غناء أوبرالي أساسه الثروة وانتهازيّة الآخرين

حجم الخط
0

باريس ـ «القدس العربي» من سليم البيك: من المَشاهد الأولى للفيلم، حيث تغنّي مارغريت مقاطع أوبراليّة لموزارت، تُستثار لدى المُشاهد ردود فعل متباينة، بين الضحك سخريةً مّما يتم سماعه، في تَنافر واضح بين صوت مارغريت وأدائها وبين الجوّ الذي تغنّي فيه، الصّورة التي تنقل مجتمعاً برجوازياً مبسوطاً ومصفّقاً لمارغريت، بين الضحك لهذه المفارقة وبين الانزعاج الذي يُسبّبه كل ذلك.
من هنا، ومن المشهد الأول، قدّم الفيلمُ نفسه كعمل كوميدي وكذلك تراجيدي بالدّرجة ذاتها، لا أسمّيها كوميديا سوداء تحوي سخرية من حالة بائسة، بل تراجيديا تامّة، بكل بؤسها، وكوميديا تامّة، بكل مُفارقاتها، دون أن تُختصر علاقة الأخيرة بالأولى بالسّخرية، بالضّرورة.
الفيلم المعروض حالياً في الصّالات الفرنسية، الذي شارك في المسابقة الرسميّة لمهرجان فينيسيا السينمائي الدولي هذا العام، هو من إخراج الفرنسي إكزافيير جيانولي، الذي استوحاه من قصّة حقيقية للأمريكيّة فلورنس فوستر جنكينز في عشرينيات القرن الماضي (يُتوقّع أن يخرج إلى الصالات السنة المقبلة فيلم للإنكليزي ستيفن فريرز من بطولة ميريل ستريب وهيو غرانت تحكي قصّة جنكينز ذاتها). ونحن هنا أمام نسخة فرنسية من القصّة، بأجواء البرجوازيّة فيها وما يرافقها من النّفاق الاجتماعي (أو الهيبوكريسي) كضرورة دراميّة لتطوّر أحداث الفيلم ومأساة مارغريت.
بدايةً، قد ينزعج أحدنا من البارونة مارغريت (الفرنسية كاترين فرو)، من صوتها على الأقل، ومما نظنه قدرتها على استخدام نفوذها ومالها ومكانتها الاجتماعيّة لكسب الاعترافات بموهبتها في الغناء الأوبرالي، من خلال تصفيق الحاضرين وثنائهم على غنائها، ومن خلال مقالات صحافيّة تقيّم هذا الغناء عالياً. لكن مع الوقت، سيتّضح بأنّ مارغريت ليست سوى ضحيّة لهذا المجتمع، ضحيّة لنفاق كلّ من حولها طمعاً بالتّقرّب منها وهي الثّرية الكريمة الطّيبة.
هي أوّلاً ضحيّة زوجها المستفيد من ثروتها والحريص على أن يفوّت كل حفلاتها بحجج يختلقها، وهي لا تكف عن السؤال إن كان قد وصل قبل بدء حفلتها أم لا، والذي، وهذا ما سيكون ضمن ما يتسبب بمأساتها، يقرّر أن يكون كالآخرين فلا يصارحها بحقيقة صوتها وأدائها، إنّما يثني عليه، خوفا، كما يبدو عليه، من إحراجها أو إيذاء مشاعرها. لكنّه، ذاته، لن يجد مانعاً من أن تكون له عشيقة يمضي الوقت معها ويشتكي لها من سذاجة زوجته، ويشتري لها الهدايا، منها شال أحمر ستكتشف مارغريت به أنّ لديه عشيقة، ولسذاجتها فعلاً، ولحبّها له كما بدا، ستسامحه.
كما أشرت، يبدو في البداية أنّ مارغريت تستخدم ثروتها لنيل استحسان الآخرين صوتها، لكنّ هذا ما يبدو فقط، لأنّ تصرّفاً واحداً لم يصدر منها يدل على ما توحي به بعض مشاهد الفـــــيلم، إنّما، ما نشاهده بالضبط، هو مبـــادرة مَن حولها لمُجاملتها والتقرب منها.
وسذاجتها وصدقها مع النّاس، ورغبتها العمياء في أن تصبح مغنية أوبرا تغني في المسارح وأمام الجماهير، هو ما حال بينها وبين إدراكها لما يسعى إليه منافقوها. وخادمها، وهو كذلك مُساعدها، هيّأ الأجواء، من دون أن تكون هي على إدراك لذلك، لردود الفعل هذه وللتسبب بأعلى تقييم ممكن لسيّدته، إخلاصاً منه لها.
يمكن للفيلم أن يكون إدانة لكل صاحب مال وفاقد لموهبة أراد أن يشتري، أو ظنّ بإمكانيته ذلك، الموهبة بماله، لكنّه كذلك، وأساساً، إدانة للانتهازيين المتحلقين حول صاحب المال، لا إن رغب بشراء الموهبة أو استحسانات الآخرين لموهبته المفترضة فحسب، بل إن اعتقد حقيقة أن لديه موهبة، معتمداً أولاً على الشغف الذي لديه وثانياً على التقييمات الخبيثة لمن حوله، فيستفيدون من ذلك قدرما يستطيعون.
أخيراً، ستغنّي مارغريت في مسرح أوبرا في باريس، أمام جمهور كبير، ليس كحلقة الأصدقاء من كانت تدعوهم إلى بيتها للاستماع إليها تغني، حيث كان بعضهم يخرج من الصالة ويجتمع في الغرفة المجاورة هربا من صوتها، وحين تنتهي يخرجون جميعهم مصفقين لها ومحمسينها. في باريس سيكون رد فعل الجمهور ضحكاً عالياً، ظانين أنهم أمام مزحة، لم يعنها ذلك وواصلت الغناء إلى أن، للحظتين، تلتقط النغمة وينطلق صوتاً جميلاً غير كل ما سمعناه من بداية الفيلم، للحظتين إلى أن تختنق بصوتها وتقع وقد سال دم من حنجرتها.
تتعالج وتستطيع العودة إلى الغناء، ولإقناعها بالتوقف عن الغناء سجّل لها طبيبها صوتها وهي تغني، على اسطوانة، ثم أحضر لها غراموفون لتسمع صوتها وتقتنع بضرورة التوقف عن الغناء، من دون أن يصرّح لها بذلك، وكان حينها أوّل مرة تسمع فيها صوتها، ما يعني أنّها، أثناء غنائها، كانت مأخوذة تماماً بما تفعله، بفعل الغناء أو بحقيقة أنّها تغنّي، من دون أن تكترث بصوتها أو أن تعي ردود فعل الجمهور.
سمعت صوتَها تغنّي، وأدركت نشازه كما أدركت عبثيّة ومهانة الغناء بصوت كهذا، وأنّ كل ما كان من قبل، من تصفيق ومقالات ومجاملات، كان كذبة، فكانت النهاية التراجيدية لمارغريت.

 

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية