عن معادلة المنتصرين والمهزومين ما بعد تنظيم «الدولة»

في 2006 كتبت أن الصراع في العراق بعد نيسان 2003 اتخذ شكل منتصر يعتقد أنه انتصر في صراعه التاريخي مع الدولة، وكان سقوط الدولة العراقية بمثابة اللحظة التاريخية التي لا تتكرر من اجل تثبيت المطالب القومية والمذهبية، بل وحتى التاريخية (التأويل الشيعي/الكردي لتاريخ العراق الحديث). ومهزوم(السنة العرب)، يستشعر الهزيمة بسبب تماهيه القسري والطويل مع «الدولة المنهارة «، لكنه يعتقد، في الوقت نفسه، أنه يمتلك القدرة على استعادة وجوده بشكل ما.
لقد حكم هذا الصراع مفاصل بناء النظام السياسي/ الدولة في العراق، على الرغم من المحاولات الأمريكية للتقليل من حدة عدم التكافؤ بين الطرفين. وقد عكس هذا الاختلال عملية كتابة الدستور بوضوح، فكان الدستور، ومن ثم بناء الدولة، نتاجا لاختلال التوازن هذا ونتاجا للحظة غير عقلانية صنعتها نشوة المنتصرين، وصدمة المهزومين، وكانت النتيجة دستورا يعبر عن «إرادة « جماعات سياسية تستمد وجودها وديمومتها من الولاءات الأولية، بوصفها «انتماءات» تسبق في تراتبيتها الانتماء «للدولة» وفق النظام التراتبي لتصور الهوية، مع هيمنة غير مسبوقة « لخطاب التماهيات»، التماهي بين الجماعات السياسية وبين المكونات الاجتماعية التي تدعي « تمثيلها»، مع كل ما يترتب على ذلك من احتكار التمثيل. وكانت النتيجة ايضا أن المهزوم ظل ينظر إلى السلطة القائمة بوصفها تمثل في النهاية غلبة «رؤى» معينة تعكس تأويلا محددا لتاريخ العراق الحديث، وليس بوصفها «سلطة» ذات مشروعية معترفا بها من الجميع، وممثلة للجميع، وبالتالي سلطة مستمدة من الشعب بجميع مكوناته وطوائفه.
وكتبت في 2010 أن معادلة المهزومين والمنتصرين في العام 2005 كانت السبب الرئيسي في انتاج الحرب الأهلية في 2006 – 2007 وان النخب السياسية العراقية لم تع الدرس، فهل لنا ان نتخيل ما الذي يمكن أن تنتجه معادلة المنتصرين والمهزومين بعد 2011 في ظل امكانية تحقق الانسحاب الأمريكي، وفي ظل الفشل في الوصول إلى الحد الادنى من المشاركة في السلطة؟
وكتبت ايضا في 2013 أن حركة الاحتجاج في الجغرافيا السنية قد تنتهي إلى تعزيز خطاب دعاة العنف، واستعادة الجماعات المسلحة لثقة الجمهور مرة أخرى بوصفهم الوحيدين القادرين على تغيير معادلة «المنتصرين والمهزومين» التي فشل السياسيون في تغييرها، والمتغيران الأمريكي (انسحاب القوات الأمريكية)، والسوري (الثورة السورية والحرب) سيجعلان هذا السيناريو كارثيا، لاسيما وأن الامر سيكون هذه المرة، اقرب إلى «عنف مشرعن»، بدعوى الدفاع عن الحق في المشاركة في السلطة، وأنه سيكون عنفا مختلفا تماما عن العنف الذي واجهناه بعد نيسان 2003 باسم المقاومة مرة، وباسم الإسلام مرة، وباسم الايديولوجيا مرة أخرى، إنها مواجهة باسم «المظلومية» هذه المرة، وما أسهل التحشيد تحت هذه المقولة.
وقد تحققت هذه الدعوى، تحديدا في الرمادي والفلوجة، حين سقطت مدينة الفلوجة بالكامل، ونصف مدينة الرمادي، على يد أبناء المدينتين، قبل أن يختطف تنظيم الدولة المشهد بالكامل. ومن الواضح اليوم أن معادلة المنتصرين والمهزومين يراد لها مرة أخرى ان تحكم، وبشكل أكثر صراحة وعلانية، مرحلة ما بعد تنظيم الدولة! مع وجود تواطؤ أمريكي على ذلك. والدولة العراقية بشكلها الحالي مع مشهد المنتصر والمنهزم لا يمكن ان توصف أنها دولة تحارب الإرهاب ممثلا في تنظيم الدولة. فليس ثمة دولة عراقية بالمعنى الذي يجعلها ممثلة للمصلحة العامة المشتركة بين أفرادها جميعا، أو كما عرفها ماكس فيبر: دولة فوق الأفراد، و ليست وسيلة في يد طرف ضد طرف آخر، وانها تقف بشكل حيادي من جميع الأفراد. الدولة أو بالأحرى الدولة الفاشلة في العراق اليوم تصر على أن تكون ذات هوية أحادية، تمثل هوية فرعية لمكون اجتماعي، وبالتالي تمثل أفرادا؛ وهي أداة يستخدمها هؤلاء «الأفراد» بشكل منهجي لفرض الهيمنة وصيغة الأمر الواقع على «الآخرين»؛ وأخيرا هي متحيزة وانتقائية! وعلى الرغم من ذلك يتعامل معها المجتمع الدولي وحلفاؤها، على أنها السلطة الشرعية الوحيدة التي يجب التعامل معها، وغالبا ما يتم السكوت عن تحيزاتها اللاعقلانية، بل واللاأخلاقية، تحت حجج مختلفة. ومن ثم، وفي ظل الإنقسام المجتمعي الحاد في العراق، وفي ظل الصراع السياسي الحاد على السلطة والثروة، فان المنتصرين هم القابضون على السلطة، وهم الحلفاء للحلفاء، أما المهزومون فهم أنفسهم مهزومو 2003!
المنتصرون اليوم أيضا، كما في المرات السابقة، لا يستمدون نفوذهم من قوة ذاتية حقيقة، وإنما من دعم دولي وإقليمي مفتوح من دون أية شروط، فالولايات المتحدة الأمريكية لم تعد ترى في العراق سوى تنظيم الدولة، وبراغماتيتها تفرض عليها ان تتعاون مع أي طرف يساعدها في هزيمة هذا العدو، بمعزل عن النتائج الكارثية التي يمكن لهذا «الطرف» أن يتسبب بها لاحقا! ودول أخرى مثل بريطانيا وفرنسا واستراليا مجرد ملحق بهذه الرؤية الأمريكية! فهذه القوات مجتمعة شاركت على سبيل المثال في تأمين الغطاء الجوي لاستعادة منطقة سليمان بيك من تنظيم الدولة في آب 2014، لتشهد المنطقة لاحقا تدميرا ممنهجا وثقته منظمة هيومان رايتس ووج في تقرير لها صدر في آذار/ مارس 2015 أشار إلى أن «تدمير المباني على الأقل في 47 قرية ذات غالبية سنية، منهجيا ومدفوعا بالانتقام، ويهدف إلى تغيير التكوين الديمغرافي».
وأضاف التقرير أن صور الأقمار الصناعية كشفت عن «أكثر من 3800 مبنى مدمرا في 30 بلدة وقرية، منها 2600 من المرجح أنها دمرت بفعل النيران و 1200 من المرجح أنها هدمت بالآلات الثقيلة والتفجير غير المنضبط شديد الانفجار». أما الزيارة الميدانية لفريق المنظمة فقد أكد وجود أدلة على حرائق داخل المباني لم تكشفها صور الأقمار الصناعية بما يرجح أن تكون المباني المتضررة بفعل الحرائق أكثر بكثير من 2600! واليوم بعد مرور أكثر من سنتين على استعادة المنطقة، لم يسمح للنازحين منها العودة اليها! والعودة ممنوعة بقرار من الميليشيات التي تحظى بغطاء حكومي صريح! فهل يستطيع الأمريكيون والبريطانيون والفرنسيون والاستراليون الادعاء أنهم خدعوا مثلا؛ أو أنهم لم يكونوا يعرفون أن الأمور ستؤول إلى هذا الوضع في النهاية؛ خاصة وانهم ما زالوا يقدمون دعمهم لهذه الأطراف، سواء كانت قوات عسكرية رسمية، أو ميليشيات، أو قوات بيشمركه، وما زال سيناريو التدمير الممنهج والتغيير الديمغرافي يتكرر أيضا!
يجتهد الحلفاء المحليون والإقليميون والدوليون بتسويق سردية أن المهزومين ليسوا كلهم سيئين، فثمة مهزوم جيد، ومهزوم سيئ!
المهزومون القابلون بفكرة الهزيمة هم جيدون ما داموا يؤمنون بمنطق الهزيمة، او فقه الهزيمة كما يسميها إسلاميو المهزومين الجيدين! أما المهزومون الرافضون لفكرة الهزيمة من الأصل، والمدافعون عن فكرة الدولة، وفكرة سيادة القانون، فلا يمكن التعاطي معهم بجدية، نعم يمكن اللقاء معهم، وربما محاولة اقناعهم بأن يكونوا مهزومين جيدين، ولكن في النهاية ثمة اكتفاء ذاتي بالمهزومين الجيدين، وهؤلاء يجب إعادة انتاجهم دائما، مهما اشتطوا. ولا بد دائما من تذكير هؤلاء بهزيمتهم، حتى لا ينسوا، والنفس أمارة بالنسيان دائما! فلا بأس من فركة أذن بين حين وآخر لتذكيرهم فقط، والذكرى تنفع المهزومين دائما!
ما الذي سنكتبه بعد سنتين أو ثلاث على أبعد تقدير، عن معادلة المنتصرين والمهزومين المتجددة، بعد ان يكتشف الجميع أنها غير قابلة للنجاح أيضا؟

٭ كاتب عراقي

عن معادلة المنتصرين والمهزومين ما بعد تنظيم «الدولة»

يحيى الكبيسي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    التغيير الديموغرافي بالعراق وسوريا ولبنان واليمن أصله وفصله واحد إيران وميليشياتها – البداية كانت بالأحواز العربية !
    ومع هذا فلن يدوم الوضع لأن إيران نفسها تغلي من داخلها خاصة بعد خيبة أملهم بالإصلاحات التي وعدهم بها روحاني !
    ولا حول ولا قوة الا بالله

  2. يقول أ.د. خالد فهمي - تورونتو - كندا:

    شكراً لمقال الاخ الكبيسي…

    أنا أؤيد ما ورد في تعليق الذي سبقني وأستكمل القول بأن أيران لن ترفع يدها الغاشمة عن العراق وشعبه المظلوم (وكذلك باقي البلدان العربية الخاضعة لسيطرت ولاية الفقيه الخمينية) ألا بعد أن ” ينكفي ” وينشغل الملالي وحرس خميني في المشاكل الأقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والعرقية الداخلية…وعندها سيتحرر العراق و شعبه ويستعيد حريته وسيادته وأستقلاله والله تبارك وتعالى وليّ التوفيق !!!

إشترك في قائمتنا البريدية