في أول يوم دراسي أعقب خلع حسني مبارك من منصبه كرئيس مزمن لمصر، وبعد عودة الطلاب إلى تلك المدرسة الواقعة في محافظة قنا في صعيد مصر، قامت مديرة المدرسة بتهنئة جميع المدرسين والطلاب في الميكروفون، ثم أعطت الكلمة لمدرس اللغة العربية المسؤول عن الإذاعة الصباحية، فاقترح أن يبدأ كل مدرس في سرد ما جرى في مصر من وجهة نظره، ثم نادى على مدرسة التاريخ لتبدأ الحديث إلى الطلبة، فتقدمت إلى الميكروفون وبدأت بحكاية قصة ابنها عبد الرحمن، الذي شارك في مواجهة فلول الحزب الوطني خلال أيام الثورة، وعمل رئيساً لإحدى اللجان الشعبية التي تحمي الشارع من اللصوص والمجرمين الفارين من سجن قنا، بعد الانسحاب المريب والمهين لقوات الشرطة.
وعبر صفحات رواية «بحجم حبة عنب» للكاتبة منى الشيمي، نسمع مدرّسة التاريخ وهي تحكي كيف تعرض ابنها لمحاولة قتل من فلول الحزب الوطني، لأنه نظّم يوم جمعة الرحيل مظاهرة بدأت في الطواف من المسجد الكبير رافعة شعار «الشعب يريد إسقاط النظام»، وحين انتهت صفق لها الطلبة بحرارة، وتوالى المدرسون في الإدلاء بآرائهم في ما حدث، وتوقعهم كيف ستسير الأمور، متمنين أن يبدأ عهد جديد تنتظم فيه الطالبات بجد داخل المدرسة، ولا تُلقى فيه الزبالة في الشوارع، ولا يتعدى أصحاب المقاهي على الأرصفة، «عهد نأخذ فيه رواتبنا كاملة».
تقول بطلة الرواية مستغربة: «كنت أستمع إلى ما يقوله المدرسون باستغراب، لأنهم لم يذكروا شيئاً عن أهداف أكبر، كالكرامة والعدالة الاجتماعية والحرية. بعد انتهاء طابور الصباح وصعود الطالبات إلى الفصول، قررت المديرة أنه آن الأوان لإنزال صورة مبارك من حوش المدرسة، ووضع علم مصر بدلا منها، بمجرد تصريحها تحمس المدرسون، صعد الأستاذ لطفي مدرس التربية الزراعية على السلم، وبدأ الجميع في تصفيق حاد، لكن الأستاذ صموئيل المسؤول عن العهدة دخل بين الجموع وقال بصوت عال: «محدش يقرب من الصورة.. مقدرش أسيبكم تنزلوها من غير تصريح رسمي من موجه الوسائل.. دي عهدة يا جماعة.. ولازم تفضل متعلقة لغاية ما يجيني أمر». ضحكت المديرة واستنجدت بمدرسة التاريخ التي حاولت أن توضح للأستاذ صموئيل، أن هناك ثورة أطاحت بمبارك منذ شهر ونصف الشهر، قامت بأخذه إلى جانب قصي لتتحدث معه بهدوء، «لكنه أصر على بقاء الصورة، حتى إذا اندلعت ألف ثورة، وإذا قام أحد بمحاولة ما لإنزالها من الجدار فسيشكوه لمدير الإدارة التعليمية، أمام إصراره صمتت المديرة ودخلت إلى المكتب يلحق بها عدد من المدرسين، وتوصلوا إلى أنه من الأسلم الإبقاء على الصورة، ما دامت لم تأتِ أوامر بتغييرها».
في روايتها الجميلة التي يتناغم فيها الحكي ويتصل أوله بآخره، تحكي منى الشيمي عن معاناة بطلتها في علاج ابنها زياد المريض بالسرطان، التي تضاف إلى عذابات 100 ألف حالة سرطان سنوياً في مصر، وإلى عدد المرضى المتراكمين من السنوات السابقة، طبقاً لتصريح أدلى به عام 2007 عميد المعهد القومي للأورام في جامعة القاهرة، وتكشف كيف ما زالت البطلة بعد الثورة محتاجة إلى وقوف صحافية مُحارِبة للفساد ومحبة للبشر مثل الكاتبة نجلاء بدير، لكي تحصل على حقها في علاج ابنها، في الوقت الذي يدخل فيه مبارك إلى المركز الطبي العالمي لتلقي العلاج، لكن منى رغم هذه الإحالات إلى الواقع المرير، تعترف لقارئها بأنها ككاتبة عربية راوغت كثيراً كي لا يطابق ما تكتبه الحقيقة، لأنها تعرف أن الكثيرين سيلتهمون سطور الرواية بحثاً عما يدينها، وأن القارئ العربي لن يتسامح معها، كما تسامح مع إيزابيل أليندي وهي تستحضر حياتها بصدق في رواية «باولا» التي كتبتها إلى جوار ابنتها المريضة، لكنها مع ذلك تقرر أن تكتب لكي تتخلص من حمولتها، ولكي لا تعود بعد الكتابة للتفكير في ما حدث تجاه الماضي، ولتعدو تجاه المستقبل بخفة، مواجهة الجميع بقدر لا يستهان به من الإصرار، وبوهم إضافي عن قدرتها على تغيير شخصيتها والبدء من جديد، متذكرة مقولة أبيها: «السعادة شيء غامض في داخلنا نحن، نقرر أن نكون سعداء فنكون، ونسعد الآخرين بما نشعر به فيسعدوننا».
على عكس أمها التي تبتهج لمحاكمة مبارك، وترى فيها بداية لتغيير كامل للواقع المأساوي الذي يعيشه المصريون، تدرك بطلة «بحجم حبة عنب» تعقيدات الواقع ومأساويته وعفونته التي ضربت أرواح الناس جيلاً بعد جيل، فتقول مخاطبة ابنها حين تصطدم بشيوع الغش كواحد من مظاهر فساد أوضاع التعليم المصري: «أحضر خمسة قرود، ضعها في قفص، وعلِّق فيه سوباطة موز. بعد مدة قصيرة ستجد أن قرداً سيحاول الوصول إلى الموز، ما إن يصل إليه، أطلق رشاشاً من الماء البارد على القِرَدة الأربعة الباقيين وأرعبهم، بعد قليل سيحاول قرد آخر أن يصل إلى الموز، كرِّر العملية نفسها، رُشّ القِرَدة الباقية بالماء، كرر العملية أكثر من مرة، بعد فترة ستجد أنه ما إن يحاول أي قرد الوصول إلى الموز، فستمنعه المجموعة خوفا من الماء البارد. أبعد قرداً من الخمسة إلى خارج القفص، وضع مكانه قرداً جديداً، ليكن اسمه سعدان، لم يشاهد رش الماء البارد، فسرعان ما سيذهب إلى السلم لقطف الموز، ستهب مجموعة القردة لمنعه وستهاجمه، بعد أكثر من محاولة سيتعلم القرد الجديد أنه إذا حاول قطف الموز، سينال علقة قرداتية من باقي أفراد المجموعة، أخرج قرداً جديداً ممن عاصروا حوادث رش الماء، وأدخل قرداً جديداً عوضاً عنه، ستجد أن المشهد السابق سيتكرر من جديد، القرد الجديد يذهب إلى الموز، والقردة الباقية تنهال عليه ضربا لمنعه، بما فيها سعدان، على الرغم من أنه لم يعاصر رش الماء».
ثم تضيف مخاطبة ابنها وقارئ حكايتها: «أعرف أنك استوعبتها يا بني. لست في حاجة إلى أن تعيش حياتي لتعرف أننا نتبادل أدوار قرود هذه النظرية، بدون أن نعي، وأحياناً نقوم بالأدوار جميعاً في الوقت نفسه، تداعيات الواقع تعيد صياغتكم كل ساعة، المثل والأفكار التي تربينا عليها صارت في عصركم تقليدية وبالية، كنت سعدان لفترة من الوقت، وكان إخوتي وأمي باقي القرود، ثم انضممت إلى باقي القرود، وكنت وإخوتك سعدان، وبرؤية أعم فإن الناس جميعاً مثل سعدان، وثمة مجهولون يتحكمون فينا عن بعد، وأحيانا نصبح المجهولين ونساهم في صناعة سعدان جديد، في هذه المسرحية يجب أن نتدرب على كل الأدوار ونتقنها، لأننا سنقوم بكل دور حتماً في وقت ما، النفس البشرية مليئة بالأسرار والتناقضات».
بخبرتها الطويلة مع السنين، وقدرتها الفريدة على المقاومة، تقول الأم لابنها الذي يعاني من المرض الخبيث: «لا تقلق، سينتهي كل شيء مهما كان قاسياً، جئنا الحياة بدون ضمانات، لم نأخذ عهداً بالسعادة أو الحرية أو الصحة، نحن نخلق الضمان الكافي لنحيا، نحدد ماهيته، كل شيء نسبي يا وليدي، السعادة نسبية، إذا قُدِّر لك البقاء شهوراً، فلتكن هذه الفترة سعيدة لك ولي ولكل من حولك، كيف سنخلق السعادة؟، لا أعرف، سنتوهم الشعور بها وحسب، وستأتي طوعاً أو غصباً، لا نملك خياراً آخر».
…
ـ «بحجم حبة عنب» ـ منى الشيمي ـ مركز الحضارة للنشر
٭ كاتب مصري
بلال فضل
سعدان يمثل من خرج بيوم 30-6-2013 الأسود على الديموقراطية بمصر
ولا حول ولا قوة الا بالله
حكاية حلوة تذكرنا بأيام سوداء