غابة القراءة ومسالك التأويل

حجم الخط
6

في «دلائل الإعجاز» يخاطب عبد القاهر الجرجاني القارئ، فيقول: «وجملة ما أردت أن أبيّنه لك: أنه لا بدّ لكل كلام تستحسنه، ولفظ تستجيده، من أن يكون لاستحسانك ذلك جهةٌ معلومة وعلّة معقولة، وأن يكون لنا إلى العبارة عن ذاك سبيل، وعلى صحة ما ادعيناه من ذلك دليل. وهو باب في العلم إذا فتحتَه اطّلعت منه على فوائد جليلة، ومعان شريفة، ورأيتَ له أثراً في الدين عظيماً وفائدة جسيمة، ووجدته سبباً إلى حسم كثير من الفساد فيما يعود إلى التنزيل وإصلاح أنواع الخلل فيما يتعلق بالتأويل، وإنه ليؤمنّك من أن تغــــــالط في دعــواك، وتدافع عن مغزاك، ويربأ بك عن أن تستبين هدى ثم لا تُهدى إليه، وتدلّ بعرفان ثم لا تستطيع أن تدلّ عليه، وأن تكون عالماً في ظاهر مقلّد، ومستبيناً في صورة شاكّ».
ولعلّ هذا النصّ أحد ألمع تعبيرات التراث النقدي العربي عن مسألة استجابة القارئ، أو تلك المدرسة النقدية الغربية التي تستهدف ترسيخ مبدأ العودة إلى طرف أساسي فاعل في سيرورة القراءة؛ حتى في ما يخصّ النصوص المقدسة، والتنزيل، وحُسن التأويل. والناقد البريطاني تيري إيغلتون لا يجانب الصواب كثيراً حين يقول إنّ في الوسع تحقيب تاريخ النظرية الأدبية الحديثة إلى ثلاث مراحل: الانشغال بالمؤلّف (المدرسة الرومانتيكية، والقرن الثامن عشر)؛ والانشغال الحصري بالنصّ (مدرسة «النقد الجديد»، في أمريكا النصف الأول من القرن العشرين خصوصاً)؛ والنقلة الملحوظة نحو الاهتمام بالقارئ، في العقود الأخيرة.
ولكنّ السؤال الآخر، الأشدّ استعصاء في الواقع، هو ذاك الذي يبحث عن «هوية» القارئ، أساساً؛ وما إذا كان من الممكن حصر تلك الهوية، أو الهويات بالأحرى، في خطوط استجابة معيارية، على أيّ نحو منهجي. غلاف الطبعة السابعة (1992) من كتاب «نقد استجابة القارئ»، الذي أشرفت على تحريره جين تومبكنز وصدر للمرّة الأولى عام 1980 وأصبح بعدئذ مرجعاً كلاسيكياً في دراسة نظريات النقد المنشغلة بالعلاقة بين القارئ والنصّ؛ يحمل رسماً كاريكاتيريا طريفاً، ولكنه بالغ التعبير عن محتوى الكتاب، وعن طبائع القارئ والقراءة استطراداً: ثمة امرأة تقف في حافلة عامّة، تقرأ في كتاب مفتوح، مقطّبة الحاجبين وجدّية الملامح؛ على يمينها يتطفّل رجل يقرأ الصفحة ذاتها من الكتاب، ولكنّ دموعه تسيل مدرارةً؛ على يسارها يتطفّل رجل ثانٍ يقرأ الصفحة ذاتها، ولكنه يكاد يسقط على قفاه… ضحكاً!
قراءة واحدة، ثلاثة قرّاء، وثلاث استجابات مختلفة تتراوح بين الجدّ والهزل والبكاء. لماذا؟ وكيف حدث أنّ النصّ ذاته استدعى هذه القراءات الثلاث في آن معاً، في الزمن الواحد ذاته، وفي المكان الواحد ذاته؟
أسئلة أخرى، أكثر تعقيداً، يمكن أن تنجم عن هذا الموقف الطريف الدالّ، بينها الطائفة التالية: ما مصدر السلطة التي تخوّل الحقّ في تأويل القراءة هكذا، بين جدّ وبكاء وهزل؟ هل النصّ هو الذي يحدّد القراءة، أم استجابات القارئ الذاتية، أم العوامل الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية، أم أعراف القراءة في مجتمع ما، في برهة زمنية ـ تاريخية ما، أم جماع ذلك كله؟ وهل توجد، بالفعل، قراءة صحيحة أو سليمة؟ وإذا صحّ ذلك، فكيف في وسعنا أن نقول عن قراءة ما إنها صحيحة، وعن أخرى إنها خاطئة؟ هل توجد «أخلاقيات» قراءة؟ إلى أيّ حدّ نستطيع الجزم بأنّ العالم، المحيط بالقارئ والقراءة والنصّ، مُنشَأ ثقافياً أو مستقلّ جوهرانياً؟ وكيف تؤثّر حدود جزمنا ذاك، في ممارسة القراءة وحرّيات التأويل؟ والفراغ ــ التاريخي، والثقافي، والأسلوبي، والدلالي ــ بين القارئ والمؤلّف، كيف يُملأ؟ وفي حال تحوّل ذلك الفراغ إلى هوّة، فكيف تُردم؟
وفي الإجمال تبدو الأسئلة الثلاثة الأولى وكأنها تختصر المسألة بأسرها، غير أنّ محاولة الإجابة عنها ليست بالسهولة التي قد تلوح للوهلة الأولى؛ وهي، في كلّ حال، لا تُختزل إلى تلك الإجابة الغريزية التي تقول ببساطة: القراءة هي القراءة، والقارئ هو القارئ، فعلام العناء إذن؟ ولكن… كيف تكون القراءة هي القراءة إذا كنّا، في سياق الحياة اليومية، لا نتحدّث عن قراءة الكتب والمجلات والصحف وحدها؛ بل نتحدث أيضاً عن «قراءة اللوحة»، و»قراءة المنحوتة»، و»قراءة المقطوعة الموسيقية»، و»قراءة الملامح»، و»قراءة الأحداث»، و»قراءة النوايا»، و… «قراءة الكفّ»، على سبيل الأمثلة فقط؟
وكيف يمكن أن يكون القارئ هو القارئ، قياساً على تباين الحساسيات الثقافية والفكرية والجمالية، أو الميول التأويلية، أو الجنس (ذكر/ أنثى)، أو الموقع الجغرافي (دمشق، القدس، باريس)، أو التجربة القرائية (قارئ مواظب/ قارئ جديد)، أو السنّ، والتحصيل الدراسي، وما إلى ذلك؟
ليس غريباً، في ظلّ غابة الأسئلة هذه، أن يعكف النقاد ومنظّرو الأدب، أسوة بالجامعات والمؤتمرات، على تلمّس إجابات شتى؛ بعضها شافٍ، نسبياً أو في الحدود الدنيا؛ وبعضها أسئلة جديدة تزدحم بها، وتعيد طرحها، المسالك الوعرة في قلب الغابة. «إقرأ»، قال فعل الأمر في أوّل التنزيل، ولم تكن إجابة النبيّ كافية ضمن منطقها الصحيح، أو مكتفية في ذاتها الفعلية؛ «علّم الإنسان ما لم يعلم»، تابع الوحي، وانبسطت عتبات التأويل!

