غرب انقلابي وتركيا ديمقراطية

في آذار/مارس من العام الماضي نشر الخبير الاستراتيجي الأمريكي مايكل روبن مقالاً تحت عنوان: «هل سيكون هناك انقلاب عسكري على أردوغان؟» المقال خلص إلى أن ذلك ممكن وأن الانقلابيين سوف ينجون بفعلتهم، بل أنهم ربما يجدون سنداً من المجتمع الدولي على غرار ما حدث من استقبال دولي لانقلاب أخير في المنطقة.
تمادى روبن في رسم سيناريو ذلك الانقلاب المفترض الذي وضع له نهاية تقليدية وهي أن تتم قيادة الرئيس للمحاكمة بتهمة الفساد أو أي تهم أخرى تكفل القضاء عليه للأبد وتصوّر أن هذا قد يكون حلاً لحالة الانقسام المجتمعي في تركيا التي قد تقود بشكلها الحالي، حسب تصوره، لتقسيم البلاد أو لحرب أهلية.
ورغم أهمية المقال التي تنبع من أهمية الكاتب الذي يعد من المراجع الأساسية لوزارة الدفاع الأمريكية فيما يتعلق بشؤون المنطقة إلا أن القليلين فقط تعاملوا مع ذلك المقال بجدية في حين اعتبرت الأغلبية أن ما ورد فيه هو مجرد رأي شخصي حالم وغير واقعي.
لم يكن ذلك هو مقال روبن الوحيد الذي يقوم فيه بالتحريض على تركيا ورئيسها فقد كان في كثير من كتاباته يضع الواقع التركي في شكل سوداوي قاتم مشبها إياها بدول فاشلة أخرى أو مصوراً إياها كراعٍ للإرهاب وممولٍ رئيس له وهو في هذا لم يكن وحيداً، بل بدا الأمر وكأنه يأتي في سياق حملة متناغمة تقوم بها أكثر من جهة ويرعاها أكثر من منبر وكلها تقود لإيصال رسالة مفادها أن تركيا لن تكون بخير وهي تحت قيادتها الحالية.
دفعني كل ذلك حينها لكتابة مقال ناقشت فيه ما سميته «فرضية الانقلاب الوشيك في تركيا». الفرضية بدت لي منطقية فقد أخذت في الاعتبار كل تلك المعطيات ومعطيات أخرى على رأسها أنه، وحتى على صعيد الحلفاء المفترضين لتركيا، فإن الجميع يفضلون التعامل مع قيادة أكثر ليناً وهو ما سيجعل مهمة تبرير وتمرير الانقلاب سهلة.
كثيرون اتهموا هذا الافتراض بالسطحية معتمدين على قوة المؤسسات التركية وعلى بيان أصدره الجيش في تلك الفترة أكدت قيادته فيه حرصها على الحريات واحترامها للدستور، كما نفت بشكل قاطع وجود أفراد من الكيان الموازي بين صفوفها.
حدث كل ذلك في مثل هذه الأيام من العام الماضي ولم تكد تمضي بضعة أسابيع حتى وقعت المفاجأة الصادمة المتمثلة في إقدام مجموعة من العسكريين على محاولة انقلاب باءت بالفشل بعد ساعات صعبة من الصمود. ساعات ستظل خالدة في ذهن من عايشوها بكل ما مر فيها. الإعلام الشامت الذي اعتبر أن التغيير قد وقع فعلاً والإشاعات التي عمت الآفاق من قبيل أن الرئيس أردوغان يبحث عن ملجأ والبيان الغريب والمتسرع للسفارة الأمريكية في أنقرة التي وصفت فيه الأحداث بـ»الانتفاضة الشعبية» وغيرها من الصور التي لا تنسى.
الدور الأمريكي في تلك المحاولة الانقلابية ما يزال مثار شك، ليس فقط بسبب مقال مايكل روبن أو بسبب بيان السفارة، ولكن لما ولّدته الأحداث، سيما عند المواطن التركي من يقين بتآمر غربي، وخاصة أمريكي، على بلاده.
ديفيد غولدمان، وهو محلل أمريكي شهير، عبّر بدوره عن قناعته بتورط بلاده عبر أجهزتها الاستخبارتية في ذلك الانقلاب الفاشل وانتقد في مقال له هذا التوجه الذي قد يكون له تداعيات خطيرة قد تؤثر على علاقة تركيا بالمنظومة الغربية وتدفعها للاقتراب أكثر من روسيا وهو ما لن يصب في مصلحة الولايات المتحدة في آخر المطاف.
تحدث غولدمان كذلك عن فتح الله غولن واعتبر أن لدى الرجل مجموعات ضغط داخل دوائر صنع القرار الأمريكية التي تعده مثالاً على «الاعتدال الإسلامي». أهمية شهادة غولدمان تكمن في كونها تعد رداً على من يعتبرون أن الحديث عن غولن فيه مبالغة أو تضخيم.
في الأسبوع الماضي استمعنا إلى تصريحات غريبة لأحد الباحثين الفرنسيين، فيليب ديفارج، دعا فيها صراحة لاغتيال أردوغان من أجل إنهاء ما سماها حالة «الانسداد» في تركيا وذلك في معرض تعليق على نتيجة الاستفتاء.
الرئاسة التركية تعاملت مع هذه التصريحات بجدية داعية الباحث الفرنسي لتحمل التبعات القانونية لما تفوه به وأوضح إبراهيم قالن المتحدث باسمها في بيان له بهذا الصدد أن «تصريحات ديفارج لا يمكن الاستخفاف بها، أو إدراجها ضمن إطار الإهانة أو النقد».
حسين أيدن محامي الرئيس التركي حرك بدوره دعوى قضائية تجاه المذكور جاء في نص شكواها أن تصريحات ديفارج تظهر البعد الخطير الذي وصلت اليه معاداة أردوغان في الغرب، باعتبارها «مرضًا نفسيًا».
لقد اعتذر الآن ديفارج عن تصريحاته وقد يتم في الأيام المقبلة طي ملفه، لكن المشكلة لا تكمن في هذا الرجل وتصريحاته فقط، بل بالاتجاه الذي يمثله والذي يرى في تنحية الرئيس التركي أولوية وإن أدى ذلك لتدبير انقلاب أو حتى القيام بمحاولة اغتيال وهو أمر يتجاوز بمراحل كثيرة مجرد المناكفة والتنافس السياسي ليصل إلى مرحلة ما سماه أيدن المرض النفسي أو «الأردوغانوفيا» التي، كأي رهاب، لا يمكن أن توجد لها مبررات واضحة.
وإذا وصلنا لهذه النتيجة وهي أن محرّك الغرب الوحيد هو «الأردوغانوفوبيا» فإنه بإمكاننا الاستنتاج أن كثرة الحديث عن الانقسام في تركيا وعن غياب الحريات ليس مرده القلق الفعلي على الشعب التركي وإنما هي مجرد ورقة من الأوراق التي يتم استخدامها من أجل تشويه صورة الرئيس التركي وقلب الحقائق لدرجة قد تصل لإظهاره بصورة الانقلابي.
أما حديث الغربيين عما يسمونه «انقساماً» في الشارع التركي باعتبار أن نتيجة التصويت لـ»نعم» كانت بفارق ضئيل جداً فهو حديث غريب والأغرب هو تحوّله لرأي سائد يتم تكراره كل يوم وتثبيته كحقيقة مفادها أن الرئيس ليس مكتمل الشرعية لأنه لم ينجح إلا بفارق عدد أصوات ضئيل وكذلك الحال مع الاستفتاء.
لماذا هذا الرأي غير منطقي؟ لأن معظم الرؤساء والقادة في الدول الديمقراطية ينجحون بفارق ضئيل دون أن يتحدث أحد عن انقسام مجتمعي ودون أن يشكك أحد في شرعيتهم (ترامب والاستفتاء البريطاني نموذجاً).
الغرض الأساسي من هذا التشكيك هو ضغط حزب العدالة والتنمية من أجل استيعاب واحتواء أحزاب وتيارات أخرى لم تحظ بأي تأييد ولا تملك أي شعبية تحت مسمى حكومات الائتلاف والاصطفاف والوحدة، كما أن الغرض هو أن يتنازل الرئيس التركي عن حقه المكتسب في أن يكون صاحب الرأي الحاسم وأن يتقاسم هذا الحق مع غيره بمن فيهم أولئك الذين دعموا الإرهاب ضد الدولة التركية. أي أن المطلوب هو خلق مؤسسات غير متناغمة ومتآمرة على رئيسها وصولاً إلى تهيئة المناخ لإحداث التغيير.
الرد على التآمر لا يكون بالاستسلام وتقديم التنازلات، بل بالتحدي والمواجهة، هذا هو ما تعلمه الأتراك، ولذلك وجدنا تركيا تنفذ تدخلاً وضربات موجعة في الداخل السوري والعراقي ضد إرهابيي داعش وضد المجموعات الكردية المناوئة وتتوسع في ذلك بما يخدم أمنها ومصالحها. كما وجدناها بعد انتصارها على الانقلابيين وقد دعت للاستفتاء الذي رأت أن احترام شرعيته واجب. استفتاء سيقود إلى لعب أدوار حاسمة قد تبدأ بتشكيل حكومة مختلفة.
من جهة أخرى، وفي خط المواجهة السابق ذاته، يمكن فهم العقوبات الصارمة التي يتم تنفيذها على جميع من يثبت ارتباطه سواء بالمحاولة الانقلابية أو الدوائر الغربية أو مجموعة فتح الله غولن. قد يدخل في هذا السياق أيضاً الجدل الدائر حالياً حول إعادة العمل بعقوبة الإعدام وهو جدل يبدو صداه الخارجي عالياً.
كاتب سوداني

غرب انقلابي وتركيا ديمقراطية

د. مدى الفاتح

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول محسن عون/تونس:

    الحمد لله. وسط هذه الظلمة، مازال الخير في الأمّة. شكرا. صدق العقل فصدق القلم

  2. يقول مشري احمد الجزائر:

    الغرب لا يقبل أي رئيس لا يكون عبدا لهم. وهذا في كلا العالمين العربي والاسلامي لكن المشكلة الحقيقية هو انه فينا من يقبل ان يكون عبدا لهم اذا ساعدوه على الانقلاب على من ليس عبد لهم والامثلة على كثيرة.اخرها ماوقع في مصر.

  3. يقول محسن عون/تونس:

    أين من عينيَ هذا السّناء و قومي نوّم و سمائي دكناء !.شكرا شكرا. مصباح ما أحوجنا إليه. سلمتَ بُنيْ، سلم الفكر فلا جفّ لك قلم.

إشترك في قائمتنا البريدية