من أحدث التجليات العربية لظاهرة «التعامي عن الحقائق» التي يرى المؤرخ مارك فرّو أنها من أثبت الظواهر في تاريخ الإنسانية، والتي ذكرنا الأسبوع الماضي بعضا من أمثلتها الأوروبية، شيوع الاعتقاد لدى الكثيرين بأن الثورات الشعبية هي المسؤولة عن الوضع البئيس الذي آلت إليه بعض البلاد العربية. فما أكثر ما تسمع الآن من يقول: «ما كان أغنانا عن هذه الثورات التي لم تجلب سوى الخراب! ألم تكن الأوضاع أفضل بكثير قبل أن تخرج هذه الجموع إلى الشوارع وتطالب بإسقاط النظام؟ هل كان بن علي ومبارك والقذافي وعبد الله صالح أسوأ ممن يحكمون اليوم أو يتقاتلون على الحكم؟»
وفي بعض الحالات يظهر هذا الموقف بمظهر الحياد عندما يقرر واقعا لا سبيل إلى المجادلة فيه: واقع حنين المواطنين، على ما يبدو، إلى زمن بن علي أو القذافي. زمن الاستقرار والأمن والنظام وهيبة الدولة ووضوح الصورة.
يقول لك صاحب الملاحظة التقريرية: يا أخي لا بد من الاعتراف بأن الناس قد بلغ بهم سوء الحال، من فرط انعدام الأمن وانتشار الإرهاب وانخرام الاقتصاد وغلاء المعيشة وانسداد الأفق، حد الندم على اندلاع هذه «الثورات الغبية» التي أراد أصحابها الهرب من القطرة فإذا بهم يقعون تحت الماسورة، كما يقول المثل العامي. وتختتم الملاحظة بإطلاق حكم بليغة حول وجوب عدم ركوب مخاطر المغامرات. ذلك أن “من تعرف هو أحسن ممن لا تعرف»، وذلك أن التفريطفي السىء إنما هو استجلاب لما هو أسوأ. ألم يقل الأسلاف: «أمسك مشؤومك لئلا يأتيك من هو أشأم منه»؟
ولا يقتصر التعبير عن هذا الموقف الاتهامي ضد الثورات الشعبية على مثل هذه الأحكام التي يظنها أصحابها استنتاجات منطقية أو على مثل هذه الملاحظات التي يظنونها حقائق اجتماعية، بل إن التعبير عن هذا الموقف يبلغ في بعض الأحيان درجة الصياغة التنظيرية لعلاقة الشعوب العربية بالسلطة والتغيير وفهمها للنظام والحريّة. فيقول قائل: «لماذا لا نعترف بالحقيقة؟ العرب لا تنفع معهم الحرية». أو يقول: «العرب يحبون من يحكمهم بالعصا. لا يصلح لسياسة العرب وسوسهم إلا حاكم مثل صدام»!
سمعت مثل هذا الكلام في أكثر من بلد عربي، وتقريبا كلما التقيت عربا في أي بلد أوروبي. كلام يتراوح بين التحسر على ما آلت إليه البلاد «بسبب الثورات»، وبين التأكيد على أن المجتمعات العربية قد استخلصت من تجربة الأعوام القليلة الماضية عبرة مفادها أن الأنظمة السابقة، على علاتها، هي أفضل مما أفرزته «الدعاوى الفارغة» حول الكرامة والحريات والديمقراطية. أما التتويج فيتمثل في اكتشاف «قوانين تاريخية»، ولكن ليس بالمعنى الكلي أو العالمي على النحو الهيغلي أو الماركسي وإنما بالمعنى الاثني أو العرقي الذي ينحو منحى النظر الاثنولوجي الذي يكاد يفوح بروائح العنصرية (ضد الذات!). إنه النظر الاثنولوجي (المعكوس) في «حقيقة» أن قبيلة العرب البدائية التي تعيش في غابات أمازون القرون الوسطى لا يصلح حالها إلا بالاستبداد.
أما في حالة سوريا، فغني عن البيان أن كل ما وقع هناك قد كان نتيجة لمؤامرة خارجية. بل إن كل «الربيع العربي» هو من تدبير دوائر الأرصاد الجوية التابعة للاستخبارات الغربية والإسرائيلية. هذا، ولا بد من التنبيه أن أي تشابه بين شخصيات هذا المسلسل وبين أي أشخاص في الواقع إنما حصل بمحض بالصدفة.
صحيح أن التطور التدريجي السلمي أفضل من زلازل الثورات. ولكن الحقيقة التي لا يمكن أن يمحوها «التعامي عن الحقائق» هي أن الشعوب لا تثور اختيارا وإنما اضطرارا. ولهذا فإن المسؤول عن خراب الأوضاع ليس الثورات، بل إنه التأخر في اندلاعها! فقد تحمّلنا، نحن العرب، القهر زمنا أطول بكثير مما ينبغي. ولو أن أنظمة الاستبداد في سوريا والعراق وليبيا وتونس ومصر واليمن سقطت في السبعينيات أو الثمانينيات وكان البديل الديمقراطي الليبرالي جاهزا بقيادة نخب ذات كفاءة، لكان للعرب الآن شأن آخر مع التاريخ.
٭ كاتب تونسي
مالك التريكي
على إثر إستقلال تونس حن البعض إلى فرنسا المستعمرة رغم ما فعلته من انتهاك لحقوق الإنسان على مدى سبعة عقود من الزمن تقريبا. ” تبديل السروج فيه راحة ” بمعنى لما تبدلت تشكيلة الحكم رغم ما لها وما عليها وما ارتكبته من أخطاء سواء بعد الإستقلال مباشرة أو بعد الثورات فإنه لم يعجب الذين هم بطبعهم يميلون إلى التخاذل والتواكل والكسل ولا يملأ أعينهم أي تغير الذي في طبيعته، التغيير، تبدل للأحوال بنسب متفاوتتة بين الإيجاب والسلب. وهناك من يستغل الأوضاع للنبش في الماضي لأن مصالحه الإنتهازية قد انقطع عنها المدد من النظام السابق. ولكن التحديات ليس كل من هب ودب للسياسة بإمكانه تجوازها أو معالجتها. الثورة تلزمها سياسيون أشداء من ناحية أخذ القرار كما يلزمها بذل ممن ادعوا الثورة. على كل الثورة هي عبارة عن بركان يرمي بخبثه وبشوائبه ولا يبقى من الحمم في الأرض إلا ما ينفع الناس.
أظن أوجه الشبه بين معمر القذافي والحبيب بورقيبة كبيرة، فكلاهما يؤمن الجنون فنون، وأنا زرت تونس عام 94 وقبلها بعام ليبيا، في الأولى لحضور معرض تقني، وفي الثانية من أجل استشارة فنية في كيفية الاستفادة من التقنية في إدارة الدولة، ولاحظت اختلاف شاسع ما بين مفهوم الدولة في المشرق، وحتى دول مجلس التعاون الخليجي، وما بين مفهوم الدولة الذي رأيته في زيارتي لكل من تونس وليبيا، فحقيقة ليس هناك مفهوم للدولة كما نفهمه نحن أهل المشرق العربي، في المغرب العربي، ففي تونس خرجت بانطباع، أنَّ النساء أرجل من الرجال، ولو بشكل اقل في ليبيا، ثم الفساد ينخر حتى الأجهزة الأمنية، إن لم يكن الاستهتار وعدم الانضباط بكل معنى الكلمة، فلا يمكن لتعليم أن ينجح في أي دولة بدون تجاوز الاستهتار وعدم الانضباط أصلا؟!
تكاليف حملة ساركوزي الانتخابية تجاوزت 50 مليون دولار، وقد تبين أن معمر القذافي تحمّل 50 مليون دولار منها، هروب زين العابدين بن علي من تونس في 14/1/2011 جعلت معمر القذافي يظن أن هناك أصبع لساركوزي في عملية الهروب، فقرر على أثر ذلك تحويل مبلغ الـ 50 مليون دولار من حملة ساركوزي إلى حملة منافسه مدير البنك الدولي خان في وقتها فارتفعت أسهمه بشكل خرافي، جن جنون ساركوزي لهذا الانقلاب وحرك الجيش لضرب قوات القذافي في مقدمة القوات الدولية بعد دقائق من صدور القرار الدولي، وفي نفس الوقت لفق فضيحة أخلاقية ضد مدير البنك الدولي في أحد فنادق أمريكا، وسبحان الله تم اسقاط قضية الفضيحة الأخلاقية ضد خان يوم مقتل معمر القذافي، وفاز هولاند بالانتخابات الفرنسية بدل خان وساركوزي؟!
كذلك الحال لا أظن أن رجب طيب أردوغان ملاك ولا ميركل شيطان ولا أظن يمكن مساواة طلاء الذهب وتحويله إلى ذهب خالص؟! فالتهويل والتضخيم لتشويه صورة فلان أو تجميل صورة علان، من قبل الإعلام للصعود على أكتافهم في ثنائية صناعة الصنم أو تحطيمه كما هو متعارف عليه في مفهوم الإعلام في النظام البيروقراطي لدولة الحداثة، لا يمثل أي فكر حر خصوصا في أجواء العولمة وأدواتها التقنية، ومن يُصر على الاستمرار في تسويق ذلك في عام 2016 يكون هو سبب شبح الإفلاس الذي يطارد النظام البيروقراطي لدولة الحداثة حتى لو كانت ألمانيا أو اليابان بكل عظمتها الاقتصادية، فقوانين اللعب في التسويق تغيرت وأي موظف أو إدارة لم تنبته إلى ذلك فهي في حاجة إلى مشروع صالح لعولمة الحوكمة الرشيدة بإضافة بُعد اللغات إليها لتجاوز شبح الإفلاس؟!