مشروع قانون يهودية الدولة صار القشة التي قصمت ظهر حكومة بنيامين نتنياهو، التي كانت في الأصل قد استغرقت شهرين من المفاوضات الشاقة، لكي تولد متنافرة حافلة بالتناقضات، على قاعدة هشة معرّضة للانهيار عند أول اختبار. مشروع الميزانية كان قشة أخرى، بالطبع، ولكنه يبقى موضوع نزاعات كلاسيكية في تاريخ انهيار التحالفات الحكومية الإسرائيلية؛ والجديد بالتالي، في تفكك الحكومة وحلّ الكنيست والدعوة إلى انتخابات مبكرة، هو المواقف المتباينة إزاء محاسن، وعند البعض: مساوىء، تهويد إسرائيل.
فإذا جاز القول أنّ رفض القانون، من جانب ما يُسمى «اليسار» الإسرائيلي، ومثله بعض الأطراف «الليبرالية»، نابع من خشية تقويض صورة «إسرائيل الديمقراطية»، وانقلابها إلى كيان عنصري يعيد إنتاج نظام الأبارتيد (وكأنّ الدولة لم تكن في هذه الحال، بالضبط، منذ تأسيسها!)؛ فإنّ «اليمين» والأحزاب الدينية ترى في المشروع قشة إنقاذ، إذا توجّب مغازلة، وبالتالي كسب أصوات، اليمين المتطرف والمتدين المتشدد في الانتخابات القادمة؛ كما على امتداد كلّ الجولات المماثلة، في واقع الأمر.
ففي العودة إلى تيودور هرتزل، المبشّر الأول بفكرة الدولة اليهودية (إذْ كانت عنوان الكتيّب الشهير الذي أصدره سنة 1896)؛ ثمة إجماع إسرائيلي فصامي، إذا صحّ التعبير، حول الرجل: هذا، من جهة أولى، هو الرؤيوي المؤسس للقومية اليهودية الحديثة، الأمر الذي يجعله نبيّ جميع القوميين اليهود، من متدينين وغير متدينين، ومن «اليسار» إلى «اليمين» إلى «الوسط»؛ وهو، من جهة ثانية، خاصة حين يلهم المنظمة الصهيونية بوصفها الحزب الجنيني الذي رافق الفكرة، مفكّر محافظ متدين، آمن على الدوام بوجود رباط متين بين فكرة الدولة الحديثة التي تجمع اليهود من الشتات، وفكرة القومية اليهودية التي تشدّ أواصر اجتماعهم في كيان واحد.
وهرتزل الجوهري هو الذي حاجج بأن قوّة الدولة لن تعتمد على الجبروت العسكري وحده، بل أساساً على استشراس دبلوماسي في إقناع القوى الكبرى بأنّ قيام وبقاء إسرائيل يصبّ في مصالح تلك القوى. وأما في الداخل، فإن تماسك الدولة لن يعتمد على ثرواتها المادية فقط، بل أيضاً على تطوير تلك الثروات الروحية التي تعمّق الإحساس بوعي الذات ووعي الوجود. وكان الرجل واضحاً، والكتيب الصغير لم يكن يحتمل الكثير من الالتباس في كل حال، حين أشار إلى ثلاثة أنواع من هذه الثروات: 1) روحية الاستثمار في الأعمال والتجارة، الأمر الذي سيتيح لليهود فرصة تطبيق مهاراتهم الإبداعية في ميدان اشتُهروا به تاريخياً في كل حال؛ و2) روحية التفوّق الثقافي والعلمي، حيث ستعطي الأدمغة اليهودية أفضل ما تحلم به الإنسانية من إنجازات؛ و3) روحية الديانة اليهودية ذاتها، وهنا بيت القصيد.
ولقد كتب هرتزل: «طيلة السنوات الممضة من ليلهم التاريخي الطويل، لم يكفّ اليهود عن إدامة هذا الحلم البديع النبيل: السنة القادمة في أورشليم! وليس في وسعنا أن ندرك هويتنا التاريخية إلا إذا عملنا بوفاء مطلق لهذا الحلم الذي لازم الأسلاف وينبغي أن يلازمنا». ولسبب كهذا تحديداً، قال هرتزل بضرورة أن يكون الحاخامات على مرمى حجر من الساسة… دائماً وأبداً: «في الدولة اليهودية القادمة، لا بدّ من بقاء الكنيس ماثلاً أمام البصر. ينبغي أن يظل مرئياً على الدوام».
ولن تكون مفاجأة، بل ستبدو مجرد تأكيد للمنطق البسيط، إذا أكدت انتخابات الكنيست القادمة هذه الحقيقة، الراسخة العتيقة: أنّ قشة نتنياهو تقصم الظهر تارة، و… تنقذ الغريق طوراً!
صبحي حديدي