غولة

نحمل الألقاب والأفكار إرثاً ثقيلاً زمنا بعد زمن، تنقش التقاليد على أجسادنا وأرواحنا، تنخر عظامنا فتحيلنا هياكل معقوفة الظهـــور محنية الأكتاف بثقل الإرث، بكثافة التقاليد، بهم البيولوجيا، بيولوجيا أجساد لم نخترها كُتب عليها شقاء ليس لنا يد فيه.
وأنا أشاهد رائعة بهاء طاهر «واحة الغروب» التي تحولت إلى مسلسل تلفزيوني رائع هذا الرمضان لمخرجته كاملة أبو ذكرى، كان قلبي وجسدي يثقلان حلقة بعد حلقة بحجم وثقل وكثافة ما حملته النساء وتحمله من عادات وتقاليد وهموم، لسنا منها اليوم ببعيد. حضرتني سيريالية الموقف وأنا أشعر بألم شديد تجاه بطلة المسلسل، الشابة الأرملة من سيوة، وهي تحمل لقب «غولة» لمدة أربعة أشهر وتزيد، يمنع عليها الخروج أو حتى مشاهدة وجه أي إنسان إلا وتنزل به وبالمكان كله لعنتها، لعنة إمرأة مات عنها زوجها.
وفيما أنا أغضب لتدنيس إنسانيتها بهذه الصورة وأحمد القدر أن بعثني في زمن غير الزمن، تراءى لي سريعاً وشديداً كم أن الوضع متشابه، كم أن الخطى قريبة بين الأمس واليوم، كم أن كل واحدة منا، كل أنثى منا، لا تزال غولة، في موقع ما، في مكان ما، تحت ظرف ما.
إلى اليوم، في قرننا هذا من زماننا هذا، لا تزال المرأة التي يتوفى عنها زوجها تعتد ذات عدد الشهور، لا يزال خروجها من بيتها محظوراً لغير الضرورة القصوى، لا يزال حبسها واجب، ربما الحجة الدينية المُفسرة أقل رهبة اليوم بغطائها الفلسفي، ربما التبرير الاجتماعي أكثر لطفاً اليوم بغطائه النفسي، ولكن تبقى الحقيقة هائشة في وجوهنا مثل شعر الغولة المنفوش فوق رأسها وهي تركض في شوارع قريتها يتقدمها الأطفال صارخين «خبوا عيالكو الغولة جيالكوا».
إلى يومنا هذا، وكما بطلة المسلسل الأخرى، يخون الرجال النساء، وتسامح الأخيرات تحت ضغط الواجب الأسري والضرورة الاجتماعية والإباحة الدينية، يضرب الرجال النساء فتبرر الأخيرات تحت غطاء الانفعال الذكوري والتأديب الاجتماعي والحق الديني، إلى يومنا هذا تتفرق النساء بغطاء ذكوري شرعي بين حرة وجارية، الحرة يجب عليها التستر والمملوكة لا عورة لها، فتتغطى النساء ومعظمهن لا يعرفن هذه القصة التاريخية الدفينة لغطائهن. وحتى بعد أن انتهى عصر الجواري تقريباً، لا يزال الفرق ينبض بيننا، لا يزال الغطاء واجب على النساء المسلمات لأنهن حرات، ولو كن عبدات ما وجب عليهن، لا تزال داخل كل أنثى منا غولة، هائشة الشعر، جاحظة العينين، تحمل صرة كبيرة مغبرة على كتفيها مخرمة الأطراف تقطر على كتفيها وجسدها من نارها الكاوية، نار ورثناها منذ أزمان، نار كلما بدا أنها بدأت تخبو أججها الجهل والتخلف والتاريخ البالي الذي بتنا نقدسه أكثر مما نقدس إلهنا الذي في السماء.
كيف يصنعون من كل أنثى منا غولة بسبب أجسادنا؟ أجساد صنعنا بها خالق وصفه لنا الرجال، نقلوا رسالته إلينا، هم من فسر كلماته وبين حلاله وحرامه وأكد رضاه وغضبه، هم من صور لنا أنه خلقنا آثمات، أنه صنعنا مصدر إغراء ثم حملنا مسؤولية هذا الخلق في إخفائه تخفيفاً عن الرجل الذي لا يملك من أمر غريزته شيئاً. كيف استطاع المجتمع بذكورته إقناعنا أننا أقل من إنسانيتنا، كيف استطاع أن يجعلنا نقهر أنفسنا ونُحَمٍل القهر أكواماً حارقة لبناتنا من بعدنا؟ كيف سمحنا للغولة أن تعتاش على أجسادنا، امرأة بعد امرأة، جسدا بعد جسد، جيلا بعد جيل حتى أحالتنا جميعاً إلى أمساخ بشر؟
نحن إنسانات كاملات، يجب أن نمتلك حق الدخول في العلاقة والخروج منها بكامل القوة والقدرة، نمتلك حق الإرث ذاته والثقة ذاتها في الشهادة والحرية ذاتها في المظهر، نحن إنسانات كاملات، أجسادنا حقنا، حياتنا حقنا، أدياننا حقنا، اختياراتنا الحرة الخالصة حقنا. ضعن الصرة على الأرض للحظة، ولنستنشق معاً هواء هذه الأرض الزائلة قريباً إلى العدم معاً، هواء يتسلل إلى رئتين غير مثقلتين، إلى جسد غير منهك، إلى رأس غير منكس. لننظر للعالم مرة بعينين رائقتين، لا دموع فيهما ولا شعر هائش يضبب رؤيتهما. لنجرب الحياة خارج جسد الغولة، ففي داخلها، لا يوجد سوى الموت.

غولة

د. ابتهال الخطيب

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول Harry/uk:

    عزيزتي ,,, د. ابتهال الخطيب
    بعدت عن الموقع ٥ شهر لعملي بالبحار.. كل لغات العالم لا تكفي ا ن تعبر عن اشتياق جدا كبير لقلمك السحري و فكرك الراقي … كم انا جدا سعيد ان اجد مقالك الرائع باول مشاركة بعد الغياب,, ايضا لا انسي اعزائي و اصدقائي و كل عاملين موقع .. جدا اشتقت لكم جميعا,, قبل رحلتي للبحرية كنت اقول انا يهودي مسيحي مسلم .. بعد رحلتي التي كنت اتشرف ان اكون قبطان سفينة عملاقة للابحاث العلمية .. كانت تحمل الكثر من العلماء و العاااالمااات ,, جميعا يعلمو بدون مقابل مادي من اجل خدمة العالم و الانسانية … بعد عودة اصحبت .. فقط انساااااان يؤمن بوجود خالق هذا الكون .. كان اهذا اعتراف صادق .. و هذا يتوافق مع اول جملة لكي بالموضع و هي … نحمل الألقاب والأفكار إرثاً ثقيلاً زمنا بعد زمن، تنقش التقاليد على أجسادنا وأرواحنا، تنخر عظامنا فتحيلنا هياكل معقوفة الظهـــور محنية الأكتاف بثقل الإرث، بكثافة التقاليد،.. نحن في الغرب لن نحمل هذا الحمل الثقيل ولن نحملة … لاننا لا نخاف من البشر بل من الله ,, و لانعاقب الاخرين من اجل ارائهم و عقائدهم .. ايضا حوا عندنا لها مكانتها و لا نفرق بين الجنسين.. احر تحياتي

  2. يقول الكروي داود:

    بسم الله الرحمن الرحيم
    وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ ۚ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240) البقرة
    قال ابن عباس : نسخت هذه الآية عدتها عند أهلها فتعتد حيث شاءت وهو قول الله تعالى : ( غير إخراج ) قال عطاء : إن شاءت اعتدت عند أهلها وسكنت في وصيتها ، وإن شاءت خرجت لقول الله : ( فلا جناح عليكم فيما فعلن [ في أنفسهن ] ) قال عطاء : ثم جاء الميراث فنسخ السكنى ، فتعتد حيث شاءت ولا سكنى لها . ثم أسند البخاري عن ابن عباس مثل ما تقدم عنه .
    ولا حول ولا قوة الا بالله

  3. يقول الكروي داود:

    هناك إلتزامات شرعية على الرجل والمرأة قد تختلف بينهما بسبب الجسد
    على من لا تعجبه هذه الإلتزامات الخروج من الدين والله الغني عن عباده
    أما من لا يعجبه جنسه فليغيره, فالطب قد تقدم في مسائل التحول بين الجنسين
    ولا حول ولا قوة الا بالله

  4. يقول عربي حر:

    تحية للكاتبة المحترمة
    من المؤكد ان هناك حيفا كبيرا يقع على المراة العربية نتيجة تقاليد بالية او فهم خاطئ للدين . اما عن المساواة في الحقوق والواجبات فمستحيل نتيجة الفروق الفسيولوجية والجسدية كمثال لم تطالب امراة في التاريخ بان تشترك في سباق 100 متر رجال مساواة بالرجل .
    ومن جهة اخرى فان كانت المراة يطلب منها الستر حفاظا عليها ووقاية من عيون الرجال فانه يطلب من المراة الغربية ان تعرض اكبر قدر من جسدها تسويقا لبضاعة قد تساوي دولار واحد .
    هل حقا ان المراة اما مستعبدة في الشرق او سلعة في الغرب ؟
    واخيرا
    حرية مطلقة كذبة اخترعها سماسرة المال وصدقها الاغبياء فقط .

  5. يقول ابن الجاحظ:

    سأجن من بعض المعلقيين …..
    تحياتى للسيد ” الانسان ” العاقل Harry/ uk
    طبعا أنحنى كالعادة أمام حكمة الدكتورة ابتهال و أبتهل لله العزيز الحكيم أن يخرجنا من هذا المأزق اللذى يؤرقنا..
    و لا أمل فى من هو تائه فى جهله المقدس……

  6. يقول الدكتورجمال البدري:

    لا يهمني مضمون المقال بل هذه العبارة يادكتورة : ( نحن إنسانات كاملات…).لا يوجد في اللغة العربية ( إنسانات ) جمع إنسان ؛ بمعنى
    المرآة / النساء كما يبدو من تعبيرك اللفظيّ…بل جمع ( إنسان ) للمذكر: ناس وأناسي وآناس.وللمؤنث : ناس أيضًا وأناسية.لأنّ لفظ الإنسان يقال للمرأة من دون تاء التأنيث فلا يقال : إنسانة.عليه العبارة الصحيحة يادكتورة :( نحن أنسية..).أو( نحن ناس..).أو( نحن نساء أونسوة ).
    لأنّ النساء جمع نسوة إذا كثرن.وإنسان المرأة مأخوذ من الأنس ؛ لأنّ المرأة إنسان وأنس للرجل وللحياة.بل حتى سيادة لفظ التذكيرعلى التأنيث ليست غايته التفرقة وفرض التفوّق إنما لشيء أعمق ؛ وهو لا يجتمع الرجال من دون نساء إلا في الحرب.لهذا يطلق على الرجال ( قوم ) في هذه الحالة أوجند…فلومنعنا النساء في أيةّ مدينة اليوم عن الخروج لما خرج الرجال إلا للضرورة بل لنامت تلك المدينة بعد غروب الشمس…أما متى تكن النساء كاملات ؟ إذا كنّ مؤمنات.لهذا قرنهنّ بالمؤمنين سواء بسواء.جمعة مباركة.

    1. يقول رياض- المانيا:

      تعليق رائع كالعادة من الدكتور جمال البدري. غالبا تضيف تعليقات القراء معلومات جديدة
      فتكون محتوية على معلومات قيمة غير موجودة في المقال نفسه. قرأت المقال، فما وجدت فيه الا نفس المغالطات مكررة للمرة الالف، فلهذا فضلت عدم التعليق الى ان قرأت تعليق الدكتور جمال والاخ الكروي الذي اورد آيات كريمات من القران الكريم. فتحية لهما ولدي سؤال ملح؟ متى سيتحلى بعضنا بالموضوعية والتجرد في البحث عند الحديث عن اشياء لا يؤمنون بها عقديا؟ متى سيبرأ العلمانيون العرب من هذا المرض العضال وهل من أمل اصلا؟ جمعتكم مباركة

    2. يقول منى-الحزائر:

      تحياتي د. رياض ؛
      كيف حالك؟ اين غبت كل هذه المدة يا أخي!

