محاولة لجعل الصمت يتكلم، وجعل الكلام صامتاً. صمت يتوق إلى الكلام، وكلام يخشى الابتذال. الصمت المطبق تماماً هو معنى لم يولد بعد، وكثير من الكلام هو انتحار المعنى. وبين كلام لم يولد، وكلام انتحر، تحاول الكتابة أن تقول ما لا يقال، تستنطق المعاني من ثنايا الصمت، تحرسها وتخاف عليها من الانتحار.
من الواضح أن الخروج عن الصمت والحديث عن الذاكرة وعن المجزرة يشكلان هاجساً قوياً ومركزياً في رواية: «أولاد الغيتو – اسمي آدم»، وبهذا المعنى، فإن الرواية هي محاولة لفهم هذا الصمت على مجزرة بهذا الحجم، ومحاولة لإعطاء الضحية حقها في الكلام. وبهذا السياق، الصمت هو الغياب، الغياب المطلق، وهو رديف للموت، أمّا استرجاع صوت الضحية فهو عبارة عن محاولة إنقاذها من براثن النسيان.
«لم يسمع أحد أنين الفلسطينيين الذين كانوا يموتون ويُشرَّدون بصمت، لذا جاء الأدب كي يصنع للضحية لغتها الجديدة» (ص 363). وبالتالي فإن الكتابة هي محاولة للعثور على اللغة، لأن الفلسطيني لم يُقتلع ويتشرد فقط، بل حُرم أيضاً من لغته. والضحية النموذجية كما يكرر ليوتار هي الضحية التي فقدت قدرتها على أن تثبت أنها ضحية، أي أنها ضحية منسية، غير مرئية، آلامها خفية عن العين، وأنينها لا يُسمع. وهي الحالة الفلسطينية بامتياز، كما جاء في الرواية على لسان أحد أبطالها: «حطونا بمكان ما عندوش لغة، وتركونا بعتمة الصمت» (ص 382). ليس هذا فقط، بل إن الضحية الفلسطينية حُرمت من دموعها أيضاً، فمثلما يقول مراد: «نحن مُنعنا من البكاء، وحين لا يعود باستطاعتك أن تبكي خوفاً من أن تُقتل، يصير الكلام بلا معنى» (ص 383). والدموع هي مبتدأ الكلام.. ورسالة الطفل قبل أن يعي أبجديات اللغة، وأن تُحرم من البكاء، يعني أن تُحرم من اللغة التي هي ما قبل اللغة، يعني أن يُفرض عليك الخرس المطلق، وهذا يعني الغياب المطلق؛ ضحية لا يسجل لها أنها ضحية، وأمام الضحية الكبرى لليهود في أوروبا تختفي الضحية الفلسطينية وتمر الجريمة بلا أثر.
هنا يحضر الأدب، كما تقول الرواية، «كي يصنع للضحية لغتها الجديدة» (ص 363). الأدب وليس التاريخ، لأن التاريخ محكوم بقواعده الأكاديمية الحديدية التي تطالب الضحية دائماً بأن تقدم البراهين العلمية المادية والملموسة على كونها ضحية. يقول آدم في الرواية: «أعرف أني لا أمتلك وثائق تثبت كلامي، وثائقي هي شهادات الناس الذين مات أغلبهم… ضحايا هذه المذبحة لم يرووها لأنها انحفرت في أرواحهم ورافقتهم طوال حيواتهم البائسة، ولم يجدوا هناك ضرورة لبرهنة البديهي الذي عاشوه» (ص 315)، وهكذا يحرر الأدب ما عجز عنه التاريخ، أو ما قمعه علم التاريخ، ويستعيد الفلسطيني حقه في أن يروي، محرراً ذاكرته من مكبس التاريخ الذي لا يرحم.
بهذا المعنى الرواية هي خروج عن الصمت، ومحاولة لفهم هذا الصمت المستمر، ويمكن تجسيد مشروع الرواية بالصرخة التي أطلقها «آدم» حين قال: «أنا ابن حكاية خرساء، وأريد للحكاية أن تنطق على يدي» (ص 95).
التوتر بين الصمت والكلام
ربما يبدو أن الخروج من الصمت إلى الكلام هو الحكاية كلها.. كأن الكلام والحياة هما سيان، فحين عاد الحب يسري في عروق وضاح، «سال منه الكلام كالماء» (ص 58). هذا كله جيد، لكنه غير قادر على صناعة رواية بامتياز كالتي بين يدينا. الرغبة في الكلام هي نصف الحقيقة، وأنصاف الحقائق لا تساوي شيئاً، وهي عادة أسوأ من الكذب. النصف الثاني من الحقيقة هو أن الرغبة في الكتابة، في الخروج عن الصمت، هي رغبة متلعثمة، تتعثر بذاتها دائماً، وهذا التعثر هو جوهر الرواية، لأنه جوهر التوتر المستمر بين الرغبة في الصمت والرغبة في الكلام، ولأنه يكشف التوترات الداخلية لأبطال الرواية. الرواية أولاً وأساساً تناقضات داخل نفسية الشخصيات، بينهم وبين ذواتهم وليس بينهم وبين الآخرين.
الصمت أنواع. الصمت قد يكون نوعاً من الخرس، ونوعاً من الغياب، لكنه ليس هكذا في جميع الأحوال. صمت المعتقل أمام المحقق ليس غياباً لكنه منتهى الحضور، والصمت الذي يتوسط بين نقرتين على مفاتيح البيانو هو مركب أساسي لا تكتمل المعزوفة من دونه. الصمت أنواع، وللصمت أسباب عدة، ومعانٍ كثيرة. والرواية ملأى بأنواع من الصمت. الشخصيات ملفوفة بالصمت: نوال تتدثر بالصمت؛ مراد يختبئ بين ثنايا الصمت قبل أن يسيل منه الكلام؛ وضاح يصمت في صندوقه؛ ومأمون يحدثنا عن لحظات الصمت في أدب محمود درويش. الصمت ألوان وأشكال، كما أن للكلام معاني كثيرة: الصمت أحياناً بلاغة، وأحياناً موت، والكلام أحياناً ابتذال، وأحياناً حياة.
الكتابة والموت
في مقابل ثنائية الصمت – موت، الكلام – حياة، تعرض لنا الرواية الثنائية المقابلة الكلام – موت، والصمت -حياة.
سأبدأ في الحديث عن الكلام والكلمات والكتابة لأعود إلى الكلام عن الصمت.
لا تحضر الكتابة في نص الرواية باعتبارها منقذاً، وإنما في كثير من الأحيان تبدو كتابة الذاكرة وتوثيقها باعتبارها عملية انتحار.
آدم يخبرنا: «لا أريد أن أعمّم قائلاً إن كل كتابة هي شكل من أشكال الموت، لكن هذا ما أشعر به الآن» (ص 111).
إذا اعتقدنا سابقاً أن الصمت هو الموت والغياب، فها هو آدم الذي قال لنا: «أريد للحكاية أن تنطق على يدي»، يقول لنا الآن إن الكتابة هي شكل من أشكال الموت!! وإن «الفن ينسج لنا كفناً من كلمات وألوان» (ص 118)، وإن الكتابة «هي الشكل الملائم للنسيان» (ص 96)، وإن «المرأة خبأت حياتها بين الأموات، وأنا أختبئ بين جثث الكلمات» (ص 262).
ما الذي يحدث إذاً.. لقد هربنا من موت الصمت وصمت الموت كي نكتشف أن الكلمات جثث والفن كَفن؟؟ ما العمل إذاً؟؟
الرواية لا تكتفي بهذا الاستئناف على معنى الكتابة والكلمات، بل تحيّرنا بشأن معنى الصمت. ففي لحظتين رائعتَي الجمال في نص الرواية، تستوقفان القارئ بما يشبه الصفعة بيد من ورد وحرير، يقول لنا «آدم» واصفاً حبيبته بالصمت: «كانت جميلة كالصمت» (ص 105). كيف يكون الصمت بعد هذا كله جميلاً؟
اللحظة الأُخرى التي تستوقف القارئ في الحديث عن الصمت هي جملة مراد الذي قال: «كنت عم بحكيلك عن الصمت، لا الصمت منّوش عتمة، الصمت موقف» (ص 382). الصمت موقف لأنه «حين لا يعود باستطاعتك أن تبكي خوفاً من أن تُقتل، يصير الكلام بلا معنى» (ص 383).
غير أن هناك ثلاث مناسبات أُخرى تشير إلى نبل الصمت في الرواية؛ الأولى، عندما يراجع آدم نفسه بعد أن استدرج مراد للخروج عن صمته كي يروي له الرواية، ويبدو كأنه في حالة تردد عمّا إذا كان ما فعله هو عين الصواب حين يقول: «ربما يجب عليّ أن أغضب من نفسي، لأنني كتبت ما رواه لي مراد العلمي. ربما يجب على المأساة أن تبقى ملفوفة بالصمت، لأن أي كلام عن تفاصيلها يشوّه صمتها النبيل» (ص 411).
المناسبة الثانية هي محاضرة مأمون الأعمى في نيويورك بشأن المسكوت عنه ولحظات الصمت في الأدب الفلسطيني، وفي شعر محمود درويش، باعتبارها اللحظات المهمة في هذا الشعر، الأمر الذي يوحي بوجود المعنى خارج الكلمات وقبل النص وتحته (مأمون، هذا الأعمى، الذي لم يشاهد المجزرة، كان الوحيد المؤهل للحديث عنها، كأن العمى ضروري للقدرة على الكلام).
أمّا الإشارة الثالثة والأهم فهي تردد آدم أصلاً في نشر هذه الدفاتر كلها، والتي نقرأها نحن الآن باعتبارها الرواية، وهذا أمر بحاجة إلى بعض التفصيل.
أين تبدأ الرواية
ربما يميل البعض إلى اعتبار أن الرواية التي كتبها إلياس خوري تبدأ في الصفحة رقم 19، أي بعد الفصل الذي سماه الكاتب «مدخل»، والذي يشير فيه إلى الطريقة التي وصلت فيها هذه الدفاتر إلى يديه من «آدم» عن طريق سارانغ لي، كأن الرواية هي ما نقرأه في الدفاتر، أمّا المدخل» فهو مجرد «مدخل»، إلاّ إن هذا هو الخطأ بعينه. الرواية «تبدأ» حيث تبدأ حكاية وصول الدفاتر إلى يد الروائي. إنها جزء من الرواية ذاتها وعنصر مهم جداً. لماذا؟ لأن الكتابة محور أساسي في الرواية. الكتابة عن فعل الكتابة. هذه الدفاتر وصلت إلى صاحب الرواية عن طريق الخطأ. لم يكن «آدم» يخطط لإيصال هذه الدفاتر إلى يد أحد، وأساساً ليس إلى يد إلياس خوري الذي تحول إلى شخصية في الرواية. «آدم» كان يكتب من دون أن يتخذ قراراً بالنشر، وبالتالي فهذه مجرد مخطوطات كتبها «آدم» لنفسه، أي أنه لم يتخذ القرار بأن يصبح هذا النص مكشوفاً ومقروءاً ومعروفاً للعالم بأسره، لا بل إنه، وأكثر من ذلك، طالب بحرقه!! ماذا يعني هذا كله؟
هذا يعني أن القرار بالخروج من الصمت وتحويل الذاكرة إلى كلمات، إلى جثث كلمات، هو قرار لم يتخذه «آدم»، لأنه بقي معلقاً بين نبل الصمت وضرورة الخروج منه، فالصمت موت والكلام موت من نوع آخر، والكلام حياة والصمت حياة من نوع آخر. وبين الصمت والكلام قرر أن يقف على عتبة الكلام، فكتب الكلام لكنه لم ينشره، وإنما وقف في منتصف الطريق تماماً كنظرات أمه نوال التي كانت عبارة عن صمت يقول وعن قول صامت.
بهذا المعنى فإن نشر الدفاتر، أو مجرد كتابة الرواية، يفتح سؤال الخيانة والوفاء على مصراعيه. هل خان الراوي بطله «آدم» حين نشر هذه المذكرات، أم كان وفياً له؟ مجرد طرح السؤال يُظهر لنا عقم التعابير وقصورها عن استيعاب مدى تعقيد الوجود الإنساني الذي تختلط فيه الخيانة بالوفاء.
اللغة العمياء
هنا سأتوقف قليلاً للحديث عن نبل الصمت والخوف من الكلمات، وكيف يمكن للكلمات أن تتحول إلى جثث والفن إلى كَفن، وهو أمر يتعلق بطبيعة اللغة وصناعة المعاني.
كثيراً ما نقرأ تعبيرات عن عجز الكلمات، وخصوصاً في وصف المشاعر، باعتبارها حالة شاعرية «تعجز عنها الكلمات». والتعبير «تعجز عنه الكلمات» يوحي بوجود معنى ما، سابق على الكلمات، وما دور الكلمات واللغة سوى التعبير عمّا هو سابق عليها، كأن الكلمات ما هي إلاّ مجرد أدوات تستعيرها المعاني لتسكن فيها وتستقر. في هذا السياق، عندما «تعجز الكلمات» فإن هذا دلالة على أن المعنى السابق على الكلمات لم يجد له مستقراً في عالم اللغة والكلمات، ويمكننا أن نفسر التعبير بلغة أكثر مباشرة، إذ حين «تعجز الكلمات» فإنها تعجز عن «إخضاع» المعنى، كأن المعنى نجا بنفسه من سطوة الكلمات، وإذا هي عجزت عنه، فإنه يكون قد انتصر عليها.
إن هذا «الحنين» إلى معنى سابق على الكلمات وعلى اللغة مفهوم جداً لأنه يرفض اختزال المعنى بالكلمات وباللغة. اللغة تبدو في هذا السياق كتهديد للمعنى، لأن اللغة قابلة للتداول اللانهائي المستمر، قابلة للإعادة والاستعادة، قابلة لأن تُطبع وتوزَّع في آلاف وملايين النسخ، وقابلة لأن تقال في كل مقال وفي كل مقام، وقابلة لأن يقولها الجميع، مَن فهمها ومَن لم يفهمها، مَن يقصدها ومَن لا يقصدها. عندما يقول العاشق لحبيبته «أنا أحبك» فإنه يعرف أنها قيلت قبله ملايين المرات، وستقال بعده ملايين المرات بعدد الأحرف نفسها.. هذه الرتابة، والإعادة، والتداول، تخيف، لأنها تُفقد الكلمات معناها، فالكلمة نفسها قيلت في سياقات مختلفة، وبمشاعر مختلفة، وبحماسة مختلفة. لكن اللغة عمياء في تكرارها، جاهزة أبداً ودائماً للاستعمال. اللغة لا تقول «لا» أبداً، فهي طيعة في يد مستعمليها. يكفي النظر إلى المواقع الإلكترونية التي تقترح عليك جملاً وتعابير لجميع المناسبات: لصديق في ضيق، ليوم العشاق، ليوم الزواج، للأم في عيد الأم… بهذا المعنى فإن اللغة سبقت عالم البضاعة وعالم النقود في قدرتها على إخضاع القيم المختلفة نوعياً وجوهرياً لقاسم مشترك يلتقي فيه الجميع. في عالم البضائع، كل شيء سلعة وقابل للشراء في مقابل المال؛ الأشياء تفقد تفردها الخاص أمام منطق المال الذي يسعى لأن يحول كل شيء إلى سلعة قابلة للتداول، كما تسعى الكلمات لتحويل كل فكرة أو مفهوم أو حتى المشاعر إلى أمور قابلة للتداول والتكرار.
