اعتمد الكنيست الخميس في التاسع عشر من شهر تموز/يوليو 2018 قانونا دستوريا أساسيا جديدا يعتبر أهم تحول ايديولوجي في تاريخ الحركة الصهيونية منذ تأسيسها في مؤتمر بازل عام 1897 إلى اليوم. وقد صادق عليه 62 عضوا وعارضه 55، إلا أن العودة إلى إلغائه يتطلب الثلثين. أي أن اعتماده كان بصعوبة بالغة وبأغلبية بسيطة إلا أن التخلص منه أصبح شبه مستحيل.
ليس من العدل أن نطلق على القانون الجديد أنه عنصري فقط بل هو يؤسس لنظام يقوم على خلطة من الفاشية والشوفينية والانغلاق الطائفي البغيض والعنجهية والفوقيه والانعزالية. وإذا كانت هذه الدولة يهودية فقط لماذا تأخر التعريف لأكثر من 70 سنة؟ هل اكتشفت نفسها إسرائيل الآن بأنها دولة اليهود فقط أم أن الظرف الموضوعي في هذه المرحلة بالذات لا يمكن أن يكون أكثر ملاءمة لتمرير مثل هذا القانون الدستوري الأساسي الخطير؟ لقد وجد غلاة الصهاينة أن هذه الفرصة قد لا تتكرر أبدا وإذا لم يتم استغلالها الآن والآن فقط وإلا قد لا تعود. والظروف التي نتكلم عنها تستند إلى مجموعة معطيات صارخة:
ـ أولها الانقسام الفلسطيني العميق بشقيه الجغرافي والسياسي ووجود سلطتين ضعيفتين معزولتين.
ـ تكون حلف عربي متساوق مع السياسات الإسرائيلية يتمثل في مثلث ذي ثقل سكاني ومالي يشمل مصر والسعودية والإمارات.
ـ انتشار الحروب البينية أو الشروخات العميقة السياسية والطائفية في سوريا واليمن وليبيا وإلى حد ما في العراق ولبنان.
ـ انتشار الحركات المتطرفة دينيا باسم الإسلام والتي ربطت مفاهيم الإرهاب بالعرب والمسلمين وأعطت غطاء مناسبا بوصف كل من قال الله أكبر بأنه متطرف وإرهابي محتمل.
ـ وجود إدارة أمريكية متصهينة أكثر من غلاة الصهاينة يقودها الثلاثي الخطر ـ فريدمان، غرينبلات، كوشنير.
ـ علاقات متميزة لإسرائيل مع كثير من دول العالم وخاصة مع روسيا ودول أوروبا الشرقية والهند في ظل اقتصاد قوي جدا.
أهم بنود القانون
يتكون القانون من إحدى عشرة مادة أساسية. وسنختار منه عينة فقط. المادة الأولى تتكون من ثلاثة بنود:
أ ـ أرض إسرائيل هي الوطن التاريخي للشعب اليهودي، وفيها قامت دولة إسرائيل.
ب ـ دولة إسرائيل هي الدولة القومية للشعب اليهودي، وفيها يقوم بممارسة حقه الطبيعي والثقافي والديني والتاريخي لتقرير المصير.
ج ـ ممارسة حق تقرير المصير في دولة إسرائيل حصرية للشعب اليهودي.
والمادة الثالثة تحت عنوان عاصمة الدولة وتنص على: القدس الكاملة والموحدة هي عاصمة اسرائيل.
والمادة الرابعة: أ ـ تعتبر اللغة العبرية هي لغة الدولة، لكنه يعطي للغة العربية مكانة خاصة ينظم استعمالها بموجب القانون.
المادة الخامسة: تكون الدولة مفتوحة أمام قدوم اليهود ولمّ الشتات.
والمادة السابعة وهي من أخطر المواد حول الاستيطان اليهودي حيث تنص على: «تعتبر الدولة تطوير استيطان يهودي قيمة قومية، وتعمل لأجل تشجيعه ودعم إقامته وتثبيته». وتنتهي هذه القوانين بالمادة الحادية عشرة والتي تنص على أن أي تغيير في هذا القانون يستلزم أغلبية مطلقة من أعضاء الكنيست.
بعد إقرار القانون قام نواب القائمة المشتركة بتمزيقه ورميه صوب رئيس الحكومة نتنياهو ووصفوا القانون الأساسي الجديد أنه يؤسس رسميا وعلنا لنظام الأبرتهايد جديد بطبعته المنقحة والتي تجعل من نظام الأبرتهايد في جنوب افريقيا كأنه وثيقة حقوق إنسان.
انتهاكه للقانون الدولي
يستهدف القانون الأساسي هذا سحب أي نوع من شرعية الوجود التاريخي والمتواصل للشعب الفلسطيني على أرضه التاريخية وإدعائها لليهود فقط. أي «أن التنكر لحقوق الشعب الفلسطيني في وطنه لم يعد برنامجا سياسيا لهذا الحزب أو ذاك بل قانون دولة غلاب على كل القوانين»، كما قال محمد بركة رئيس لجنة المتابعة العربية. والقانون يستهدف القدس وهويتها الإسلامية المسيحية ومقدساتها التاريخية، وينكر وجود الشعب الفلسطيني كشعب ويحوله إلى أفراد طارئين في بلد ليس بلدهم وأرض ليست لهم. ويصادر القانون حق شعب آخر في تقرير مصيره. بل وينكر وجود أقليات أخرى خدمت الدولة واعتبرت نفسها جزءا من نسيج المجتمع الإسرائيلي غير العربي مثل الدروز وبدو النقب اللذين سمح لهما الخدمة في الجيش وقاموا بمهمات قتالية لصالح تلك الدولة.
وأخطر ما في القانون أن الاستيطان أصبح قيمة قومية وهذا يعني أنها ترفع من مستوى من يمارسها ولذلك يجب دعم وتثبيت وتوسيع هذه القيمة اليهودية المطلقة. الاستيطان حسب هذا القانون لم يصبح مسموحا فحسب بل أصبح إلتزاما دينيا وخلقيا. هذا القانون يؤسس لعملية تطهير عرقي عن طريق الاستنزاف أو ربما المجازر أو سن قوانين تسهل الطرد وهدم البيوت ومصادرة الأراضي ومنع التوظيف والتدخل في كل ما يمكن أن يتعارض مع القانون الأساسي السابق.
والسؤال الآن، هل يمكن تصنيف هذا القانون أنه نوع من ممارسة السيادة التي تمارسها الدول داخل حدودها؟ هل تستطيع كندا مثلا أن تسن قانون المواطنة تميز فيه ضد سكان مقاطعة كيبيك الفرنسية وتلغي اللغة الفرنسية كلغة رسمية؟ هل تستطيع بلغاريا أن تطرد من تعريفها لقوميتها أقلية الروما (الغجر) بسبب اللغة أو العرق أو الدين مع أنهم من سكان البلاد الأصليين؟ هل يمكن لدولة ديمقراطية أن تفصل قانونا على مقاس فئة واحدة فقط (حتى لو كانت أغلبية)؟
إن أول ما يخطر في البال أن القانون أسس لدولة عنصرية وبشكل لا لبس فيه فوصف المواطنة وحق العودة واللغة وحق تقرير المصير لفئة واحدة مميزا بذلك ضد السكان الأصليين من فلسطينيين عرب ودروز وبدو. وسنستعرض هنا عينة صغيرة من الاتفاقيات الدولية والقرارات الصادرة عن الأمم المتحدة التي تعتبر هذا القانون الأساسي انتهاكا للقانون الدولي:
أولا ـ الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري، التي اعتمدت بقرار من الجمعية العامة 2106 المؤرخ 21 كانون الأول/ديسمبر 1965 ودخلت حيز التنفيذ في 4 كانون الأول/ديسمبر 1969. وتتكون من 18 مادة وبها تفاصيل كثيرة تهدف أولا وأخيرا إلى القضاء على كافة أشكال التمييز العنصري. وتعرف الاتفاقية التمييز العنصري في بندها الأول بأنه «أي تمييز أو استثناء أو تقييد أو تفضيل يقوم على أساس العرق أو اللون أو النسب أو الأصل القومي أو الإثني ويستهدف أو يستتبع تعطيل أو عرقلة الاعتراف بحقوق الإنسان والحريات الأساسية أو التمتع بها أو ممارستها». وتنص مادة أخرى في الاتفاقية على أن تتخذ كل دولة طرف في المعاهدة تدابير فعالة لإعادة النظر في السياسات الحكومية القومية والمحلية لتعديل أو إلغاء أو إبطال أي قوانين أو أنظمة تؤدي إلى إقامة التمييز العنصري أو إدامته. كما تحظر الاتفاقية الترويج للتمييز العنصري وتعتبر كل الأنشطة العنصرية والتحريض عليها وترويجها جريمة يعاقب عليها القانون.
ثانيا ـ إعلان حقوق السكان الأصليين الذي اعتمدته الجمعية العامة 13 كانون الأول/ديسمبر 2007. وينص الإعلان المكون من 46 بندا على حق سكان البلاد الأصليين، أي مجتمعات ما قبل الاستيطان والاستعمار والتطهير العرقي والإبادة الجماعية، ليس فقط عن حقوقهم الفردية المدنية والسياسية مثل الحق في الحياة والسلامة والصحة وتكوين عائلة وحق التجمع والتنقل بل وحقوقهم كمجتمعات ومن تلك الحقوق المحافظة على هويتهم الوطنية وثقافتهم ولغتهم وأراضيهم وملكياتهم ومعتقداتهم وأديانهم وتراثهم الثقافي. وللعلم لم يصوت ضد الإعلان إلا الولايات المتحدة وأستراليا وكندا ونيوزيلندا. وينص الإعلان في بنده الثاني على حق السكان الأصليين في أن يكونوا أحرارا ولا يخضعوا لأي نوع من التمييز وهم يمارسون حقوقهم وخاصة فيما يتعلق بأصولهم وهوياتهم ومعتقداتهم. كما أن البند الثالث ينص حرفيا على حقهم في تقرير المصير وانطلاقا من هذا الحق يستطيع السكان الأصليون أن يقرروا بحرية وضعهم السياسي بالإضافة إلى العمل على تنمية مجتمعهم اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا.
ثالثا ـ الحق في تقرير المصير: قد تكون هذه المرة الأولى التي تأتي فيه دولة عضو في الأمم المتحدة تعطي لصنف واحد من السكان الحق في تقرير المصير وتمنع الحق نفسه عن شعب آخر. وحق تقرير المصير مكفول للشعب الفلسطيني بموجب القرارات الدولية المتعاقبة. وقد ورد نصا في قرار الجمعية العامة 3236 الذي صدر عام 1975 جاء في بنده الأول: تعيد الجمعية العامة التأكيد على حقوق الشعب الفلسطيني غير القابلة للتصرف في فلسطين والتي تشمل: 1: (أ) حق تقرير المصير بدون تدخل خارجي. (ب) الحق في الاستقلال الوطني والسيادة.
ومنذ ذلك القرار وإلى كانون الأول/ديسمبر الماضي والجمعية العامة تصوت على حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني وقد حصل القرار عام 2017 على 176 صوتا إيجابيا وحصل عام 2014 على 180 صوتا. ولم يصوت ضده إلا أمريكا وإسرائيل وكندا وأربع دول صغيرة جدا لا يعرف أحد منهم أين تقع فلسطين.
إضافة إلى ذلك فقد أقرت محكمة العدل الدولية في رأيها الاستشاري الصادر بتاريخ 9 تموز/يوليو 2004 بأن الشعب الفلسطيني شعب ينطبق عليه حق تقرير المصير كما أقر نفس الرأي بأن الضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة أراض محتلة من قبل إسرائيل وهو احتلال غير شرعي. ولا ننسى أيضا أن الجمعية العامة اعترفت رسميا عام 2012 بدولة فلسطين ومنحتها صفة مراقب.
القرار الجديد إذن مخالف تماما للقانون الدولي. ولعل اعتماده يكون فرصة للشعب الفلسطيني ليعيد خطابه السياسي حول وحدة الشعب الفلسطيني في كل مكان ووحدة الأرض الفلسطينية ووحدة الهدف المتمثل في إقامة دولة فلسطينية ديمقراطية على كل أرض فلسطين يتمتع فيها المواطنون جميعهم بالحقوق نفسها ويؤدون الواجبات نفسها دون تمييز قائم على الدين أو اللغة أو اللون أو العرق أو الأصول الإثنية. لقد أصبحت هزيمة الطبعة الجديدة من نظام الأبرتهايد والأقبح في التاريخ مسألة أسهل بعد كل هذا الوضوح.
11HAD
عبد الحميد صيام