غيمة الثورة التي أمطرت

حجم الخط
0

محمد جبريل: لا أذكرُ كيف أصبحتُ ثوريًا، كنتُ طالبًا أزهريًا ينحصر مستقبله بين مسارين: مدرس علوم شرعية، أو موظف في الأوقاف، وحتى مع اليوم الأول للثورة 25 يناير/كانون الثاني لم أشارك فيه، فقط تابعتُ الأحداث على الشاشة، كأني احتجتُ أن أرى الانفجار كاملًا في «جمعة الغضب» حتى أقرر النزول للميدان بعدها، لم يكن الأمر مجرد مشاركة ميدانية بل انخراط تام في الحالة الثورية التي عصفت – دون أن أدري – بكل يقين داخلي، كنت قبل الثورة خاضعًا لإكراهات اللاهوت الفقهي والمؤسسة التفسيرية التي جعلت الإسلام أعرق المنظومات إغلاقًا، لم أهتم بالفكر السياسي قبلها، بقدر اهتمامي المحدود مع الدراسات الحدثية للتراث الديني، وبالتحديد أعمال نصر أبو زيد، أما باقي تكويني الفكري فلم يتعدَ المكتبة التراثية لوالدي الشيخ الأزهري، وبعضًا من الأدب القـديم وبعـض الجـديد.
بعد الثورة، انتبهت إلى أن اليقينيات التي كانت تملأني، رحلت مع ما انتهى، وكان علي أن أواجه ما بعد اليقين كاغتراب تام عن الذاكرة والتكوين، تبنيتُ الإيديولوجيا العلمانية وكنتُ بطبيعة الحال أتبنى الإيديولوجيا المادية للكون والحياة، لم يمر عامان إلا ووجدت رغبة عنيفة في العودة إلى الطمأنينة، يومها كتبت على حسابي الخاص «لا أعرف كيف تتحقق إنسانية الإنسان بغير أن يؤمن بأنه مفارق للمادة وبغير أن تكون للحياة معنى عبر التواصل مع المقدس إلى حدود القرب منه وملامسته» كان المنشور صادمًا لمن يعرفني، لكنه بالنسبة لي كان عودة مؤقتة لليقين لتصفية الحنين العفوي إلى الجزء الحميمي من الذات، وبصورة نهائية.
مع مرور الوقت وتراكم التجارب اكتشفتُ سطحية ثوريتي، وأعدت تقييم المرحلة كلها من جديد، وجدت أن قبولي بالانسحاب من الميدان في 11 شباط/فبراير، وفرحتي، نتيجة لـفقدان الوعي بتركيب السلطة وقتها، وطبيعة علاقة الجيش الجوهرية بالنسبة لها، وعلى حد تعبير غرامشي «غياب الوعي لدى القوى الراديكالية بدور الجانب الآخر يمنعها من أن تكون على إدراك تام بالدور الخاص بها» لم أكن أعرف من هو الخصم بالتحديد ولا ماذا أريد، سوى عالم جميل لا مكان فيه للقهر.
مرت 6 سنوات كاملة، عرفتُ خلالها كيف امتص المعرفة من مصادرها، وما أهمية النظرية بالتزامن مع الحركة، أنجزت قطيعة مع التفكير عبر الأمنيات والأحلام والأوهام، والتعالي على الواقع الملموس والمعقد، ولم أعد متحمسًا للعمل السريع على حساب التفكير.
حين كنت عضوًا في حركة 6 إبريل في ذروة اللحظة الثورية كنت أتساءل بحذر ما أدبيات الثورة؟ لم أفهم وقتها أن علينا أن نقرأ ماركس ولينين وغرامشي وألتوسير بولانتزاس وفوكو وبورديو ولوكاتش وفرانكفورت ومهدي عامل ونزيه الأيوبي. أعترف أني حين كنت أسأل عن أدبيات الثورة -تطلعًا للفهم- لم أكن أخص بسؤالي سوى أقرب الأقربين، فالنشطاء على حد سكين الأحداث ولا أحد يهتم بتعميق الوعي بشيء، أي شيء، بما في ذلك الثورة!!
كانت الثورة قطيعة مع حياة كاملة قبلها، وكانت المعرفة النظرية التي فتحت الثورة آفاقها أمامي قطيعة جديدة مع الثوار.

غيمة الثورة التي أمطرت

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية