عن جدوى الكتابة بعد العام 2011

حجم الخط
0

باسم زكريا السمرجي : أتساءل كثيرا بيني وبين نفسي عن جدوى الكتابة، أو بالأحرى، عن جدوى أي تواصل فيما يخص الشأن العام في بلادنا. فكل تواصل لكي يتم لابد له من مُرسل ومُستقبل ورسالة تحملها اللغة بينهما. يسري هذا على أي تواصل إنساني، إضافة لمقتضيات التواصل العادية فإن التواصل بين كاتب وقارئ فيما يخص الشأن العام في أوقات كالتي نحياها في بلادنا لابد أن يحمل دعوة للفعل أو حتى دليلا عليه.
لم يعد يصح أن تصير الكتابة في هذا المضمار مقتصرة على التأملات مبتورة الصلة عن الواقع المُعاش أو الشذرات المنغمسة في الذاتية. صار الواحد منا بعد العام 2011 قبل أن يكتب يُحمّل بمسؤولية التفكير في من يتلقّى منه وكيف يتناغم كلام مكتوب مع حركة على الأرض ليفضيا سويا إلى إسهام على طريق قضية التحرر الأكبر.
كان الكلام في السياسة أو الشأن العام على اتساعها حينها يسعى لفتح أفق للفعل أو للاشتباك مع مساحة تنفتح في المجال العام. أما وقد تم تقويض هذا الزخم واستطاعت القوى الرجعية تقويض احتمالات التحرر التي بشّر بها ذلك الزخم لم يعد هناك مجال للحديث العقلاني عن أفق لم يعد موجودا أو عن مجال عام يهدد الخطر من يتعرض له حتى بالكلام. غير أنه في مثل تلك الأوقات يصبح مجرد الانشغال بالمجال العام بالكتابة أو الكلام هو خط الدفاع الأخير ويصير التخلّي عنه بمثابة التخلّي طواعية عن مبرر وجودنا ذاته وعن أي احتمال للاشتباك مع تغيير قد نشهده على واقع يفقد بالتدريج مبررات استمراره.
قد يبدو هذا الكلام كلاما عاطفيا بهدف رفع المعنويات دون سند واقعي. فالحديث الجاد عن الاشتباك مع المجال العام بوصفه خط دفاع أخير ينطلق من الإيمان بصحة افتراضين، أولهما أننا مازال لدينا ما نخسره لندافع عنه وثانيهما أننا بعدُ لم نتلق هزيمة قاضية تُقصينا من ساحة المعركة. هذان الافتراضان تنفي صحتهما الملاحظة السريعة لخطاب الغالبية العظمى من المنتمين للمعسكر التقدّمي أو الذين يوما ما رفعوا شعارات مطالب الحرية والعدالة والكرامة، والذي يغلب على خطابهم التسليم بواقع الهزيمة الكاملة التي لا يزيدها الزمن إلا توكيدا، ليصير الموقع الوحيد الملائم للاشتباك مع المجال العام هو موقع عدمي لا مبال.
يكشف لنا التدقيق في الواقع وتجاوز حدود الخطاب السابق أننا مازال لدينا جمهور اتسعت رقعته بعد 2011 وتجاوز غربته السياسية فصار أكثر انفتاحا على التحليلات الراديكالية، والتخلي عن ذلك الجمهور والتخفف من عبء مسؤولية الكتابة له هو تخفف من أعباء المعركة والتسليم لهزيمة اختيارية. حتى لا يصير كلامي مرسلا لا سند له سأدلل عليه بقصة الصديق محمد نعيم الكاتب والسياسي وكيف تطورت علاقته بالسياسة. نعيم انشغل بالسياسة من موقع يساري في التسعينيات. كان يرى أن الكتابة في السياسة ليست لها أهمية لذاتها بل لما تقدمه للواقع على الأرض، فالأولوية دوما للفعل. لذلك كان يكتب لمطبوعات شبه سرية أو دوريات حزبية دائما ما تُوجّه للمعنيين بالفعل بشكل رئيسي حتى حينما خرج من إطار الدوريات الحزبية ضيقة النطاق ساهم في تأسيس مشروع البوصلة في 2005 حيث صدر عن ذلك المشروع دورية البوصلة كصوت لليسار الديمقراطي. ورغم أن تلك تُعتبر نقلة نوعية في المدى والتأثير المرجو من الكتابة إلا أنها كانت أيضا محدودة التأثير تخاطب المهتمين بصوت اليسار الديمقراطي. بعد 2011 صار المجال أكثر انفتاحا للتحليلات الراديكالية من أن تصير مقتصرة على البوصلة أو الدوريات الحزبية، بل صارت جزءا من النقاش العام. لم يلتفت نعيم إلى الصحف كنافذة على النقاش العام، بل التفت إلى مساحة أكثر مباشرة واتصالا مع الناس وهي الفيسبوك. فصار حسابه الشخصي على الفيسبوك منبرا سياسيا يخاطب منه الناس بتحليلاته التي كانت في بعض الأوقات تتجاوز في بنائها وصياغاتها ما يمكن أن تحتمله منصّة بخفّة الفيسبوك.
لم يؤثر انحسار مد 2011 على المهتمين بتحليلات نعيم الراديكالية فكأن الناس حين ضاق بهم مجال الحركة صاروا أكثر احتياجا للكلام والأفكار، لتصير المسؤولية على عاتق من تصدّوا للكتابة أكبر، وترتفع كلفة التصدّي لها فتزداد مبررات الانسحاب منها فالاحتفاظ باستقامة الاتجاه وجدية التحليل يزداد صعوبة في أوقات لا يترجم فيها الواقع المنظور تلك التحليلات. في الوقت ذاته، ازدياد عبء تلك المسؤولية لا يدفعنا للقول بنفي وجودها، بل لا بد أن يدفعنا لزيادة التمسك بها والتدقيق فيما نقدّمه حتى نضمن أن يصير كلامنا جزءا من فعل مستقبلي لا مجرد كلام لا يتجاوز حناجر قائليه.

كاتب مصري

عن جدوى الكتابة بعد العام 2011

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية