة الاستقلال التام التي تم توقيعها إثر وثيقة الاستقلال الداخلي أنه لا وجود في هذه الوثيقة لما قيل إنها تنازلات عن ثروات تونس الباطنية، وهذه هي الوثيقة تحديدا، هي التي يجب أن يعتد بها رغم أنها بدورها غير نهائية، باعتبار أن بورقيبة كان يعتمد سياسة المراحل، والدليل أنه لم يؤمم الأراضي الزراعية ولم يخلصها من الفرنسيين والإيطاليين إلا سنة 1964 بعد أن تهيأت الظروف، وقد قبلت تونس أيضا باستقلال البلاد بدون مدينة بنزرت ثم عاد لاحقا الحبيب بورقيبة وطالب عسكريا بهذه المدينة.
وبالتالي يمكن للبعض من جماعة التوقف «عند ويل للمصلين» وقراءة التاريخ مجتزءا حسب أهوائهم وما يرضي قناعاتهم المفتقدة إلى قوة الحجة والبرهان، أن يدعوا أن بورقيبة باع بنزرت قياسا على ما قيل بشأن الثروات الباطنية. وذلك في عملية اجتزاء للتاريخ ممنهجة هدفها تشويه الزعيم لا غير وتصعيدا لرغبات وأهواء وأحقاد دفينة تجاه بورقيبة.
صحيح أن بورقيبة لم يكن ديمقراطيا ولم يدع يوما خلافا ذلك، ولم يسمح لمعارضيه بحرية النشاط، لكن أغلب معارضيه من اليمين واليسار لم يكونوا أيضا ديمقراطيين، ولا الديمقراطية كانت أولوية في مرحلة البناء لدولة الاستقلال، ولا محيط بورقيبة العربي كان ديمقراطيا، بل لعل الزعيم التونسي كان الأقل دموية من بين أقرانه العرب مشرقا ومغربا. وبالتالي فالحكم على حقبته بمعايير وقيم سنة 2018 هو ضرب من العبث من قبل هيئة الحقيقة والكرامة ومن يقف وراءها ويحرك خيوطها من وراء الستار. فلكل عصر قيمه ومعاييره وهذا ما يجب أن تدركه رئيسة الهيئة السابقة ومن تبعها أيضا بإحسان…
رابعا: كثيرة هي البلدان المستعمرة في التاريخ المعاصر التي قدم مفاوضوها تنازلات للتسريع بالاستقلال ربحا للوقت وتعجيلا بعملية البناء في عالم يتطور بسرعة رهيبة ولا ينتظر الأمم المتخلفة عن ركب الحضارة وتلك التي مازالت تعاني من التخلف والاستعمار خاصة وأن موازين القوى غير متكافئة بين القوة الاستعمارية والدولة التي ابتليت بمهانة الاستعمار ومن ذلك تونس. فمثلا قبلنا أن نوقع على وثيقة استقلال تتضمن ما مفاده أن فرنسا هي المسؤولة على علاقات تونس الدبلوماسية لكن في الواقع تجاهل بورقيبة هذا البند وأقام بصفة أحادية علاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية ووضع فرنسا في مأزق لعدم قدرتها على معارضة الأمريكان، وتتالى لاحقا تجاهل هذا البند وأصبح لا قيمة له مع توفر إرادة التحدي لدى زعماء الحركة الوطنية التونسية. ولو لم نقدم هذه التنازلات، التي يمكن تجاوزها لاحقا، لتأخر استقلالنا إلى الستينيات في عصر تسابق فيه الأمم الزمن للنهوض بشعوبها.
خامسا: لقد قبل غيرنا لتسريع استقلاله بأن تكون صحراؤه حقلا للتجارب النووية، والبعض الآخر قبل ببقاء مدن محتلة مازالت لم تتحرر إلى اليوم ولا أحد من مواطني هذه البلدان شكك في استقلاله أو اعتبره منقوصا أو تهجم على قادة حركته الوطنية بل تفهم أغلبهم الظروف الصعبة الذي وضع فيها قادتهم ومفاوضوهم في تلك الحقبة الأليمة. في المقابل دأبنا نحن في تونس على جلد الذات وباستمرار وعلى التشكيك في كل شيء والطعن في رموزنا التاريخيين.
فقد لام بعضنا مثلا بورقيبة على قبوله التفاوض مع الفرنسيين بعد قبولهم بدورهم النظر في مسألة استقلال تونس، واتهموه كالعادة بالعمالة لأنه لم يواصل الكفاح المسلح، وتمرد عليه بعضهم رغم أنه كان مهندس الثورة المسلحة لسنة 1952. لكن حين عاد بورقيبة إلى أرض المعركة لتحرير مدينة بنزرت قال كثير من التونسيين بأنه قد «زج بأبنائنا في محرقة وحرب خاسرة وغير متكافئة»، ومنذ ذلك التاريخ وإلى اليوم لم يعرف ماذا يريد التونسيون تحديدا، التفاوض أم ساحة الوغى؟ أم معارضة قرارات بورقيبة في كل الأحوال ومن أجل المعارضة لا غير؟
فحتى القائد القرطاجي «التونسي» التاريخي حنبعل طالته سهام النقد وظاهرة استهداف الرموز التي تميزنا خلافا لمحيطنا الشوفيني، حيث شكك البعض في غزو قائدنا القرطاجي لروما وحصاره لها لقرابة العقد من الزمان، واتهموه بالمجون والعربدة في الأراضي الإيطالية وصحبة الجواري والقيان. لذلك لا يستغرب أن يصبح بورقيبة هدفا لمساوئ هذه الشخصية القاعدية التونسية التي تتلذذ بجلد الذات والتقليل من الشأن أمام الآخرين والتشكيك في كل شيء وسحق كل من علا شأنه على هذه الأرض.
وأخيرا يصبح استهداف بورقيبة غير ذي مصداقية ممن تحوم شكوك حول ولائهم لهذا الوطن، وابحثوا في مذكرات بول بريمر الحاكم المدني الأسبق للعراق يا أهل الذكر لو كنتم لا تعلمون.
كاتب تونسي
ماجد البرهومي
مقال عاطفي اكثر منه علمي توثيقي
الديمقراطية الجمهورية الحديثة عرفت في القرن 18 على الاقل و كل من تخلف عنها منذ ذلك الوقت فقد تخلف
يقول الكاتب: “ومنذ ذلك التاريخ وإلى اليوم لم يعرف ماذا يريد التونسيون تحديدا…”.. “لذلك لا يستغرب أن يصبح بورقيبة هدفا لمساوئ الشخصية القاعدية التونسية”…
ما هذا الهجوم الانفعالي على عموم التونسيين بدون تمييز؟؟ لِمَ كل هذه الإساءة المجانية لشخصية التونسيين القاعدية؟؟
باني تونس الحديثة !! لنتخيل فقط مجرد تخيل لو ان اردوغان او محمد مهاتير او حتى نصفهم في الاداء والاخلاص كيف كان سيكون وضع تونس الاجتماعي والاقتصادي !!؟ مالذي بناه ذلك الديكتاتور المجنون هو وزوجته وماهو ارثه الذي تركه خلفه ؟
يكفي الزعيم فخرا انه لولا تحريره للمراة و فرضه تعليم الفتيات فى الخمسينات لما كانت السيدة سهام بن سدرين مثلا رئيسة هيئة دستورية بل تنتظر زوجها فى البيت فى احسن الحالات ….شكرا أيها الزعيم و نحن أحفادك سنواصل مسيرة بناء تونس و الحفاظ عليها و على استقلالها و حمايتها من المؤامرات الخارجية و الداخلية …..تحيا تونس تحيا الجمهورية و لا ولاء إلا لها
Reply