عودة سايكس- بيكو بعد مئة سنة ويوم

قرن من الزمن مرّ على العالم العربي في مواجهة اتفاقيات سايكس- بيكو المضللة والخطيرة، ولا يزال داخل نفس الطاحونة الحارقة التي تعج بالضحايا وكأنهم في أسفل سلّم الكائنات التي لا تستحق العيش.
هناك حالة غريبة، حقيقة مستعصية الفهم على العربي تحديداً، هي رفض الحكّام العرب لرؤية ما يعيشونه اليوم بأنه نكبة بكل المواصفات. نكبة حقيقية وخطيرة لأنها منعت العربي من أية رؤية واضحة أو إمكانية للتطور. أكبر ما حلّ بالعرب اليوم هالك للزرع والضرع، ويتلخص في نكبتين: الأولى سقوط الأندلس.
ليس السقوط بالمعنى النوستالجي، فالأرض في النهاية عادت لذويها بعد أكثر ثمانية قرون ونيف، وهو أمر يدخل في طبيعة الأشياء. طبعاً العرب شيدوا حضارة كبيرة وثقافة عالية على مدار هذا الزمن كله، لكن، انتهى كيانهم هناك ولو أنه يمكننا أن نجادل طويلاً، وعادت الأرض إلى الأصليين من ذويها.
صحيح أن الملوك الكاثوليك كانوا من نوعية بائسة، لم يقدروا البعد الحضاري العربي الذي ورثوه، لكنهم قاموا بما أملاه عليهم واجبهم الديني كما تصوروه. فمحوا كل المعالم العربية الحية، وأنشأوا محاكم التفتيش المقدس في فترة الطرد والاسترجاع. ليس هذا ما أقصده طبعاً، لكن الفجيعة الأولى هي عملية طرد الموريسكيين.
ثلاثة ملايين مسلم ويهودي، من أصول عربية أو بربرية أو عبرانية، وجدوا أنفسهم بين يوم وليلة على حافة السواحل، لا حامي لهم إلا السماء والأرض والبحر. أكبر هولوكوست في التاريخ، حصل وقتها قبل أن يمحوه هولوكوست آخر مورس ضد الهنود الحمر الذي اجتث السكان الأصليين وشردهم وحولهم إلى عبيد.
البشرية تواطأت معه أو صمتت عليه، وبالتحديد أوروبا التي دفعت إسبانيا للإعتذار لليهود وأعطتهم الحق في استرجاع هوية أجدادهم وجنسيتهم الإسبانية، وهو أمر حضاري وإنساني طبيعي، لكنهم لم يعتذروا للمهجرين من المسلمين، الموريسكيين، الذين كانت غالبيتهم قد تمسحت. شيء غريب ولا يفهم. لنتخيل قليلاً تلك الحشود واقفة على حواف الموانئ الإسبانية القديمة تنتظر السفن الإيطالية التي ترمي غالبيتهم في البحر طمعاً في أموالهم ولا توصل إلى العدوة الأخرى، إلا القلة القليلة. كانت الضربة جافة وقوية. في العصر الحديث كانت المأساة العربية الثانية، كارثة سايكس بيكو التي مزقت الأرض العربية وأوجدت عليها دويلات هشة وتبعية، جزء منها للفرنسيين، والجزء الثاني للبريطانيين. وضع الإنكليز على إثرها الأمير فيصل حاكماً على سوريا التي انتزع منها لواء الإسكندرون في لعبة سياسية عسكرية فرنسية تركية واضحة لإبعاد تركيا من المشهد أو حتى اعتبارها حليفة، ووضع الأمير عبد الله ابن الشريف حسين، حاكماً على الأردن. وفصلت فلسطين عن بقية أراضي الشام، ووضع لها قانون خاص انتهي بتسليمها إلى عسكريي الهاغانا والشتيرن في لعبة إنكليزية- إسرائيلية واضحة. وبتسريبات سرية، يتمّ فضح اتفاقيات «سايكس بيكو» السرية لينتهي حكم الأمير فيصل في سوريا لأنها أصبحت منطقة فرنسية مع لبنان، وينقل إلى العراق في شكل شبه عبثي بعد أن استبيحت الأراضي العربية نهائيا. هناك لعب خطير بالمصائر العربية، لتي تحولت إلى رقعة شطرنج تتحرك فيها البيادق كما تشاء يد الأقوى. فقد تمزق نهائياً شيء اسمه العالم العربي، وتمّ إيجاد شرق أوسط جديد، ابتدعه الغرب الاستعماري من خيالاته وأوهامه وأحلامه، ليتمكن من الهيمنة على خيراته.
لم يكن إدوارد سعيد مخطئاً عندما اعتبر شرق اليوم بدعة غربية. محق في ذلك. ما الشرق الجديد إلا استمرار للشرق الذي رسخته اتفاقيات «سايكس بيكو» الخطيرة، الذي نشأت على إثره دول عربية تدين بالولاء للغرب لأنه أوجدها من عدم، وأخرى متمردة عليه واختارت مسالك أخرى أعليت فيها راية التحرر والمقاومة ضد سرقة الأرض العربية ونهبها، مثل سوريا والعراق ومصر، وغيرها، فوجب كسرها، وتدمير لحمتها الداخلية مثلما حدث في سوريا الطبيعية التي فصلت عنها مساحتان أساسيتان، هما لبنان ولواء الإسكندرون الذي منح لتركيا. لم يتغير الشيء الكثير اليوم، حلت محل سايكس بيكو الجغرافية والأرض، سايكس بيكو الطائفة والإثنية والعرقية ليكون التمزق العري أشمل. وسيتواصل بتواتر وتسارع كبيرين، وستنشأ دويلات على أساس عرقي، لغوي، طائفي. عبث بمصائر بشر كأنهم لا يستحقون العيش. المشهد التراجيدي الذي نراه اليوم يتأسس داخل الجحيم والحسابات الدولية، لا يخرج عن المسار التمزيقي الذي شُرِعَ فيه منذ أكثر من قرن، وربما كان أكثر خطراً وتجذراً، فما كان يقبل قديما كدولة اختزل في الإثنية أو الطائفية وبعدها بفترة قليلة سيتم اختزاله أكثر، في القبيلة. أوضاع اليوم تعيدنا بالضرورة إلى مأساة الماضي القاسية. المشكل الدائم كما ذكرت في بداية هذا الحديث هو أن المسؤول العربي غير معني بالمأساة التي تكبر عند رجليه حتى تحرقه. ومؤمن حتى الموت بأن ما حدث لجاره لن يمسه، فهو مهيكل ومنظم بشكل قوي وحمايته لمصالح الغرب الجشع، ستجعله في منأى عن القلاقل وكل سقوط محتمل وهو يعرف ولا يرى، أن صدام، مبارك، زين العابدين، القذافي، صالح كانوا التلاميذ الأوفياء للطاحونة الغربية البراغماتية، التي تضع المصلحة فوق كل شيء ، قبل أن تأخذهم العاصفة في دوامتها، مثلما عصفت بآخرين. الخيبات المتتالية هي التي صنعت يأس الشعوب العربية التي سدت في وجهها كل سبل التطور، فأصيبت بعدوى حكّامها. شعب بلا ذاكرة تواصلية إلا ما صنعته السلالات له، لا تأثير له في ركضه اليومي على معاشه اليومي في ممارسة تفقيرية ستهدم ما بقي واقفاً. الطرد اليهودي الإسلامي الجماعي، وخطط «سايكس ـ بيكو»، والثورات العربية، كلها دراما محبوكة بدقة، يتحمل فيها المسؤول العربي القسط الأكبر، والوافد الغربي التي تتحكم فيها روائح النفط والمعادن الثمينة التي تزخر بها الأراضي العربية. قرن من الخيبات والسقوط الحر، ولم يتوقف نزيف العربي الذي يحتضر وينتظر من ينقذه، ومنقذه الأوروبي أو الأنغلوساكسوني، مشغول أيضا بأزماته الكثيرة والقوية التي هزت كل يقينياته. هذا الوضع في كليته، يشكل دراما محبوكة بشكل جيد.
لو تأملناها لوجدناها تشكل مساراً واحداً ومشتركاً، إن فهمناه، فهمنا شرطيتنا كعرب ورؤية الغرب الاستعماري لنا أيضا؟ نهاية العالم العربي كقوة ضاربة، هو المبتغى الغربي الإسرائيلي، وهو ما يجـــــب على العــرب تفاديه لأنه سيكون إيذاناً بنهايتهم كقوة حضارية وإنسانية، في عصر آت لن يكونوا داخله.

 

عودة سايكس- بيكو بعد مئة سنة ويوم

واسيني الأعرج

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول دحمان:

    أحسنت .اين الوعي العربي ؟ وسميت الثورة العربية الكبرى !لنقرأ ما كتب لورانس في مؤله ” اعمدت الحكمة السبع ”

  2. يقول عبد الله مسلم----فلسطين:

    الفرق بين سايكس بيكو اوائل القرن العشرين هو ان الغرب بعد ان اتفق على الخرطية التقسيمية لجأ الى احتلال المنطقة وقسمها وخلق الارضية لقيام دولة العدوان الاسرائيلي في قلب العالم العربي.اليوم العرب في واقع اسوء مما كان حالهم قبل عام. اراحوا الغرب واسرائيل من المهمة وتبنوا ما يريده الغرب وكل الطامعين بحروب فيما بينهم وعادوا الى ايام ما قبل الاسلام –مناذرة وغساسنه. كان التاريخ قد توقف واعاد نفسه بشكل مأساوي وبمهزله لم يشهدها تاريخ الامم–يا ام ما شكل السماء وما القمر بجمالها تتحدثون ولا ارى منها الاثر

  3. يقول نمير العبيدي:

    والله غالب على ا مره ولكن اكثر الناس لا يعلمون
    قدر هذه الامة ان تبعث مها طال الرقود بإذن الله تعالى وما نحن نعيشه ما هو الا صيرورة ومخاض وان طال لإحياء عز الامة ومجدها في العودة لقيم الإسلام الحق الذي سيحكم الأرض بالعدل والقسط ان شاء الله تعالى…
    في صحيح مسلم

    عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم

    ((منعت العراق درهمها وقفيزها. ومنعت الشام مديها ودينارها. ومنعت مصر إردبها ودينارها. وعدتم من حيث بدأتم. وعدتم من حيث بدأتم. وعدتم من حيث بدأتم)) (( شهد على ذلك لحم أبي هريرة ودمه)) صحيح مسلم

    1. يقول الكروي داود النرويج:

      صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم
      ولا حول ولا قوة الا بالله

  4. يقول هديل:

    ومع سقوط العالم العربي وتمكن الغرب واسرائيل ستكون تلك بداية نهايتهم فهذه سنة الله في الخلق .

  5. يقول خضر عزالدين/هولندا:

    Thank you Mr Waciny and God bless you

  6. يقول Zahi kordab/Delft:

    We want the intellectuals and Arab writers dispersing more to this topic.you are All right Mr waciny

  7. يقول محمد بوحاج المغرب:

    شكرا لكاتبنا العظيم على هذا المقال الحصيف لقد قضيت اياما من المتعة في العوالم المدهشة لرواية جملكية اربيا… انتم اكثر الناس دراية بما يحاك لهذه الامة من مؤمرات ، لقد اعترفت بعظمة لسانك عن التواجد العربي الاسلامي في الاندلس لمدة ثمانية قرون ونيف… لماذا لا يتساءل الشرفاء من هذا الوطن الذي يمتد من المحيط الى الخليج من قدم الدماء الطاهرة للحفاظ على هذا التواجد ااسلامي بعد الفتح الاسلامي وعودة الجيوش الي الشرق العربي الم تضحي الدول التي تعاقبت على حكم المغرب من المرابطيين في معركة الزلاقة والموحدين في معركة الاراك وغيرهما من المعارك الشهيرة… اكثر من هذا في الوقت الذي جاء الاستعمار التركي ليملأ العالم العربي جهلاوتخلفا من يختلف معي يعود الى كتابات حنا منا الذي يصور قسوة هذا المحتل… وقف المغرب سدا منيعا ضد هذا المحتل وحافظ على استقلال المغرب وموريطانيا الى ان جاء الاستعمار الغربي الغاشم والذي لم يتمد الا لعقود قليلية بعد ان تمكن الشعب المغربي من طرده جاء البعض ليقول لنا ان حدود المغرب تتوقف عند مدينة اكادير وان الصحراء الغربية لم تكن يوما مغربية والى عهد الدولة السعدية وصلت احمد المنصور الذهبي الى تبمكتو وحدود المغرب القديمة وان كانت الان جزء من التاريخ رسمها المغاربة بدمهم ولم يرسمها الاستعمار الغربي كما هو الشأن في الجزائر على حساب شعوب المنطق

  8. يقول BOUMEDIENNE الجزائر:

    المسيحية الصليبية الهمجية الفقيرة, كانت سببا في طرد الاسبان المتحضرين, الاغنياء المسلمين من اسبانيا ,الذين بالاسلام والعربية وجدوا طريقهم الى الحضارة والتقدم والرفاهية ,8قرون من الزمن فيها اكثرمن 32جيل,الشيئ الذي لم يبقى فيه مجال للتحدث عن اصل عرقي بعينه .قبل الحرب العالمية الثانية الصهيونية طورت فكرتها لانشاء وطن قومي للصهاينة اليهود في فلسطين المحتلة ,فتحالفت مع القوى الظلامية العنصرية في اروبا لارساء قواعد جديدة للعالم, سياسية واقتصادية ,وجعل اليهود مع شعوب اخرى اظطهدت باسم اليهود ,لتضخيم الصورة الاجرامية ضدهم ,لجعلهم الشجرة التي تغطي غابة معانة البشرية ,فمنذ الهلوكوست العالم لم يعد مسموح له ان يتحدث عن ابادت الهنود الحمر في امريكا او استعباد السود لقرون او عن معانات الشعوب العربية من جراء تكالب الاستدمار عليها او عن الشعوب الاخرى ومعاناتها ,لقد احتلت صورة الهلوكوست بمكروعنصرية كل المشهد .اليوم الصليبية وجدت في مكروعتصرية الصهيونية ظالتها ,فلقد اصبحت تنفذ اجرامها ضد الشعوب الاخرى وعلى راسهم الشعب الفلسطيني دون اية قيد.لقد شاءت الاقدار ان يكون المسلمون في العالم امة وسطا دينيا وجغرافيا ,فاصبحت الصليبية والصهيونية تنظر اليهم كمصر خطر على مصالحهما المشتركة ومن ثم تتعرض منطقتنا الى كل هذه الاجندات التخريبية المدمرة .فما علينا الا ان نمارس حقنا في الدفاع عن انفسنا وعن اوطاننا ,فالمثال العربي يقول مايبقى في الواد غير احجاره ونحن كشعوب احجار هذا الواد الذي باذن الله سيجرف سيله الصهيونية والمسيحية المتصهينة معا والى غير رجعة .لاكن لا يتاتى ذلك لنا الا اذا تمسكنا بقيمنا ودينا السمح لا ما تاتي به العصابات الاجرامية من تكفيريين ,حتى لا تكون لدينا قابلية للاستعمار (الاستدمار) كما قال المفكر مالك بن نبيرحمه الله .

  9. يقول مزهر جبر الساعدي / العراق:

    الاساتذ المحترم: تحية من طيب نفسي لك أكتيها. أحسنت والله أحسنت. وضعت يد مخيط الجراح على فتوق جسد الأمة العربية. كان بودي ان اكتب إليك تعليقا اكثر من هذا، اكتب ما ينتج عن اشتغالات عقلى عند قراءة المقال، وفيوضات الروح. لكن ما في اليد حيلة على من لا حيلة لنا عليهم…..مع انهم في جميع الاحوال اكثر قربا لنا من غيرهم!!…. ارجو ان تتقبل مني وافر مودتي.

  10. يقول نادية:

    وهل انتم ضد هذه المعاهدة ام من انصار تطويرها وتفعليها ؟

    1. يقول حي يقظان:

      سؤال وجيه فعلاً، يا نادية،

      أنا ضد هذه الاتفاقيات من أولها إلى آخرها!

1 2

إشترك في قائمتنا البريدية