غريغو الذي عاش بيننا

حجم الخط
0

بيروت – رنا قاروط : الخندق العميق، حي بيروتي يشبه اسمه كثيراً. شارع طويل وضيق. يعلو ويهبط بخفة حية. تتفرع منه أحياء صغيرة تفرخ فيها حيوات مستمرة. تعطي البنايات التي ترتفع على جانبي الشارع المنخفض هذا الإحساس بـ «الخندق العميق». يشعر الداخل باختلاف المكان عند الدخول إليه والخروج منه، كأن الضغط الجوي يفرق قليلاً، أو كأنه ينزل في خزان الماضي. ينبش قصصاً من الذاكرة ترويها مبان صامتة، بقيت صامدة، ثم يصعد منه محملا انطباعات ومشاعر.
في آخر الشارع، تبدو الـ»ستي- سنتر»، بيضة ديناصور من «جوارسيك بارك»، هجرتها أمها قسراً، فزعا، في زمن كان كفيلاً أن يرعب حتى الديناصورات. هناك، في أول المفرق الذي على اليمين، تقوم «بناية صالحة» بأناقة رمادية شاحبة.
في البداية، تبدو للناظر إليها كأنها مهجورة تماماً، لما لحق بها من خراب، وللصمت الثقيل الذي يحيط بها، رغم اكتظاظ المكان من حولها. صمت تفرضه ضخامتها كهالة شبح، لكن في البناية سكانها: محمد يتيم وزوجته حفيظة شماع يقطنان هنا، وحدهما، دون أي جيران آخرين، على الطبقة الثانية، منذ 45 عاماً، في بيت عملاق هو نصف مساحة الطبقة، وتزورهما حفيدتهما، تفرد كتبها في غرفة الجلوس وتدرس.
عندما استأجر العروسان منزلهما هذا، بمبلغ 2000 ليرة بالسنة، كان أيضا عمر البناية حوالى 45 عاماً. وكان المبلغ يعد باهظاً في حينها، ولكن محمد وحفيظة هما من سكان الحي القدماء، شبّا وشابا فيه، وكانا، منذ صغرهما، ومن قبل أن يتزوجا، ينظر كل واحد منهما إلى المبنى بحب وإعجاب لما فيه من جمالية وتميز بالزخرفة جعلاه دائما مختلفا. قطعة فنية، أرادا لنفسيهما جزءا منها، بالرغم من أن الزوج كان متوسط الدخل، يعمل بشركة شحن في مرفأ بيروت. فهو، عندما يتحدث عن باقي السكان، يقول إنه كان هنا كاتبا ومهندسا ورئيسا للمحكمة العسكرية. كان الكل، إلا هما، أجانب، أو أرمن، أو مسيحيين، هجروا بيوتهم على عجل، بين ليلة وضحاها، عشية الحرب الأهلية، «قبل البوسطة بشهر»، عندما عرفوا أنها آتية لا محالة، وأنه لن يكون مرحبا بأي «غريب» خارج «أرضه». ذهبوا وأتى مكانهم محتلون بقوا ولم يخرجوا إلا بعد انتهاء الحرب.
«ما بتخافوا وحدكن هون؟»، سؤال جعل الثنائي يبتسم بسخرية. الرجل يروي، مما يروي، أن القناصة كانوا يقنصون حتى ديك الصباح عندما يعتلي حافة السطح ويصيح، ويستطرد في وصف البيت الذي يعيش فيه كأنه قلعته الحصينة، فيها يشعر بالأمن و السلام، والنأي عن خارج عبثي ومتوحش. يدق على الحائط وراءه ويقول أنه باطون مسلح، يخدشه الرصاص ولا يخترقه.
أما الزوجة، فتحكي قصة غريغو، غريغواجورجيوس، جارهما «الباب بالباب»، الذي كان يتقاسم معهما الطبقة. كان غريغو مهندس كهرباء يوناني. تمد حفيظة يدها نحو الشباك وتشير إلى عواميد الكهرباء جهة وسط المدينة، وتقول: «هوي يلي خطط كل هول».
هجر كل السكان القدماء بيوتهم إذن، إلا غريغو، لا. كانت حفيظة كلما تخرج في الصباح لتتسوق من أجل إعداد الطعام لعائلتها، «تعمل حسابه»، وتجلب له ما يحبه، أما هو فكان يصرخ بها: «أنت مجنون، ما بيعرف!». تقول عنه أنه كان يتروق عسل وجبنة راميك وخبز إفرنجي بالحليب. أما على الغداء، فهو يأكل «متلنا، عادي» لكن مع الخبز نفسه، وكأس عرق. تروي كيف كان يترك العسل والخبز على المجلى، بعد أن ينتهي، ليأتي النمل ويأخذ حصته منه، ثم يناديها بفرح لتأتي وترى، فيجن جنونها عليه: «عم بضهر جيبن تحت الضرب، لإنتا تطعمي النمل!» «حرام، جوعان…»، كان يرد. كان غريغو إذا وجد صرصوراً في بيته، كما تستطرد، يحمله فوق كفه، يقف على البلكون، وينفخ عليه ليطير. «حرام بموت»، يقول لها في كل مرة يعثر فيها على واحد.
ثم حدث أن عاد إبن غريغو من السفر، وكان من سكان الأشرفية. تكلم الولد مع أبيه على الهاتف، ووعده الأخير بالذهاب إليه في المساء. عندما علمت حفيظة، خافت عليه، ورجته أن لا يروح. ولكنه، في المساء، لبس أجمل ما عنده وخرج للقاء ابن اشتاق إليه وتفصله عنه رمية حجر. لف حول البناية، متجها نحو «الشرقية»، «شافو القناص»، تقول وتصمت، عبارة من زمن الحرب، تكفي لفهم أن القناص صوب نحوه بندقيته فأصابه و/ أو قتله.
يكمل محمد القصة: سبعة من المقاتلين دخلوا ليجلبوا جثة غريغو. السبعة سقطوا فوقه، واحدا تلو الآخر.

غريغو الذي عاش بيننا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية