قلق الأمريكان على تونس

■ لم يعد سرا أو حديث غرف مغلقة. لقد اعلنها كبير الديمقراطيين في لجنة الاستخبارات بمجلس النواب الأمريكي مباشرة وبدون مواربة أو مداراة. هو ليس مرتاحا أو مطمئنا على الاطلاق.
ما أزعج آدم شيف وعكر مزاجه وجعله مهموما هذه الايام هو خوفه الشديد من «ظهور ورم خبيث في ليبيا». والورم المقصود بالطبع هو تنظيم الدولة، الذي قال عنه في جلسة استماع عقدت قبل أيام بمجلس النواب، إنه يسعى بقوة لترسيخ وجوده في ذلك البلد، ما «قد يضطر الولايات المتحدة والحلفاء إلى قضاء سنوات هناك»، لكن شيف لم يكن الاول الذي يعلن عن تلك المشاعر «الانسانية النبيلة» فقد سبقته صحيفة «نيويورك تايمز» وكتبت نقلا عن مصادر من وكالة الاستخبارات الامريكية، «أنه رغم تناقص أعداد المقاتلين المنتمين للتنظيم من العراق وسوريا إلى نحو خمسة وعشرين ألفا، بعد أن وصلت اعدادهم إلى اكثر من ثلاثين الفا بسبب الحملة الجوية التي تقودها الولايات المتحدة، الا أن أعداد مقاتلي التنظيم في ليبيا تضاعفت في الفترة ذاتها لتصل إلى نحو ستة آلاف وخمسمئة مقاتل»، وذلك الامر هو ما أدى بحسب ما ذكرت «الى قلق متزايد من قبل المسؤولين الغربيين وحلفائهم ازاء توسع التنظيم في ليبيا وجميع أنحاء افريقيا». ورغم أنه ليس معروفا حتى الآن إن كانت مبررات قلق النائب هي مبررات قلق من وصفتهم «نيويورك تايمز» بالمسؤولين الغربيين ذاته، إلا أنه بات واضحا للجميع أن هناك نوعا من الترويج المكثف والمستمر لخطر تحول التنظيم المجهول، الذي ولد قبل سنوات قليلة فقط وصار الآن بمثابة اللغز الصعب والعصي على الفهم إلى قوة امبريالية عالمية ساحقة وجبارة. هل يفعلون ذلك من باب المبالغة مثل اعتادوا؟ أم انهم يبحثون مثل كل مرة عن أي مبرر وحجة حتى لو كانت خيالية أو مخالفة للواقع والمنطق ليغلفوا بها تدخلاتهم ويقدمونها على أنها مهام إنسانية للإنقاذ من أورام واوبئة فتاكة توشك على القضاء على البشرية واجتثاثها بالكامل؟
لم يعد هناك شك في أن ما يحرك الامريكان وباقي قوى الغرب هي المصالح ولا شيء آخر غيرها، والتجارب المريرة والطويلة التي تثبت ذلك صارت معروفة للجميع، ولأجل ذلك فضل الرئيس التونسي وهو يستقبل السفراء المعتمدين في عاصمة بلده في الرابع من الشهر الماضي أن يردد امامهم باختصار ووضوح، انه يقول» للدول الصديقة التي تفكر بالتدخل في ليبيا لا تفكروا في مصالحكم فقط وفكروا ايضا في مصالح الدول المجاورة لليبيا وفي مقدمتها تونس». والمدهش أن رسالته التي كانت مكشوفة اكثر من اللازم وبلا رموز أو عبارات دبلوماسية معتادة، وصلت بالسرعة القصوى إلى الجهة التي يهمها الامر اكثر من غيرها، ليضرب سلاح الطيران الامريكي ما قال إنه معسكر لتنظيم «داعش» في مدينة صبراتة الليبية، موقعا خمسين قتيلا من التنظيم، معظمهم إن لم يكن كلهم تونسيين. أليس ذلك الدليل الاقوى على انه يمكن ضرب عصفورين بحجر واحد، اي تحقيق المصلحة الامريكية والمصلحة التونسية في الوقت نفسه؟
لقد قال جيف ديفيس المتحدث باسم البنتاغون في أعقاب الغارة إنها «دمرت معسكرا كان يركز على القيام بتدريبات على شن عمليات من قبيل تلك التي شهدناها في تونس». وأضاف في مؤتمر صحافي أنه متأكد أن الضربة الامريكية «منعت وقوع مأساة اكبر بهجوم خارجي ما»، فطبيعة التدريب الذي كانوا يقومون به، كما قال، وقرب المعسكر من الحدود التونسية يشيران إلى أن مخططا كبيرا كان يجري الإعداد له. والمأساة والمخطط الكبير بحسب ما نشرته بعض الصحف المحلية هو تخطيط الجماعات المنتسبة للتنظيم لاحتلال مدن وبلدات في الجنوب التونسي. لم يعد الامر اذن مجرد إنقاذ للديمقراطية الوليدة فحسب، بل لوحدة البلد ووجوده أيضا. وبهذا المعنى فالمغزى الحقيقي للرد الامريكي على رسالة قائد السبسي هو أن الامريكان الذين قدموا في سنوات الانتقال الديمقراطي الاولى لتونس ضمانات للاقتراض في الاسواق العالمية، حتى ينتعش اقتصادها المترنح، لا يبخلون الآن بتقديم ضمانات عسكرية لاستقرارها وحماية وحدتها الترابية المهددة. وهذا ما دفع بوزير الدفاع التونسي لأن يقول للإعلاميين بعد اسبوع من الغارة وخلال جولة تفقدية له على الحدود أن الضربة الامريكية كانت «مفيدة» لتونس. ولكن السؤال الذي يفرض نفسه هنا هو ما الذي سيتغير بعد الضربة؟ وما الذي سيكسبه الامريكان من ورائها وهم الذين اعتادوا على اخذ مقابل ثقيل على اي عمل يقومون به باسم الاخرين أو لفائدتهم؟
لقد قال الرئيس التونسي في حوار اجراه معه موقع «سويس انفو» قبيل زيارة دولة قادته إلى سويسرا، إنه يرى أن الضربات الغربية المرتقبة في ليبيا «إذا لم تكن مدروسة وبدون أن يقدم الغربيون تطمينات فعلية لتونس بوسائل مختلفة، فإن ذلك من شأنه أن يعقد أوضاعنا الداخلية»، ولكن شكل تلك التطمينات ونوعها ووسائلها ظلت كلها امورا غير معلومة وليس هناك ما يدل على أن الاطراف الغربية المهتمة أو المشغولة بمستقبل ليبيا، وفي مقدمتها امريكا، قد وضعت في اعتبارها الانعكاسات المحتملة لأي عمل عسكري على الجارة الصغيرة، اللهم الا فيما يتردد بين الحين والاخر عن تقديم السلطات لكشف حساب مبدئي ومؤقت، لأي عمليات لجوء مرتقبة نحو التراب التونسي، وتأكيد الناطق الرسمي باسم الحكومة في تصريح صحافي على أن تونس لن تتحمل وحدها تلك الكلفة المالية المرتفعة. لكن هل يكفي ذلك، أو هل أن كل الدور المطلوب من تونس في حرب الغرب المرتقبة في ليبيا أن تكون دولة لاجئين، بدون أن تسقط بشكل مباشر في المستنقع الليبي؟ وهل باستطاعتها الاستمرار في السير على حبال مصالح اقليمية ودولية شديدة الاختلاف والتضارب، بدون أن تنجر إلى الانحياز الواضح والصريح لاي واحدة منها؟
لا تملك السلطات خيارات واسعة ومفتوحة ولا يبدو ان لها تأثيرا قويا على الاحداث، وكثيرا ما يردد المسؤولون الرسميون انهم ضد التدخل في الشأن الليبي في محاكاة لموقف الجارة الكبرى الجزائر. ولكن هناك تصريحا لافتا للشيخ راشد الغنوشي، الأحد الماضي، قد يكون جديرا بالتأمل. لقد قال الشيخ الذي قام في السابق بجهود لتقريب فرقاء الازمة الليبية، وخبر جيدا تعقيداتها، إنه كان يتمنى لو أن الأمن التونسي هو الذي قام بملاحقة «الدواعش التونسيين» في ليبيا بدلا من أن يقصفهم الامريكان. ووصف ذلك بانه من قبيل العمل الوقائي لأي دولة تحترم نفسها. وإذا ما اعتبرنا أن مثل ذلك الكلام الصادر عن شخصية لها وزنها الداخلي والاقليمي المعروف وتأثيرها على صنع القرار في تونس يأتي فقط بعد ثمان واربعين ساعة من تصريح آخر لوزير الدفاع التونسي في اعقاب جولته في المناطق الحدودية قال فيه «إن تونس متمسكة بموقفها الرافض لاي تدخل عسكري في ليبيا بالمفهوم التقليدي للتدخل، لكنها ليست ضد توجيه ضربات محددة لمعاقل الارهابيين»، فانه يمكن القول إن الامور لن تستمر طويلا على حالها وإن الحياد التونسي «المغشوش» في التعامل مع السيناريوهات التي يخطط لها الكبار في الجارة الجنوبية لن يتواصل إلى اجل بعيد. أما كيف سيترجم ذلك على الارض وهل ستندفع تونس، تحت مبرر مصلحتها القومية للمشاركة بشكل ما في عمل عسكري ولو محدود داخل التراب الليبي لتعقب وملاحقة من وصفهم الشيخ الغنوشي بالابناء العاقين لتونس، الذين كانوا سببا فيما تعانيه من مشاكل امنية واقتصادية؟ أم انها ستكتفي فقط بفتح ارضها وسمائها لقوى اخرى حتى تساعدهاعلى تلك المهمة؟ لن يكون الخيار سهلا وبسيطا أو بدون عواقب أو تأثيرات مرة وأليمة وفي كل الاحوال لن تكون مشاعر الود والقلق على تونس التي حاول الامريكان اظهارها عبر غارة صبراتة كافية لوحدها حتى تضع حدا نهائيا وقاطعا لقلق التونسيين على ما تخفيه لهم الايام والشهور المقبلة حين تبدأ كما يتوقع الكثيرون معارك الحسم ضد ما وصفه النائب الامريكي شيف بـ»الورم الخبيث في ليبيا».

٭ كاتب وصحافي من تونس

نزار بولحية

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول Hassan:

    تونس قوية لا يفلها الإرهاب ولن يؤثر فيها. تونس هي بوابة الشرق والغرب والشمال والجنوب. ولتونس دور عبر التاريخ ولقد ساهمت في بناء الحضارات حسب موقعها الإستراتيجي. إذا من يقلق على تونس فليجعل منها مركزا تجاريا عالميا وليقع تركيز مصانع لشتى المنتوجات الغير محرمة دوليا ولتبنى فيها بورصة عالمية. إقامة مشاريع تنموعية في تونس من شأنه أن يقرب القارات. وتونس مؤهلة لا أقول لأن تكون على غرار هونج كونج أو الإمارات بل أحسن إن أريد لها ذلك لأن شعبها ذكي ومتعلم ومعظم شبابه متحصل على شهادات جامعية في شتى المجالات والإستثمار يلقى نجاحا بالتوانسة أنفسهم دون اللجوء إلى عمالة خارجية. لقد آن الأوان لأن تحتل تونس مكانا مرموقا في العالم. فهي مرتكز العالم ولو لم تكن كذلك ما تطاحنت من أجلها قرطاج وروما قديما.

  2. يقول حسن الزين - بنزرت - تونس .:

    من السابق لأوانه اعتبار الحرب على داعش بليبيا قادمة لا محالة.. نتمنى على الاخوة الليبيين ايجاد حل لاقامة دولة متماسكة تجمع كل الحساسيات الليبية.. و أن يسعى الليبيون وحدهم الى محاربة داعش و هذا ليس بمستحيل.. حتى نقطع الطريق على القوى الخارجية أمريكا كانت أو غيرها من التدخل في شؤون المغرب العربي.. أملنا قوي في الشقيقة الكبرى الجزائر في منع مثل هذا التدخل و الله المستعان..

إشترك في قائمتنا البريدية