حسم السؤال الذي طرحه ديفيد رنسيمان قبل بضع سنين عن الطرف الأقوى في تحديد مصير المجتمعات المعاصرة: أهي السياسة أم التقنية؟ إذ إن الأدلة ما تنفك تتوالى، منذ أواخر القرن العشرين، على أن أقوى عوامل التغيير والتأثير في حياة الأفراد والمجتمعات حاليا لم يعد يتمثل في السياسة أو الاقتصاد، وإنما صار يتمثل في التكنولوجيا. فقد أدى انفجار الثورة الرقمية إلى إصابة معظم الناس في عصرنا هذا بتغيرات ذهنية وسلوكية يبدو أنها في طريقها إلى إحداث ما يجدر نعته بأنه تحول أنثروبولوجي فاصل بين عهدين، بل بين بشريّتين اثنتين!
إذ قد صار من الوضوح بمكان أن إنسانية ما بعد الانترنت ليست مثل إنسانية ما قبله. وأوضح ما يكون ذلك هو عند الشباب الذي ولد في زمن الموبايلات والتطبيقات والشبكات ونشأ فيها وشبّ عليها. إذ ليس شباب اليوم مثل بقية البشر الذي شبّ قبل بضعة عقود على الراديو ثم التفزيون، ولا الذي شبّ قبل ذلك على الكتب والجرائد، ناهيك عن الأجيال والقرون التي عاشت في عوالم الورق والقلم والحبر والدواة. مسافات هائلة تفصل بين البشريتين، لا في أنماط التواصل فقط، بل حتى في طرائق الإدراك والتركيز والاستيعاب وفي النظرة إلى العالم والتعامل مع الحياة.
على أن الإشكالية التي يهتم بها رنسيمان إنما تتركز تحديدا في ملاحظة كثرة التغيرات التكنولوجية المتلاحقة وسرعتها من ناحية، مقابل جمود الوضع السياسي من ناحية أخرى، في جميع البلدان تقريبا. حيث يرى أن النظام السياسي في أمريكا، التي كانت مهد ثورة تكنولوجيا المعلوماتية والتواصل، لم يشهد أي تغيير حقيقي طيلة العقود الثلاثة الماضية، وأن اللحظات التي بدت كأنها تفتح على التحولات، مثل انتخاب أوباما، لم يكن لها من أثر سوى زيادة ترسيخ النظام القائم بجميع علله وانسداداته: إذ «ما أن خبت جذوة الابتهاج حتى وجد أوباما نفسه في مواجهة القيود ذاتها ـ قيود الخيارات السياسية المحدودة. ذلك أن عجلة النظام السياسي الأمريكي متورطة في قرار أخدود عميق. ولكن مع هذا، فقد شهدت حياة المواطنين الأمريكيين في الأثناء ثورة كبرى».
أما في الصين، فإن نظام الحكم لم يتغير منذ سحق انتفاضة ساحة تيانامن عام 1989، ولكن حياة الصينيين تغيرت في الأثناء تغيرا تاما. صحيح أن التطور الاقتصادي الباهر هو السبب الأول لهذا الانقلاب المشهود، ولكن السبب الآخر في رأي رنسيمان هو الثورة التكنولوجية، المتمثلة خصوصا في انتشار استخدام الموبايل. ولهذا يقول إنه لو تم اقتلاع أي شخص من أبناء القرن العشرين وزرعه في عالم اليوم، فإنه سيعجز عن التعرف على أي من العوالم الرقمية التي صار الناس يعتمدون عليها اليوم في مسائل تتراوح من التلاقي والاجتماع والزواج إلى الاستشفاء والبحث والتفاوض والتعاون والعمل الخيري، بل ويعتمدون عليها أحيانا في تقرير مستقبلهم وتحديد هوياتهم.
أما ريجيس دوبري ـ الذي هو من أوائل المفكرين الغربيين انكبابا على هذه القضية لأن لديه اهتماما أصيلا منذ عقود بمختلف مباحث التواصل الإنساني التي جدّد النظر فيها ووحّدها تحت اسم «الميديولوجيا» ـ فقد قال أخيرا بمناسبة صدور كتابه الجديد «إعلان إفلاس» (الذي هو بمثابة مرثية لنصف قرن من الالتزام الفكري والسياسي الضائع تشبه من أحد الوجوه مرثية «عالم الأمس» لستيفان تسفايغ) إن «هذا العصر قد طوى الصفحة: طوى صفحة الصفحة لأنه لا يبتغي غير الصورة (..) لقد حصل انقلاب طوّح بالإنسانية من الفكري إلى العاطفي، من التخطيط إلى البصري (..) أما ألحظ ما يلحظ في المقابل، فهو اضمحلال المستقبل. إذ لم يعد هنالك أي حزب مهيكل ايديولوجيّا لديه رؤيا بشأن المستقبل، أي بشأن ما يجدر العمل على تحقيقه. لهذا صرنا نحيا في ماركتنغ اللحظة الفورية وفي زمن الرقم المضارع».
تلك هي حقيقة هذا العصر. فما هو الثوري إذن، أي ما هو التقدمي إنسانيا، في هذه الثورة الرقمية؟ ما هو الثوري حقا في هذه الثورة الرجعية؟
٭ كاتب تونسي
مالك التريكي