لا تشكل المجزرة وحرب الإبادة على غزة دليل إدانة على تقاعس وفشل الدول العربية (أو ما تبقى منها) وتنبئ الشواهد وتواتر الأحداث باتفاقٍ أو تواطؤٍ مع الكيان الصهيوني المعتدي فحسب، بل إنها على عادة الكثير من المحن والإهانات والهزائم، لكي نكون صريحين، التي مررنا بها في نزالاتنا ومعاركنا مع ذلك الكيان، تمثل لحظةً غامرة الضوء وكاشفة عن أحوالنا وأوضاعنا.. اختبار قوة وتماسك، فشلنا فيه إلا باستثناءاتٍ بسيطة جداً ليس بسبب قوة إسرائيل الطاغية وتماسكها، وإنما نتيجة لوتيرة التردي المطردة التي عرفتها منطقتنا وفشل مشاريع التحديث في بلداننا، خاصةً ذات الثقل التاريخي والحضاري من دول المواجهة والخط الأول، مصر وسوريا والعراق بالتحديد.
أول ما كشفته تلك الحرب أو بددته هو أي احتمالاتٍ بأوهامٍ مترسبةٍ أو متعلقةٍ في نفس أيٍ منا بأي تغييرٍ حقيقي للأمام في العالم العربي، نتيجة للثورات يترجم في استراتيجيةٍ وتصوراتٍ أكثر اتساقاً مع حقيقة خطورة إسرائيل وأولية ومحورية التناقض معها، كونها كياناً مغتصباً وقلعةً أماميةً للاستعمار والتدخل الأجنبي، هناك تغيير، ولكنه رجعي: للخلف دُر شعار المرحلة، وربما ليس في ذلك ما يدهش فتلك عادة الثورات المحبطة. لست مُطالِباً هنا بتدخل ٍعسكري من قبل مصر، فهي خارجةٌ من ثلاثينية مبارك وسنوات الاضطراب الثلاث، مرهقةً ومستنزفةً تماما، وسوريا منكفئةٌ على حربها الداخلية (فضلاً عن كون نظامها يزيد إجرامه على إسرائيل فتلك قصةٌ أخرى تطول).
في مصر وسوريا يحارب النظام للبقاء، أما العراق فهو غير موجود فعلياً ويوشك أن يكرس ذلك بالسقوط الرسمي.. لقد فشلت ذروة الموج من إسقاط الأنظمة بنيةً وانحيازاً (على الأقل حتى الآن) وإفراز بديلٍ قابل للحياة لأسبابٍ عديدة ليس هنا مجالها، وعليه فهي تحارب حرباً دمويةً وشعواء للحفاظ على بقائها وترميم هياكلها (الأمنية بالمقام الأول) المتصدعة، وللإنصاف لا يخلو الأمر من معارك للحفاظ على تماسك البلدان نفسها ضد إرهابٍ دمويٍ بربري، عميلٍ وذي صلاتٍ مشبوهة؛ نجح النظام في مصر مستخدماً أساليب أكثر فظاظة من المعتاد وشحنٍ إعلاميٍ عنصري فاشستي الطابع في إعادة إنتاج نفسه، في ظلٍ سيادةٍ وسيطرةٍ أمنيةٍ ـ استخباراتية، مع محاولة إظهار تقديم تنازلات، شكلية في حقيقة الأمر حتى الآن، من عينة الاعتراف بمشروعية ثورة يناير (التي يصمها الإعلام علناً الآن بالتآمر). أما في سوريا فالنظام يريد أن يملي شروطه والبقاء كما هو، ببنيته وأشخاصه وترابطاتهم العائلية ـ الطائفية – المصالحية المعقدة.
وجه المسخرة في الموضوع يتجلى في أن أنظمة الخليج، مشيخاتٍ وإماراتٍ، في المقام الأول والممـــالك كالأردن والمغرب هي التي ظلت متماسكةً، على الرغم من تصنيفها التقليدي كونها «أكثر رجعيةً وتخلفاً» في سلم التطور المجتمعي، بل والمفارقة المضحكة الحقيقية أنها تصرفت بمرونة وذكاءٍ أكثر في بعض الأحيان، كتلك «الرشة» السخية بمليارات الريالات من قبل العاهل السعودي على شعبه عداً ونقداً لكل رأس.
المحصلة النهائية لكل ذلك أن صار التناقض الرئيسي في نظر العرب بقيادة دويلات الخليج، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، بينهم وبيــــن إيـــران، وهو تناقضٌ على النفوذ يلتحف عباءة المذهب. ولا يفوتنا دور تركيا كلاعبٍ إقليميٍ قديم يريد أن يستعيد حضوره ونفوذه الذي كان في سالف الأزمان، لكن لأسبابٍ عصرية؛ كلٌ يلعب لحسابه وتربطه بالأطراف الأخرى الكبيرة علاقاتٌ متشعبة ومعقدة، إلا أن التناقض الاكبر يظل سعودياً خليجياً – إيرانياً بامتياز، وكلاهما يدعم أطرافاً مناوئة لمصالح وتحالفات الآخر، تماماً كمكايدات الضرائر! اللافت أن إسرائيل لا تبدو حاضرةً في الذهنية السياسية السعودية والخليجية، فهم لسببٍ ما لا يضعونها في حساباتهم ولا تشكل هاجساً لهم.
لقد أحرجت إسرائيل الأنظمة العربية بعدوانها الهمجي وحرمتها من رفاهية ادعاء أن القضية الفلسطينية تعني بالنسبة لهم أي شيء سوى ضرورة تصفيتها أو الخلاص من صداعها والالتفات إلى الأهم: تثبيت عروش النفط واحتواء إيران وإسقاط نظامها إن أمكن، كما أن إسرائيل أثبتت أننا لا نقل عنصريةً عنها تجاه بعضنا بعضا.
الحرب على غزة لم تبرز هذه الترتيبات الإقليمية الجديدة فقط، وإنما كانت بمثابة كشف حساب على ما يقارب القرن من مشاريع التحديث وبناء الدولة القومية الحديثة في بلداننا: لقد فشلنا..على الأقل حتى الآن. لقد حاولنا الاستعانة بقاموس الحداثة وبناه إلا أن كل ما فعلناه في أماكن شتى لم يعدُ إضفاء صيغ حداثية بمسميات جذابة وتقدمية في بعض الأحيان على بنى متخلفة، وعليه فلم تفلح مشاريعنا في تخطي التشرذم والتخلف والطائفية، ومن ثم استبدالها بعلاقاتٍ وسلوكياتٍ متحضرة وغرس النظام. إن هذه البلدان الآخذة في التشظي الآن إنما هي النتيجة الطبيعية لانعدام التنمية وانهيار محاولات بناء الدولة الوطنية، وللأمانة والدقة فالشيء الوحيد الذي نجحت في تطويره، أجهزة الأمن والتعذيب، فتوسعت في بناء أقبيته وتشييد المعتقلات والسجون، وعلى سبيل المثال لم تكن الثورة السبب الأول في تفتت ليبيا، وإنما خضوعها طيلة أربعين عاماً لحاكمٍ معتوه رفض الإصلاح حين طالب به الناس، والحال نفسه في كل الدول التي تعثرت.
ستتوقف مجزرة غزة لا محالة، إلا أنها للأسف لن تكون الأخيرة، ربما لن تنتصر إسرائيل، إلا أنه في غياب موقف عربيٍ ثابت فلا حصر للشكوك المبررة في إمكانية توظيف تضحيات أهل القطاع في جني مكاسب حقيقية كضمان فتح المعابر وكسر حالة الحصار الوحشي.
في زمن الإفلاس والهزيمة وانكفاء الثورات، زمن البوصلة المعطوبة واختلال الثوابت، يحلو لـ»القادة» العرب تناسي أن هناك شيئاً اسمه القضية الفلسطينية، وأن تناقضنا مع إسرائيل على حالها وما تمثله جوهري وأساسي.. صراع وجود بكل ما تعنيه الكلمة، فهم يلوكون كلمة «القضية الفلسطينية» بآلية مبتذلةٍ وبذيئة، ولا يفهمون أن هذه الكلمات تختزل إشكاليات تطورنا ومقدرتنا على التعايش والتكيف مع العصر ككياناتٍ مستقلة ومتحضرة.
سيصلون إلى وقف إطلاق النار، إلا أن ذلك سيمهد الطريق لصدامٍ آخر، فيوم غزة له ما بعده.
٭ كاتب مصري
د. يحيى مصطفى كامل
جميلومتوازن وواقعي تماما واجمل لفظة فيه البوصلة المعطوبة