القاهرة – مهدي مبارك : يسرا الهواري تشبه الثورة المصرية. تتقاطع معها، بمراحل الصعود والسقوط، الارتباط بالشارع، والرغبة في التغيير، والنشوة المزمنة قبل لحظة الهزيمة والانسحاب، فضلاً عن الجرأة والغضب والسخرية والحنين وكسر التابوهات.
الحالة التي تصنعها ليست طرباً، إنما شيء أبعد من ذلك، لا يفهمه الجيل الذي تطربه أم كلثوم، وعبد الوهاب، ولا يفهمه على الجانب الآخر من الحياة، سمّيعة محمد منير (من حيث العمق المفرط) وتامر حسني (من حيث السطحية المبالغ فيها).
هي حالة لم تأخذ من الموسيقى إلا سحرها، تداعب أحلامنا الصغيرة، وتجمع بتناقضاتها أوقاتنا الحلوة والقذرة. تذكّرني، شخصياً، بهزيمتي يوم محمد محمود، إذ فقدت السيطرة على نفسي، وهربت إلى كوبري قصر النيل، ومنه إلى الدقي. نفضت عن نفسي تراب الثورة وقررت أن أبدأ من جديد.
لماذا يسرا الهواري تحديدًا؟
بعد أحداث محمد محمود، سدّت الحكومة المصرية الشوارع المؤدية إلى وزارة الداخلية بقوالب حجر نفخ الثوار فيها من روحهم، وحولوها إلى جداريات ولوحات «غرافيتي» ملوّنة. وأمام سور شارع «قصر العيني» الشهير، صوَّرت «يسرا» أغنية «السور»، وقالت كل ما أراد الثوار أن يفعلوه، وفشلوا: «قدام السور/ قدام اللي بانيه/ قدام اللي معلّيه/ وقف راجل غلبان/ وعمل بيبّي/ ع السور، واللي بانيه، واللي معلّيه».
كسرت، هيبة الحكومة، التي كانت، عدوّة للثورة في ذلك الوقت، من وجهة نظر الثوار، بسخرية وكلام عبثي، قيمته ليست في جماله ولا فنّه، إنما في جرأته. تقوله بنت «شيك» وخفيفة تمسك بـ»أوكورديون»، وتتجوّل في وسط القاهرة، ليست امرأة قوية وقادرة تحتمي بقوتها وجبروتها، ولا سيدة مجتمع تحتمي بجيب رجل أعمال.
يسرا، التي تشبهنا، كانت تغني ما نريد أن نصرخ به فقط. وتشبه الثورة، حتى في الكليبات التي قدّمتها بدون بطل واضح. التجربة بلا مركز ولا نجوم، ولا وجوه بارزة. كان البطل الوحيد الكلام الجريء، وحالة التمرّد.
الثورة ليست مشروعًا فرديًا، ويبدو من قصة صعود وانهيار الأساطير كلها، أن المشروعات الفردية هي التي تنجح، وتتقدم، وتبقى للأبد. الثورة مشروع جماعي بلا بطل ولا قائد، لم يشفعْ له الملايين التي ملأت التحرير والمحافظات، لم تنقذه المزيكا، ولا سمّى «فيسبوك وتويتر» عليه.
كذلك يسرا الهواري، لا شيء أنقذها، قدَّمت مشروعًا جماعيًا، العزف على الأوكرديون ليس بطلًا فيه، البنت الدلوعة ليست بطلًا، صوتها مرتبك وخجول وخائف ولا تزال حنجرتها في مرحلة التصنيع.
هي، تعترف إنها ليست مطربة. الصور والأماكن والألفاظ، التي يعتبرها المجتمع قلة أدب أحيانًا، جزء من التوليفة، ولا يمكن أن تكون التوليفة كلها، والثورة أثبتت أن «التوليفة» تفشل دائمًا، فالمجد – أولًا وأخيراً– للبطولات الفردية. هي التي تصنع «نجم الشباك»، بينما في البطولات الجماعية يكسر الجمهور السينما. ويهتف: «هاتوا فلوسنا».
الروح الحلوة لم تشفع ليسرا، الزمن هزمها، وجعل منها ذكرى عابرة في ثورة عابرة، كانت روحها حلوة أيضًا، وذلك لا يكفي ولا ينفع ولا يصنع تجربة كاملة.
التجارب العفوية تصمد لفترة ثم تدخل ثلاجة حفظ الموتى، لكن يسرا، أكثر قدرة على الحياة والمقاومة من الثورة. فضَّلت ألّا تكون «تريند» مبتذلًا على تويتر، أو وجهًا عابرًا من وجوه يناير الحزينة. هربت من مصر إلى أوروبا، لتدرس «الأوكورديون» وتبدأ مشروعها الخاص، المدروس بعناية، الذي يحقق مكاسب على الأرض.