    3. يقول رياض- المانيا:

      اختي العزيزة والغالية منى..
      شكرا على التحية والسؤال واتمنى من الله ان تكوني بخير انت والعائلة الكريمة.
      ما شغلني عنكم الا رمضان وطلب العلم. فرغبتي جامحة في دراسة العلوم الشرعية وخاصة علوم القران، وكذلك الاستشفاء به. واني لرأيت بام عيني من اثر هذا الكتاب العزيز ما يجعلني اشعر بالحزن والشفقة عندما اقرأ مقالات من نوعية هذا المقال وهنا لا استطيع الا ان اقول، اللهم اهد قومي، فانهم لا يعلمون. اخبريني يا اختي الطيبة عن احوالك.. فحتى انت لم تظهري الا قليلا. اين تلك المقالات الرائعة؟ تحية طيبة لك وللجميع ويخطر على قلبي هنا وبقوة وبشوق اخي الحبيب د. أثير فتحية طيبة له ايضا وللجميع.

    4. يقول د. اثير الشيخلي - العراق:

      العزيز الغالي د. رياض المحترم.
      افرحني سؤالك و تعليقك الكريمين.
      .
      افرحني اكثر ، طلبك لهذه العلوم الشريفة ، بارك الله لك بها و زادك علماً و شرفاً و مكانةً و جعلنا من المنتفعين بعلمك هذا و أكسبك اجره.
      .
      تحياتي و احتراماتي لأختنا الفاضلة منى زادها الله من فضله.
      .
      لاجديد تحت الشمس ، فكل ما طرح من شبهات بعنوان رئيسي ” الغولة” ( العدة و اللباس الشرعي و الضرب و الميراث ..الخ) مطروحة من قرون واكل الدهر عليها وشرب و اشبعت رداً و توضيحاً و افحاماً و صار كما لا امل من تكراره ، توضيح الواضحات من الفاضحات !
      لكن طرح الشبهة لا يستدعي أكثر من تردادها بنصف سطر ، بعيداً عن الموضوعية و الحيادية ، اما الرد عليها فلابد من تفصيل واستدعاء الاسباب و الادلة.

  7. يقول حسين/لندن:

    وهكذا عادت الدكتوره أبتهال الخطيب لممارسه هوايتها المحببه من الغمز بثوابت ومسلمات وعقيده ألامة
    الدعوه إلى المساواة في الميراث (مثالا) كلام خطير جدا يخشى على قائله،،هو كدعوه إلى المساواة بين غير المتساوين لا في العقل ولا الجسد ولا التفكير،،(وهذا هنا ليس مفاضله).
    نصيحه مكرره للمعلق الفأضل Harry،، محاوله دمج بين الإسلام وغيره محاوله غير مجديه ولن تنجح،،نل أنا أرى أنها قد تزيد من الاضطراب والقلق بدل السكينه والطمأنينه ،،تمنياتي لك كل الخير
    الله المستعان

  8. يقول ابن الجاحظ:

    مضمون المقال ” لا يهم…”?

    1. يقول رياض- المانيا:

      لا يهم فعلا. لانه يحتوي على مغالطات كبرى ومتناقضات واخطاء فادحة تخص العقل والنقل.

  9. يقول ميشيل من فرنسا:

    سيدتى الفاضلة
    أنت تتعرضين لأمور من الصعب فهمها أو مناقشتها من قبل أغلبية لا تؤمن إلا بنصوص و معتقدات ثابتة لا تتحرك ولا تتطور منذ أن أنزلت من السماء أو فسرت من حكماء الثيولوجيا ! هذا ينطبق على كل المعتقدات المنزلة بلا استثناء ! لذلك أنت عندما تتحدثين اليهم تكونى كما يقول المثل المصرى : بيدن فى مالطة !
    على العموم هى شجاعة كبيرة منك أن تحاولى ! أتمنى لك حظ سعيد وتحياتى

  10. يقول سوري:

    رغم أن كلام الدكتورة ابتهال فيه شيء من المبالغة فليست كل نساء العرب كما وصفت بل ان في بعض الاحيان النساء قوامات على الرجال ان كن أرامل أو متزوجات أو عانسات، ولكن أو أن أثني على السيد المعلق هاري البحار من بريطانيا لكونه يعتبر نفسه انسانا نقطة على السطر وهذا هو اساس التغيير الفكري وتطوره، وأشكر الدكتور البدري على اللفتة اللغوية البليغة

1 2 3

إشترك في قائمتنا البريدية