عن ملتقي السرد العربي وعن الأقصر

من لا يحب مدينة الأقصر؟ في سنوات الثمانينيات والتسعينيات حين كنت أعمل في الهيئة العامة لقصور الثقافة في مصر، كنت حريصا على زيارتها في أي مؤتمر ثقافي يُعقد هناك. ومنها عرفت كثيرا من شباب الصعيد الأدباء الذين صاورا الآن نجوما مثل الشاعر حسين القباحي والشاعر عزت الطيري والكاتب أشرف الخمايسي.
كما سبق وعرفت نجوما مثل أمل دنقل ويحيى الطاهرعبد الله وعبد الرحمن الأبنودي. كما عرفت كتابا يمتلئون بالمحبة للبشر والجمال في السلوك رحلوا عن دنيانا، مثل الشاعر حسين خليفة والكاتب والمرشد السياحي الأسبق سيد مسعود الأقصري، الذي كان يرفض عودتنا ويدعونا للبقاء في فندقه الشعبي الجميل المبني من الخوص، الذي كان فارقا في أحاديثه عن كل الناس، فلقد ترك الإرشاد السياحي لأن أحد الفراعنة حدّثه ألا يأتي بالغرباء يتفرجون عليه. كما إنه قرر أن يعود لعبادة «آتون» وانضم إليه عدد من الأدباء يأكلون ويشربون في فندقه ثم تركوه بعد شهر من العبادة. وحدثني ضاحكا كيف خذله الأدباء الذين خافوا من الأمن، رغم الأكل والشرب المجاني، وتوقف بدوره عن هذه العبادة. كان لديه طموح كبير أن يصنع أفلاما فارقة لكنه رحل عن دنيانا بعد أن أغرقنا بالكرم في فندقه لسنوات، وكتب أكثر من كتاب بين الشعر والقصة كان يعتبرها شعرا إذا قابل شاعرا، وقصصا إذا قابل قصاصا! وكنا نحبه ونعتبر زيارته مقدسة مثل زيارتنا لآثار أجدادنا في معبد الأقصر، أو في معبد الكرنك أو في البر الغربي حيث المقابر العظيمة لأسلافنا العظماء.
ابتعدت سنوات طويلة عن الأقصر، حتى دعاني الصديق والشاعر حسين القباحي منذ أربعة أشهر لندوة في بيت الشعر التابع لإمارة الشارقة، الذي يديره هو ويساعده الشاعر الشاب حسن عامر. عدت إليها واستيقظ الحب القديم للأقصر وعندما دعيت هذه المرة إلى ملتقي السرد العربي لم أتوانَ عن الذهاب. لم أسأل الكاتب والشاعر المصري عبد الفتاح صبري المنسق للملتقى والمقيم في الإمارات عن موضوعه ولا عن ضيوفه. إني ذاهب إلى المدينة التي أحبها.
هذه هي الدورة الرابعة عشر لملتقي السرد العربي، التي ارتأى الشيخ سلطان بن محمد القاسمي حاكم الشارقة أن تكون لأول مرة خارج الإمارة، واختيرت الأقصر باعتبارها هذا العام عاصمة الثقافة العربية. عرفت من عبد الله بن محمد العويس رئيس الدائرة الثقافية في الشارقة في كلمته الافتتاحية أن هذا الملتقي سيكون لاحقا في عواصم عربية مختلفة، وهذا أمر جميل بلا شك. كان واضحا من محاور الملتقى أن الأمر جاد فيكفي أن تقرأ عناوين المحاور لتعرف أهميته. لقد حمل عنوانا عاما وهو «القصة القصيرة ورهان التجديد»، واشتمل على محاور ستة هي:
القصة من التراث إلى المخيال الغيري. المرجعيات الثقافية والقصة القصيرة. القصة القصيرة من الخيال إلى الواقع المتوهج. القصة القصيرة والشبكة العنكبوتية تواصل أم انقطاع؟ القصة القصيرة جدًا ومحاولات التأطير. تحولات القصة القصيرة بين الجماليات والضرورة، بالإضافة إلى الشهادات الأدبية والقراءات القصصية التي سيساهم بها بعض ضيوف الملتقى.
إن نظرة سريعة على بعض ضيوفه تعرف الجهد المبذول فيه من الشارقة أو من بيت الشعر في الأقصر، أو من رعاية الهيئة المصرية للكتاب التي يديرها هيثم الحاج علي. كان هناك ضيوف يمكن أن تسميهم ضيوف شرف مثل محمد برادة وواسيني الأعرج ونبيل سليمان وبثينة الناصري، وضيوفا فاعلين من أكثر من بلد عربي مثل عذاب الركابي من العراق وسعاد مسكين ويوسف فهري من المغرب وسعداء الدعاس الكاتبة والناقدة من الكويت ومحمد آيت ميهوبي من تونس وفهد حسين من البحرين وعائشة الدرمكي من سلطنة عمان والكاتبة بلسم الشيباني من ليبيا والريم الفواز من السعودية ومن مصر طبعا كان العدد الأكبر مثل محمود الضبع وهيثم الحاج علي وهويدا صالح وشعيب خلف وحسين حمودة ومحمد أبو الفضل بدران وعادل عوض والكتاب والنقاد سيد الوكيل واعتدال عثمان وشوقي بدر يوسف ومريم توفيق وبشرى أبو شرار وأدهم العبودي وأحمد أبو خنيجر وجلاء الطيري، وكتاب من الدول العربية مثل محمد التيجاني من السودان ومريم السعدي ورحاب الكيلاني ولولوة المنصوري من الإمارات وزهرة مرسل من الصومال.
حشد جميل لمدة سبعة أيام في مدينة الأقصر العريقة، ونقاشات عميقة لكل القضايا وتنظيم رائع لم يتخلف فيه أحد عن دوره. بلا شك كان للمكان تأثيره فمدينة الأقصر تمنح من ينزل فيها إحساسا بالثقة والوقوف على أرض قاهرة للزمان، وأهلها طيبون إلى درجة جعلت محمد آيت ميهوبي يتأثر بشدة وهو يمشي معي في شوارعها، ويحدثنا بعض الناس أحاديث جميلة، ومنهم من يتعرف عليّ أو يعلن لي إنه رآني في التلفزيون كثيرا وأعجبه ما أقول، ويقف يتحدث معي في الأحوال فأسمع أكثر مما أجيب لأبتعد عن أي عامل للنكد وأظل في متعة الملتقى الثقافي، وأنا أستمع إلى دراسات جادة وعميقة وجديدة، أو إلى قصص من الروائي الجميل أدهم العبودي أو أحمد التيجاني وسولاف هلال وغيرهم، أو شهادات أدبية رائعة من زهرة مرسل ولولوة المنصوري وجلاء الطيري والروائي الرائع أحمد أبو خنيجر.
انتهى المؤتمر بزيارة لمعالم الأقصر الأثيرة، تخلفت عنها بسبب الحر ولأني طالما رأيتها. كما إنني في لحظة سألت نفسي سؤالا ماذا ستقول إذا سألك رمسيس أو حتشبسوت عما جرى في مصر من تدهور؟ وتذكرت صديقي مسعود الأقصري فلم أذهب واكتفيت بلقاءات كتاب الملتقى. وفي الحفل الختامي استمتعنا بموسيقى وغناء فرقة الأقصر الموسيقية في رحاب ساحة مسجد أبو الحجاج، وأمامنا معبد الأقصر.
وحين غنت الفرقة أغاني وطنية لم أتحمل أغنية وطني حبيبي الوطن الأكبر، حيث شعرت بالألم لأن نصف الدول العربية التي تطوف بها الأغنية في فخر تعيش في جحيم من الحروب. ورغم ذلك يظل الفن والأدب هما فرسنا الذي لا يقف أمامه شيء ولا يعـــوقه خراب. وتظل لقاءات الكتاب العرب أجمل ما في هذه الأوطان.

٭ روائي مصري

عن ملتقي السرد العربي وعن الأقصر

إبراهيم عبد المجيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية