ما زلت مفتتناً بهذه المفردة، سنواتٍ طويلة أقلّبها على سرير المعنى.. لعبت دائماً معها وليس ضدّها، اللَّعِبَ الذي يحترم فيه كلانا الجمهور والحكم، فنحن الشعراء نميل إلى اللعب باللغة، إلى حدٍّ ما، ولهذا راودتني أحياناً مماهاة الحنين بالزمن، لأكتب مثلاً: «في مقتبل الحنين» أو «في الهزيع الأخير من الحنين».
هكذا أقف في محرابه عابراً ضلالات الحواسّ، ولا أدري إن كنت أسترضيه أم أتّقيه أم أستنفره أم أستفزّه حين كنت أحمل في الحقيبة (قطرميزة) المكدوس والجبن السوري المعروف، عائداً إلى الدوحة في رحلات لم تنقطع منذ 1999، حين رضيت بمنفاي الاختياري، تاركاً للحنين جغرافيا صغيرة في غرفةٍ في الطابق السادس، تطلّ على الشمال الذي يعني لي سوريا. كان اليمام يزورني في الخريف يحطّ على النافذة المفتوحة، وربّما غامر قليلاً ودخل وقفز فوق الطاولة التي تتوسط الصالة، فيوقظ فيّ صورة السنونو الذي يضع عشّه على عمود الخشب في سقف بيتنا في المزرعة، هناك في المكان الذي قضم منّي سبع سنوات، فلاّحاً يحمل مِسْحاته أيّام العطل، ودفتر التحضير أيّام التدريس، يومها لم أفكّر في الهجرة، ما دام في الإمكان تدبّر مصاريف العائلة الكبيرة.
يقتنع كثير من الأصدقاء المغتربين بمعادلة 10+2، التي تعني عشرة أشهر للعمل، وشهرين للإجازة، نعود فيها إلى الوطن، ونلتمس فيه أحضان الأمهات، ومسامرة الأصدقاء، ونمشي على الدروب ذاتها التي ذرعناها حاملين كتب التاريخ والفلسفة، مارّين بسيدات وصبايا يجهدن في جمع عشب الربيع لأغنامهنّ، أو البحث عن نبتة الخبّازى اللذيذة التي لم أّذقها بعد أن غادرت، حتى العام الفائت.
كان برد نيسان عافية، يخرج الجميع من البيوت باحثاً عن حصّته من الشمس والأمل والفرح، وكان للياليه طعمٌ آخر، ويحفظ أبناء الفرات عبارة شعرية لشاعر بدوي تقول: «قمرة وربيع وموت ما بي»، فقد كان الموت موزّعا بانتظام؛ الخريف والشتاء للشيوخ، والصيف لضحايا حوادث السير والقتل الخطأ في الأعراس، فثمة اتفاقٌ غير معلن أن شهور الربيع شهور سلام، تنبت فيه قصص الحبّ، وتظهر ورود الجوري الحمراء في الحدائق. وفي الربيع حفظتُ صورة البريّة التي اكتشفتها لأوّل مرّة رفقة جدّي المرتحل خلف أغنامه، كنت أسمع الطبيعة وأشمّها قبل أن ترتسم القرى في لوحة الله البديعة، الطبيعة التي لم يفسدها حجر إسمنت، ولا صوت آلة، ليس ثمة غير رغاء الدوابّ، وغناء الجدّات عند مخض اللبن صباحاً، عشت الربيع المستبدّ وظلّ هناك ففي البعيد أغنية عصية على الترجيع، تذكرني فيه دائماً أحذية الرياضة القماشية البيضاء، ومضارب التنس المصنوعة من خشب رقيق.
تركت الـ 10+2 منذ سبع سنوات، وباتت 12+0، وهكذا صرت أبحث عمّن يسدّد لي قيمة الشهرين الإضافيين، صار لي في ذمة السعادة 14 شهرًا كاملًا، قضيتها جميعاً معتكفاً أمام شاشة عملاقة تنقل أخباراً وصوراً من بلادي، متوجّساً حزيناً حيث يتداخل الخاصّ بالعامّ، وبقيت فيها متمسّكا بأمل ما، أمل أن أصحو صباحاً لأعدّ الحقيبة، أو تعتذر منّي الحرب على هذه المزحة الثقيلة. ولكنّني مازلت أزور المطار مرّة أو مرتين لأوقظ الحنين، وكلّما سافر أحد العاملين في المدرسة اسأله: «من يوصِلُك إلى المطار؟»، فالمطارات سراب أوطان، وملعب انفعالات غير متحفّظة، ففي وسعك أن تقرأ الوجوه التي تدفع العربات نحو الأبواب البعيدة مليئة بحبور غريب ـ لم يكن غريباً يوماً ما- وتقرأ في الشاشة الكبيرة أسماء الطائرات التي ستحطّ في دمشق مثلاً، المدينة التي ظلّت شاهداً على وداع تركي علي الربيعو، الذي أقضي معه ساعات قصيرة قبل أن يودّعني في محطّة الباصات.