خوف الأشياء من التحول إلى سلع يوازيه خوف المشاعر العميقة من التحول إلى كلمات. بهذا المعنى فإن القاموس لا يعج بالمعاني، بل هو مقبرة منظمة لها. الإنسان كمصدر للمعاني يجب أن يبقى مبهماً، غامضاً، متمرداً على اللغة، وليس دليلا ً للهاتف مفتوحاً على مصراعيه.
اللغة عبر الكلمات والمفاهيم تسعى لهيمنة كولونيالية شاملة، ولإخضاع كل شيء، فهي لا تقبل شيئاً عصياً عليها، وخارجاً عنها. هذا هو الخوف؛ خوف المعنى من ترويضه اللغوي، وخوف العيني المشخص المتفرد بذاته ولذاته من هيمنة التداول والتكرار.
هذا هو الخوف الذي يسيطر بين حين وآخر على «آدم» في أثناء محاولاته الكتابة. الكتابة نوع من الخيانة لأنها تحاول ترويض التجربة العينية المشخصة ووضعها في قوالب من كلمات. الكتابة تذكّره بالموت، والفن يذكّره بالكفن. آدم لا يريد الكتابة، ولا يريد أن يتحول إلى رمز:
«أنا هو أنا، ولا أريد أن أتحول إلى رمز. أنا أكره الرموز، وهذا كان أحد الأسباب التي دفعتني إلى التخلي عن مشروع كتابة قصة الوضاح» (ص 138).
غير أن آدم الذي يكره الرموز، والذي تخلى عن الاستعارة، والذي يعتبر الكلمات والفن كفناً، لم يجد أمامه في نهاية الأمر ما يفعله سوى الكتابة.. يهرب من الكتابة ليعود إليها، ثم يكتب ولا ينشر، ويستنطق الجميع ثم يندم.
الصمت/الكلام والحب
لماذا يعود آدم على الرغم من ذلك كله إلى الكتابة؟
يعود الراوي إلى الكتابة لأن الصمت حين يكون مطبقاً تماماً يحنّ إلى الكلام، الصمت حين لا يُرى موت. بهذا المعنى، صحيح أن الكلام يحنّ إلى المعنى السابق عليه، غير أن المعنى لا يجد طريقة إلاّ من خلال الحضور والتداول. التداول شرط المعنى والخطر عليه في الوقت نفسه. أحياناً نصمت لكننا نريد من الجميع أن يعرف أننا صامتون. وكي يكون الصمت ذا معنى فإنه يحتاج إلى التواصل، والأطفال حين يغضبون منا، يتدثرون بصمتهم ويقفون في زاوية الغرفة. يصمتون وينتظرون نظرتنا كي نكون شهوداً على صمتهم واستيائهم. ومنال صمتت، لكنها كانت بحاجة إلى عينَي آدم الطفل ليرى صمتها ويسجله في قلبه ويحمله معه طوال حياته كي يصير لصمتها معنى. الصمت تفرّد، واكتمال المعنى، لكن لا معنى لهذا المعنى من دون وجود الجماعة، من دون وجود الآخرين الذين يشهدون صمتنا. المعنى بحاجة إلى التواصل، والقدرة على التكرار والتداول، فما يهدد المعنى هو شرط حضوره أيضاً.
هذا هو المستحيل الذي يصارع فيه آدم بداية، وإلياس خوري لاحقاً. خوري شعر بثقل المهمة، فألقى بها على كتفَي «آدم»، لكنه قرر نشر الدفاتر، فهو لا يستطيع الهرب من مسؤولية الكتابة والنشر.
إلاّ إن الصمت لا يحضر فقط بصفته مخزن الذاكرة وحارسها النبيل، بل إن المؤلف يأخذنا أيضاً في حوار عن ثنائية الصمت/الكلام وعلاقتهما بالحب. وهو موضوع ليس جديداً لدى الكاتب الذي أشار إليه في روايته السابقة: «سينالكول»، حين كتب أن «الحب ترجمة للكلام، وحين ينتهي الكلام ينتهي الحب.»
ثنائية الصمت والحب والكلام والحب، تبدأ مع وضّاح اليمن الذي يمكن القول إن قضيته تراوح بين صمتين: صمته الأول حين أضاع «روض»، وصمته في الصندوق الذي ذهب فيه إلى موته صامتاً بعد قصة عشقه لأم البنين. ففي الحالتين يلتقي ضياع الحب وانتهاؤه مع ضياع الكلام، وإن كان هناك مجال للتأويل بشأن معنى صمته الثاني: هل فقد معنى الحياة فصمت، أم إنه أراد أن يحمي عشيقته من الفضيحة فآثر الصمت؟ هل دخل في الحكاية وذهب فيها إلى نهايتها كمَن صدّق أن حياته مجرد استعارة؟ صحيح أنه عندما هجره العشق، لاذ بالصمت، لأن كل شيء أصبح بلا معنى، فهو، مثلما تصفه الرواية، عندما عاد إليه الحب، عادت إليه الحياة، و»سال منه الكلام كالماء» (ص 58).
ما علاقة الحب بالكلمات إذاً؟ هل تحضر الكلمات عندما يحضر العشق؟ أم يحضر العشق عندما تحضر الكلمات كما قال إلياس خوري في «سينالكول»؟
يقول خوري في روايته:
«لا شيء يشبه الحب سوى الحب. عصف يعيد تأليف العالم من جديد، كأن الأشياء تولد مقمّطة بالأسرار والغموض، وتتراءى جديدة كأنها لم تكن قبل أن ينبثق الحب من ماء العيون» (ص 72).
غير أن الأشياء المفعمة بالأسرار والغموض هي أقرب إلى الصمت والعتمة منها إلى ضوء الكلام. فما علاقة الكلام بالحب إذاً؟
يبدو الحب كمستحيل آخر، لكنه ضروري. يحتاج الحب إلى الكلام لا ليكون، فالحب سابق على الكلام، لكن ليعلن استحالته، بعكس ما كتبه إلياس خوري في «سينالكول».
كلام العاشق لعشيقته محاولة مستمرة ليقول لها أنه يحبها؛ محاولة محكومة بالفشل عادة، لكن الكلام الذي يقال هو محاولة متكررة لبناء جسر معلق من الكلمات في الهواء كي يصل بين روحين. هذا الفشل المتكرر هو الذي يحثّ على استمرار الكلام. يفيض الكلام ضمن محاولة لعثور الشعور الغامض على مفرداته الملائمة كي يتواصل مع شخص الحبيب ضمن محاولة متكررة وفاشلة، لكن نجاحها يكمن في فشلها، لأنها تغري الشاعر بتكرار التجربة من جديد.. الرغبة في الكلام واستحالة وصول المعنى هما اللتان تجعلان التجربة تكرر ذاتها من جديد. بهذا المعنى فإن الحب ومحاولة التعبير عنه هما ما يزودان اللغة بحيويتها، وما يمنعان الكلمات من أن تنام مرتاحة في فراش معانيها، ويحرّضانها على التمرد على ذاتها، ويطالبانها بما هو فوق طاقتها، فعلى بساط الحب تولد المعاني من جديد.
بهذا المعنى، فإن الحب دائماً نوع من الجنون، أو كما تقول الرواية: «الحب أن نعيش ما لم نعشه كأننا عشناه» (ص 108)، وبالتالي فهو وهم، لكنه وهم حقيقي. ولأنه كذلك يصير العاشق أبله، أو ساذجاً. يوافق دون أن يفكر، ولأنه كذلك أيضاً فهو خارج المألوف والمبتذل لأنه «لا عشق من دون هذا الهوان الذي يكسر ظهر الرجولة» (ص 59).
إن هذا الجنون السابق على الكلام يشكل مصدراً آخر للمعنى، فهو شبيه بصمت منال الذي يمدّ الكلمات بالمعنى، وهو مؤهل لأن يؤثر فينا ويغير شيئاً جوهرياً حين تعجز الكلمات.
ليس مصادفة أن التغييرات الكبيرة والمفارق المهمة تجعل حياة آدم نتاج أحداث على طرف الكلام، ونابعة أساساً من علاقته بمنال ودالية. لقد فهم «آدم» من نظرات أمه أن عليه أن يرحل، لم تقل له أن يترك البيت، لكنها عرفت قراره بالرحيل ولم تقل شيئاً، فأدرك من صمتها أن عليه أن يذهب: «قرأت ذهابي في عينيها» (ص 295). والمرة الثانية كانت حين انتهت علاقته بعشيقته دالية.. دالية «مضت، وجعلتني أكتشف في صمتها الذي غطى الفصل الأخير من حياتي أن الحب الذي ولد في سياق اللعبة انتهى، وأن عليّ أن أمضي كي لا تتحلل روحي في الأسى» (ص 291).
مضى آدم ليبحث عن نفسه، بعد أن انتهى الحب وساد الصمت، فهو ككل حب كان عبارة عن سوء تفاهم، ولم يكن في إمكانه أن يفهم وأن يواجه نفسه إلاّ عندما انتهى سوء التفاهم. الفهم بدأ عندما انتهى سوء الفهم، غير أنه ليس ممكناً الوصول إلى هذا الفهم ومواجهة الذات من دون «سوء الفهم» الملازم لكل قصة حب، لأن سوء الفهم هو المرايا التي نرى أنفسنا من خلالها. منال في حبها وصمتها، ودالية في حبها وصمتها، قذفتا بآدم إلى حيث قذفتاه، وفي حبهما وفي صمتهما كانتا مرآة للذات في طور البحث عن هويتها ومعنى وجودها. والدور الذي يؤديه الحب في الرواية يُلزمنا إجراء مقارنة بين أحداث غيتو اللد، وبين نيويورك حيث «تبدأ» الرواية. «آدم» في نيويورك الملأى بالبارات والمقاهي غير قادر وغير مؤهل للحب، لكن غيتو اللد كان لا يزال قادراً على احتضان قصة حب تولد على هامش المجزرة بين رجل جاوز الستين وامرأة في أواخر العشرينيات ليعلنا زواجهما، على الرغم من أن الرجل متزوج من قبل، وأب لأولاد. إيليا بطشون الرجل الستيني المتزوج والخارج من المجزرة، يذهب إلى زواجه العاشق، أمّا «آدم» العازب النيويوركي فيدخل في يأسه، وهذه مقابلة تستدعي التفكير في عمق الهزيمة بين جيل الآباء وجيل الأبناء.
الذاكرة والنسيان
الثنائية التالية التي أنوي الإشارة إليها هي ثنائية الذاكرة والنسيان وتشكّل الهوية، وهي ثنائية مأزقية من الصعب الإشارة إلى مخرج واضح منها. «آدم» يراوح بين رغبته في أن ينسى، ورغبته في أن يتذكر، وبين هذه وتلك يحاول أن يستجمع أشلاء روحه المتناثرة. دائماً يبدأ من جديد، فكما يقول في الرواية: «أعدت تأليف حياتي ست مرات» (ص 118)، رجل تعب من الذاكرة ويحن إليها، يهرب منها فيجدها أمامه، ويذهب هو إليها لكنه يخاف أن يكتبها. «رجل بلا انتماء ولا لغة، رجل تجاوز الخمسين، يبدأ حياته من لحظاته الأخيرة، وينتشي بالموت» (ص 111).
آدم يحاول البحث عن هويته. يحاول أن يتحرر من الذاكرة، لأن ذاكرة كذاكرة المجزرة «عبء ثقيل لا يستطيع أحد تحمّله، لذا أتى النسيان كي يحررنا منه» (ص 96). فيتقمص بداية دور اليهودي ويقول: «اخترعت لنفسي أباً يُدعى يتسحاق… مات أبي في ‹حرب الاستقلال› وترك أمي وحيدة» (ص 269)، وهكذا «نجحت، وكنت إسرائيلياً كالإسرائيليين. لم أُخفِ هويتي الفلسطينية، لكنني خبأتها في الغيتو الذي ولدت فيه» (ص 104).
يحاول أن ينسى، يعشق دالية اليهودية التي تريد أن تعيده إلى هويته، لكنه يصطدم بذاته مجدداً ويصرخ: «أريد أن أمزّق ذاكرتي كي أخرج من شرنقة الحنين، وأنظر إلى المستقبل» (ص 191).
رغبته في تجاوز الذاكرة مفهومة، والتعثر المستمر لتلك المحاولة مفهوم أيضاً.
غالباً ما تكون الذاكرة عبئاً ثقيلاً، لأنها تذكّرنا بواجباتنا تجاه مَن قضوا أولاً، وتجاه أنفسنا ثانياً. الذاكرة دين علينا، تسلط سيفها الأخلاقي على رقابنا، وتذكّرنا دائماً بما يتوجب علينا أن نقوم به. الذاكرة تأتي من بطن التاريخ، تلقي ثقلها علينا، تجثم فوق الإرادة، تطلب منا انصياعاً، وتُحضر معها سجلاً حافلاً بالمطالب الأخلاقية والواجبات تجاه الأهل والوطن والأقرباء والأحباء. الذاكرة هي الأرض الخصبة التي ينمو فيها الشعور بالذنب الذي كثيراً ما يكون عائقاً أمام معانقة الحياة، وحجر عثرة في الطريق إلى الاحتفاء بها. عندها يصير اغتيال الذاكرة ضرورة حياتية كي يستمر الأفراد في حياتهم، فهذا الدين العميق كفيل أحياناً بأن يشلّ القدرة على الحركة، فتصبح الذاكرة عائقاً أمام المستقبل وأمام الحرية والسعادة، ويجب التخلص منها بأي ثمن.. بأي ثمن؟
لا تكون الذات ذاتاً إلاّ بصفتها كائناً تاريخياً يراكم تجاربه ويتواصل مع ماضيه. الذات ليست لحظة، وإنما خيط متواصل يجمع بين «أنا» اليوم و»أنا» البارحة، محولة إياهما إلى ذات واحدة. هذه الاستمرارية للذات هي الوحيدة المؤهلة لكي تجعلنا ذوات لها هوية، ولأن تربط الحلقات المنفصلة في وحدة واحدة اسمها «أنا»، وأن تجمع الشظايا المتفرقة والشخصيات المتناثرة. فمن دون هذه الـ «أنا» المتماسكة لا يمكننا حتى أن نفكر أو نسعى أو نطمح إلى مستقبل أفضل، فلماذا نخطط أو نأمل بأن تكون الـ «أنا» المستقبلية هي «الأنا» نفسها التي تتحدث إليكم الآن، و»الأنا» نفسها التي نسعى لسعادتها؟ حين نطرح الماضي والذاكرة جانباً فذلك لا يعني بالضرورة أننا نستطيع التحرك إلى الأمام بسرعة أكبر، ولا أن نعانق الحياة أكثر، ولا أن نستشعر السعادة بعمق أفضل، لأن السعادة حين تأتي عليها أن تجد «ذاتاً» في انتظارها، قادرة على استيعابها وتقبلها ومعانقتها وفهمها. السعادة غير اللذة، فهي بحاجة إلى ذات كي تسكن فيها، والذات لا تستطيع من دون الذاكرة.
حاول «آدم» القفز في الهواء إلى الأمام، فلم تنجح المحاولة، والآن يحاول العودة إلى الوراء، فهل تنجح المحاولة؟
لا تفصح الرواية لنا شيئاً عن هذه المحاولة، وتُبقي الباب مفتوحاً أمام الرواية المقبلة.
مجزرة اللد
ليس ممكناً الحديث عن رواية كهذه من دون الحديث عمّا جرى في اللد من هول المجزرة، وعن جميع ما رافقها من آليات الصمت والإسكات والإذلال، واختلال المعاني، وفقدان اللغة والبوصلة. الرواية تعيد نسج الأحداث، وكتابة تأثير الأحداث في الشخوص والنفسيات والأخلاقيات: ما الذي فعلته بنا المجزرة الرهيبة، وكيف تعايشنا معها، وكيف خرجنا منها، إن خرجنا، وكيف خرجت، إن خرجت.
هول الصدمة في سنة 1948 لم يكن على بال، وفاق سيناريوهات الرعب كلها. لم يتعامل معه الفلسطيني باعتباره حقيقة، وإنما باعتباره كابوساً موقتاً، حدثاً خارج الحياة وليس جزءاً منها. غير أن أشد ما يلفت الانتباه في النص ليس عدد الضحايا وتفصيلات المجازر، بل العامل الإنساني الذي رافق عمل الجلاد وعمل الضحية، وتفاعلهما مع الأحداث.
ليس غريباً أن تحارب الشعوب وتخسر، وتلك هي الهزيمة، لكن هناك الذل الذي يأتي بعد الهزيمة. والذل يكمن في تلك المشاهد التي فرضت على الفلسطيني ليس فقط أن ينفصل عن أقرب الناس إليه، وحتى أن يسرق بيوت جيرانه وينتشي بعملية السرقة باعتبارها نوعاً من الروتين اليومي وتنفيذاً لمهمة ملقاة على عاتقه، بل حتى أن ينفصل عن نفسه، ويغترب عن جسده، وهما أكثر الأشياء حميمية. وفي الرواية نوعان من هذا الاقتحام للذات بأكثر صورها الحميمية منعا الفلسطينيين من التواصل مع وجودهم. الأول هو هذا المستوى من التحكم في الذات الفلسطينية، والذي لا يُبقي لها ولا حتى الحد الأدنى من الشعور بكونها ذاتاً، ذلك بأن الذات التي لا تستطيع البكاء محرومة من ذاتيتها.
النوع الآخر، وهو الأسوأ، لا يقع في سياق المنع، لكن في سياق الإجبار على القيام بأعمال معينة؛ إجبار الفلسطينييين على دفن الجثث، على إفراغ البيوت من محتوياتها ووضعها في سيارات تقوم بنقلها إلى المخازن الإسرائيلية، أي تحويل الفلسطينيين إلى شركاء في عملية نهبهم الذاتية. غير أن الأسوأ من هذا وذاك هو الإجبار على الرقص، وهو موضوع تعود إليه الرواية في عدة مناسبات وتشير إلى حدوثه ليس فقط في مذابح اللد، بل خلال مذابح صبرا وشاتيلا أيضاً، والتي أُجبرت فيها الضحية على الرقص وعلى ترديد شعارات مثل: يسقط أبو عمار ويحيا بشير الجميل.
في كتاب صدر قبل بضع سنوات وصف جندي احتياط إسرائيلي ممارسات الجنود على الحواجز، وتفنّنهم في إذلال الفلسطيني، فأشار إلى ظاهرة كان يجبر فيها الجنود الإسرائيليون المواطنين الفلسطينيين الذين يرغبون في عبور الحاجز بأن يقوموا بأداء أغنية للمغني زوهر أرغوف بالعبرية بعد أن يقوموا بتلقينهم كلمات الأغنية بالعبرية.. أن تُهزم أمام الآخرين وأن يحولوك إلى مجرد أداة لخدمة أهدافهم شيء، أمّا أن تقبل الذات على ذاتها أن تتحول إلى أداة في عُرف نفسها فذلك مستوى آخر من الذل وفقدان الهوية الذاتية هو أقرب إلى إجبار الذات على الانتحار الجزئي. الهزيمة شيء والإجبار على الانتحار الجزئي الذي تستعمل فيه الذات ذاتها ـ جسدها، أو صوتها لأداء مهمة ليست من خيارها، فذلك منتهى الاغتراب؛ اغتراب عن الجسد في حالة الرقص، واغتراب عن الصوت في حالة الإجبار على الغناء: فهذا الصوت ليس صوتي بعد الآن ولا يعبّر عني، وهذا الجسد ليس جسدي بعد الآن، لأني رقصت حين لم أرغب في الرقص.
الرقص والغناء تعابير حميمية عن المزاج والذات، واقتحام المزاج هو اقتحام للحميمية الإنسانية، إلاّ إن خلود وسط هذا الذل الذي لا مفر منه، تجد نفسها تقاوم. كيف تقاوم؟ بالجنون؛ رقصت، رقصت تماماً أمام الجنود، وبدا كأنها ترقص من رغبتها وليس فقط خضوعاً لهم. حرّرت إرادتها ورقصت رقصة الموت، لكن مَن يرقص حول الجثث سوى المجانين؟ بالجنون أعاد الفلسطيني اكتشاف حريته. المرة الأولى رقصت خلود بالجنون، والمرة الأُخرى رقصت في عرسها رقصة الفرح، فاستعادت جسدها، ورقصت هذه المرة حين رغبت في أن ترقص. لقد انتقمت لجسدها وحرّرته، وهذه المرة بالفرح وليس بالجنون.
الحضيض الذي وصل إليه الفلسطيني، يتجسد في المشهد الذي رواه مراد عن “المصري” الذي كان أحد أفراد المجموعة التي نفّذت أوامر نهب البيوت، فوجد نفسه مساهماً في نهب بيته. لكن حين وصل أمام مرآة كبيرة، وشاهد صورته منعكسة فيها، رفض نقلها، وتمرد على أوامر الجنود، فتعارك الشباب مع الجنود، وسقطت المرآة فوقهم، وتهشمت محطمة صور الفلسطينيين والجنود الإسرائيليين. لقد كشفت المرآة للفلسطيني عمق الذل الذي أوصله إلى الحضيض، فقال “لا”. هنا ولدت الذات الفلسطينية من جديد، فالذات تولد عندما تقول “لا”، وتسوّر نفسها بـها.
في هذا السياق يقدم إلياس خوري تصويراً لما يمكن أن تؤول إليه الذات البشرية في الحالات القصوى ـ ـما يستطيع المجرم أن يفعله وما تستطيعه الضحية من التحمل: المجرم يوغل في الإجرام، والضحية توغل في قدرتها على التحمل من أجل اجتراح حياة جديدة وسط الموت والدمار، كي تحتفل بفرح صغير على شكل اكتشاف بئر جديدة، أو بضع بقرات حلوب، أو إيجاد بعض الكهول في قيد الحياة في البيوت المهجرة. هذا هو زاد الحياة الذي تبدأ معه الحياة في غيتو اللد. الحياة في حالاتها القصوى تؤجل كل شيء، حتى الأخلاق، لأن “الضرورات تبيح المحظورات” كما قالت العرب، ولأن “الضرورة القصوى لا تعرف قانوناً يحكمها” كما في القانون الروماني.
أمام مثلث الموت -الحياة – الحب، كم يبدو الوعظ الأخلاقي والسياسي تافهاً.
إلياس خوري: “أولاد الغيتو ـ اسمي آدم” (رواية).
بيروت: دار الآداب، 2016. 423 صفحة
ينشر هذا المقال في العدد الجديد من مجلة «الدراسات الفلسطينية»، صيف 2016 الذي صدر اليوم في 21 حزيران / يونيو الجاري.
*أكاديمي وكاتب فلسطيني
تحياتي
لم أقرأ أولاد الغيتو بعدـ وهي على أجندتي . بعد قرائتي لد. رائف زريق شوقتني كلمته للبدء بالرواية.
“عندما يقول العاشق لحبيبته «أنا أحبك» فإنه يعرف أنها قيلت قبله ملايين المرات، وستقال بعده ملايين المرات بعدد الأحرف نفسها.. هذه الرتابة، والإعادة، والتداول، تخيف، لأنها تُفقد الكلمات معناها، فالكلمة نفسها قيلت في سياقات مختلفة، وبمشاعر مختلفة، وبحماسة مختلفة. لكن اللغة عمياء في تكرارها، جاهزة أبداً ودائماً للاستعمال. اللغة لا تقول «لا» أبداً، فهي طيعة في يد مستعمليها. يكفي النظر إلى المواقع الإلكترونية التي تقترح عليك جملاً وتعابير لجميع المناسبات:”
يعيدني هذا لكلام نزار قباني في الموضوع: كلماتنا في الحب تقتل حبنا إن الحروف تموت حين تقال.
وعن المعايدات الجاهزة دون مشاعر كأنها علب سردين مغلفة.
تحياتي لكلمتك الثاقبة الجامعة المثرية. وسألتقي بها ثانية بعد قراءتي الرواية بحول الله.