 

غابة القراءة ومسالك التأويل

صبحي حديدي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول صوت من مراكش:

    من ميزات كتابات السيد صبحي حديدي انها تتنوع من السياسية

    الى الأدبية او الفنية وميزة هذا التنوع هو احتفاظه بقوة الطرح والشرح

    مقال اليوم عن القراءة والقارئ في تقديري بحاجة لأكثر من قراءة واحدة

    لمحاولة الاقتراب من أمر فعل ” إقرأ ” المنبعث من وحي شغفنا بالقراءة


    تحياتي

  2. يقول سوري:

    عزيزي صبحي
    تقدم اشكالية عويصة جدا، لكن اسلوبك الرائع يبسطها وجملك الاخيرة ربما ستفسر على اكثر من محمل وأكثر من تأويل حسب الشخص واعتناقة للدين وتفسيره لأية اقرأ، وفي الواقع أن الكاتب والنص والقاريء ثلاثة عناصر مستقلة ففي حديث مع الكاتب امين معلوف قال: عندما اكتب رواية وتصبح في المكتبات فإن لها حياتها تعيش مع القاريء ولم يعد لي اي دخل بها كوليد كبر وترعرع وانفصل عن والده، وهنا نرى ان كل قاريء له رأي في الرواية، كما ذكرت، حسب انتماءاته وموقعه الاجتماعي واصله وفصله..الخ ولكن هناك ايضا مسألة أغفلت وهي النص المقروء, عندها يدخل عنصر رابع وهو من يلقي النص وبأي طريقة، والصوت يلعب دورا هاما جدا لدى المتلقي، وهنا تنبسط عتبات التأويل بشكل اوسع، رحم الله الجرجاني، والكسائي، والقلقشندي الذين سبقوا من أدلوا دلوهم في هذه البئر الغائرة العمق، الغزيرة المياه

  3. يقول ابن الجاحظ:

    المشكلة عامة ليست فى القرائات المتتعدد بحسب القراء لنفس النص بل فى الجزم بأن قراءة ما هى الصحيحة وحدها دون غيرها.
    المشكلة خاصة فى الدين حين تقدم للناس قرائات و تأويلات و تخمنات ” بشرية ” على انها ” ارادات الاهية “…

  4. يقول محمد الإحسايني:

    أغبط الأستاذ صبحي حديدي على تناوله لمحة من لُمح دلائل الإعجاز لمؤلفه الشهير الإمام عبد القاهر الجرجاني الموسوعي، بالرغم من أن الكتاب وُضع أساساً لعلم المعاني، ليتناول أيضاً نظرية النظم. وربما سبب هذه الإشارة هو تأويل ما يحدثه موضوع أدبي شيق لدى مختلف االقراء وهم هنا ثلاثة وقد يزيدون عن ثلاثة بحسب تتالية حسابية أي أن النص قابل لعدة تأويلات…
    محمد الإحسايني-إعلامي وأديب مغربي

  5. يقول Ossama Kulliah أسامة كليَّة سوريا/المانيا:

    ممتاز أخي صبحي هذه المواضيع التي تطرحها. عادة في القراءة الأولى أشعر وكأنني استوعبت النص وغالبا عندما أقرأ للمرة الثانية أكتشف أن هناك الكثير الذي لم استوعبه جيداً في القراءة الأولى وهنا أحب أن أشير إلى نقطة وهي هناك فرق بين المحتوى (إلى الحد التقريبي لأكبر كمية من المعلومات والمعرفة التي يحتويها النص مثلاً تفسير القرآن الكريم) العلمي أوالأدبي أو الفكري أو الجمالي في نص معين أو عمل معين وبين القراءة الخاصة لكل فرد أو شخص بحسب معرفته بمحتوى النص وتركيبة شخصيته فكرياً وشعوراَ ولو أن تطورات الزمن تلعب دورا هنا أيضاً. لكن هذا الأخير عادة مهم للإعلام حيث أن قراءة واحدة وعادة ماتكون سريعة هي السائدة, بينما الأول مهم (للعلماء والمختصين) للعلم والفكر والثقافة وهنا يحتاج الإنسان إلى عدة قراءات للنص.

  6. يقول آصال أبسال:

    يقول الجرجاني: «وجملة ما أردت أن أبيّنه لك: أنه لا بدّ لكل كلام تستحسنه، ولفظ تستجيده، من أن يكون لاستحسانك ذلك جهةٌ معلومة وعلّة معقولة، إلخ…». هذا الكلام يمكن أن يُوجَّه كذلك إلى من يكتب في مجال النقد الأدبي في حد ذاته..
    كما كتبتُ تعقيباً على مقال «جبال من ورق» لخيري منصور.. الأدب في بلادنا هابط إلى دركات الحضيض أيما هبوط.. ليس فقط من حيث تراجع دور النقد وانحساره.. بل أيضاً من حيث “تقدم” دور الناقد و”ظهوره” على هيئة المتملق والمتزلف.. وكما نوه الصديق الغضنفر في تعقيبه على مقال “الناقد” صبحي حديدي السابق.. المقال الذي يمدح فيه شعر ممدوح عدوان مديحاً زائداً عن حده.. يقول الغضنفر ما يلي..
    /المبالغة في مديح ممدوح عدوان بصفته “شاعراً كبيراً” إنما هي ذم له، من جهتين: من الجهة الأولى، هذه المبالغة لا تعدو أن تكون تزلفاً وتملقاً من طرف المادح، أياً كان.. ومن الجهة الثانية، هذه المبالغة تؤول، في الجوهر، إلى انتقاص من قدر الممدوح بالذات..
    ممدوح عدوان له محاولات شعرية، بعضها جدير بالقراءة حقاً، ولكنه لا يرتقي به إلى مصاف “الشعراء الكبار”.. فإذا كان الشاعر الكبير محمود درويش قد وصف ممدوح عدوان راثياً إياه ببعض الصفات المتضادة، كالتي ذكرها “الناقد” صبحي حديدي في نهاية مقاله، فهذا من باب الانفعال العاطفي التأبيني الذاتي على فقدان صديق حميم، وليس من باب التقييم النقدي الأدبي الموضوعي لـ”شاعر كبير”/..
    فعلى الرغم من تلك الأزمة الحقيقية التي كان وما زال الأدب العربي الحديث يمر بها.. ما زال “الأدباء العرب الحديثون” ينطون من كل الجهات.. تارة من جهة الشعر وتارة أخرى من جهة المسرح وتارة ثالثة من جهة الرواية وتارة رابعة من جهة القصة… إلى أن صار عدد هؤلاء الأدباء يفوق بأضعاف مضاعفة عدد قراء الأدب من المحيط إلى الخليج.. وأقصد بقراء الأدب هنا أولئك المتذوقين الحقيقيين للأدب بالطبع..
    ومع ذلك.. نرى نقّاد هذه الأيام.. كمثل كتّاب المحاكم الكسبة أو حتى موظفي الإعلام المأجورين.. لا يتوانون في الإسهاب في الكلام عن “النجاحات الباهرة” التي حققها ويحققها هؤلاء الأدباء.. إما على صعيد كتابة النص “الثوري” في الشكل أو في المضمون أو في الاثنين معا.. وإما على صعيد ما يتمنطق به هؤلاء النقّاد بتلك الصلات “الحداثية” التي كانت في رأيهم تتمّ بين كتّاب الأدب وجمهور القرّاء على اختلاف مشاربهم بطبيعة الحال..

إشترك في قائمتنا البريدية