لا أزعم يومها أن الحنين كان مهراً، ولكنّه كان يركض في دروب الشام في الشوارع التي تفضي إلى أحياء لم تعد موجودة، قبل أن يستسلم للطريق المتجّه إلى الغوطة. «ماذا تعني لك دمشق؟» حين سألت نفسي، كان مظفر النواب يعترف: «أمسِ وقفت على بردى، بعد قليل، تصبح أيّامك في الشام ثلاثين ندى» تلك المدينة التي عرفنا قسوتها طلاّباً وعساكر، وعدنا إليها ثانية واقفين على ما يثبت أن دمشق تعرفنا، ولا تتنكّر لعشّاقها الذين حرسوا ليلها وأنضجوا خبزها، وأوقدوا نار معرفتها، كانت دمشق أمّاً للجميع، تتلاطم فيها أمواج الإثنيات والأديان والطوائف والقبائل، كانت أكبر من مدينة وأقلّ من حبيبة.
كنت أقرأ «الجهل» لميلان كونديرا، الروائي الذي شغفنا به قبل سنوات، وهو يرسم مساراً جديداً للرواية المختنقة في واقعية أمريكا اللاتينية السحرية، كان كونديرا ساخراً إلى حدّ بعيد في معظم رواياته، ولكنه في «الجهل» كان مختلفاً، حين لم يجد جنّة الذكريات التي شيدها في رواياته عن تشيكيا الجميلة التي تركها بعد ربيع براغ المغدور عام 1968، فلم تكن «الجهل» رواية بقدر ما كانت كارثتي الجميلة المؤلمة التي كلفتني قراءتها ثانية، وأنا أشفق على حنيني الخائب في عودة أبطال كونديرا إلى بلادهم بعد سقوط الشيوعية، وهكذا كنت أخاف من زيارة القامشلي؛ فالأصدقاء تناثروا في المنافي الجديدة، ومنهم من مات أو قُتل أثناء الحرب. تخيّل أنك تجلس في المقهى وحيداً وتضع فناجين الشاي أمام سبعة كراسٍ فارغة، أو أن تمر ببيت صديقك الذي قتلته رصاصة طائشة، أو أن تتذكر مع خالتك المكلومة ابنها الذي مات تحت التعذيب. لم يعد كونديرا مثار ضحكي كما في «إدوارد والله»، أو «غراميات مضحكة»، أراه الآن في القامشلي كئيباً يبحث عن أصدقاء خانوه مع الغياب، وتركوا له أن يكتب عودته الناقصة بحكمة المهزوم، أراه الآن يمشي في الشارع الرئيس في الطريق إلى المكتبات في انتظار الجرائد التي تأتي متأخرة من العاصمة. أراه يبحث عن محمد العمر الذي اتفقت معه أن يدفع المقتدر منّا، في حدود 100 ليرة (دولاران)، مصروف التسكع شبه اليومي في المدينة؛ فنمشي في السوق ونشتري الجرائد اليومية، ونأكل البوظة صيفاً أو المشبّك شتاءً. فقد محمّد العمر وظيفته، وفقد إحدى وظائف يديه حين يشرح الدروس لطلاّبه، وفقد أخاه تحت التعذيب، وفقد الكثير من أصدقائه، ولا أدري الآن كيف تثرثر يداه؟
يتمثّل العرب بيتاً لشاعرٍ مفجوع بأخيه، حين يرى مقبرة غريبة فيبكي لأن «هذا كلّه قبر مالك»، وهكذا صرت أرى في كلّ ما قرأته صورة لبلادي؛ في الأوديسة حين تتنافس الآلهة في الحرب التي يظلّون فيها خالدين بينما يُقتل الجنود ويدهسون، وفي «عداء الطائرة الورقية» للأفغاني خالد حسيني وهو يصوّر أفغانستان تحترق في صراع الملل والنحل والأقوياء الذين لن يخسروا شيئاً، وفي «ذهب مع الريح» و»لمن تقرع الأجراس» و»معلقة زهير بن أبي سلمى»، صرت أرى القامشلي في صحن الفول ولفّة الفلافل والمقاهي العتيقة ومكتبات القرطاسية، القامشلي التي في يدي مثل كرة زجاج أقلبها على مهل باحثاً في الخطوط الملوّنة عن وجه أمّي الذي لم أره منذ سبع سنوات، عن فريق كرة القدم الذي لعبت فيه مع شباب صغار لم تنبت شواربهم بعد، عن الأعراس التي انتهت بمشاجرات عابرة، وعن الربيع و«القمرة» والحياة التي تعني الخلود المستغرق في لحظات السعادة العابرة.
لم تعد 10+2 ولم تعد 12+ صفر، فقد كان الحنين يخصّني وحدي «هكذا كنت أحسب» حين أمشي معه في سوق واقف وكأننا في حلب القديمة نشتري «الهباري» لأمّي، أو الحميدية البرتقالية لإحدى خالاتي، كنت آخذه إلى البرّ خارج المدينة، لأتوهّم أن هذا هو طريق القامشلي- الرقة.
منذ تلك الكارثة، صرت أرافقه إلى المخيمات والملاجئ، فأبحر معه في سفينة، وأهرول معه في غابات أوروبا الشرقية، وأفطر معه في بلاد الجد سقراط، والعمّ غوته، والخال شوبان. كان الحنين ينهرني: «يا خي خلّي عندك ذوق، في ناس أبدى منّك»، لكنني بقيت هناك هناك في البعيد، أسترق من كلّ عين تلك النظرة.. نظرة الـ «سيلفي مع الذات» وهم يجرّون أرواحهم ببطء من بلاد صارت بعيدة.
٭ شاعر سوري
عيسى الشيخ حسن