فاجأ الفلسطينيون العالم مرة أخرى، كما فعلوا في الانتفاضتين الأولى والثانية، عندما حسب الجميع أنهم استكانوا للواقع المفروض وباتوا أعجز عن مواجهة التحدي. بالرغم من الحصار، تفكك الموقف العربي، انهيار ميزان القوى، وخضوع دول عربية نافذة للإرادة الأمريكية، خرجت غزة الصغيرة، حتى بدون مشاركة كافية من الضفة الغربية، لتغيير شروط المرحلة. في الجمعة الأولى من مسيرات العودة وكسر الحصار، ظن كثيرون أنها مجرد لحظة غضب، سرعان ما تتلاشى. في جمعة المسيرات الثانية، لم يعد ثمة شك أن جيلاً جديداً من الشبان الفلسطينيين تسلم الراية، وأن هذا الجيل على استعداد لتحمل أعباء الصراع مهما كان حجمها. بعشرات من الشهداء وآلاف الجرحى، ستستمر المسيرات إلى منتصف مايو/ أيار المقبل، وربما حتى بعد ذلك. ولكن، لتحقق انتفاضة المسيرات هدفها، لابد لقيادة السلطة الفلسطينية، على وجه الخصوص، رؤية الطريق التي شقها الشعب، والخروج من حالة الإرتباك والعجز التي يبدو أنها باتت أسيرة لها.
لم تكن المسيرات مشروع تنظيم فلسطيني ما، بالرغم من أنها تصب في صالح جهات وتحرج أخرى. ولم تكن فكرة زعيم سياسي ما، بالرغم من أن قيادات أدركت حقيقة ما يجري واختارت الوقوف إلى جانب شباب المسيرات. هذه تعبير خالص عن ضمير الشعب، عندما وجد الفلسطينيون أنفسهم، كما في مرات سابقة، وظهرهم إلى الحائط، ورأوا المخاطر التي تهدد قضيتهم وحقوقهم. ولكن حماس ستفيد، بلا شك، من المسيرات، ليس فقط لأن حماس كانت من البداية الهدف الرئيسي للحصار ومخططات تصفية القضية الفلسطينية، ولكن أيضاً لأن خيارها النضالي يجعلها دائماً في معسكر المناضلين. من لم يكشف عن موقفه بعد، ويبدو أنه لم يزل عاجزاً عن رؤية المتغيرات والإمكانات التي تحملها المسيرات، هو الرئيس الفلسطيني. وأهمية موقف الرئيس لا تنبع من الموقع الذي يحتله وحسب، بل ومن أنه أصبح التجسيد الوحيد للقيادة الوطنية الفلسطينية. ثمة حالة لم يعرفها الفلسطينيون من قبل، لا في عصر المفتي الحسيني، في سنوات الشقيري المعدودة، ولا في حقبة عرفات الطويلة. في عهد الرئيس عباس، اختفت كافة الأصوات إلا صوت الرئيس، ولم يعد، في مؤسسات سلطة الحكم الذاتي أو في منظمة التحرير، من يستطيع الإعراب عن موقف يختلف، ولو قليلاً، عن موقف الرئيس.
لم يكن الوضع الفلسطيني مريحاً قبل تسلم ترامب مقاليد البيت الأبيض في مطلع العام الماضي. كان مسار التفاوض قد توقف أو لم يعد صالحاً للسير؛ وتعهدت حكومات نتنياهو المتعاقبة سياسة توسع استيطاني لا سابقة لها منذ احتلال الضفة والقطاع في 1967. ولم يكن عباس يعرف على وجه اليقين ما عليه أن يفعله، بعد أن جعل المفاوضات خياره الاستراتيجي والوحيد، منذ قاد المفاوضات للتوصل إلى اتفاق أوسلو.
اتخذ الرئيس موقفاً سلبياً من جهود المصالحة، وأختار الإبقاء على الانقسام الفلسطيني، بدون وجود أسباب مقنعة، على التوصل مع حماس إلى حل وسط واستعادة الوحدة الفلسطينية. في الوقت نفسه، أسقطت موجة الثورة المضادة المجال العربي في سلسلة من الانقسامات والحروب الأهلية، ولم يعد ثمة رافعة عربية يمكن أن تسهم في دفع القاطرة الفلسطينية، وإن قليلاً إلى الأمام.
الرئيس أوباما، حتى ووزير خارجيته غارق في محاولة إعادة الحياة للعملية التفاوضية، لم يكن راغباً في التورط في تعقيدات المسألة الفلسطينية، بينما أوروبا عاجزة عن التدخل، وليس ثمة من دور روسي مؤثر، بعد أن كان المفاوض الفلسطيني وافق على استبعاد روسيا من عملية التفاوض. والنتيجة أن جهود كيري لعبت دور المخدر السياسي، الذي أبقى عباس متردداً بين التعلق بحبل أمل واه والغرق في حالة من الانتظار الكئيب.
بوصول ترامب إلى الحكم، أصبحت الأمور أكثر وضوحاً، وأسوأ بكثير مما توقعه معسكر التسوية الفلسطيني، في الوقت نفسه. لم يكن مر وقت طويل على بداية رئاسته عندما أعلن ترامب عن قراره نقل السفارة الأمريكية إلى القدس المحتلة، في تحد صريح للفلسطينيين والعرب والمسلمين. الأكثر خطراً، كان ما أخذ يتسرب من مشروع إدارة ترامب للتوصل إلى تسوية نهائية للصراع على فلسطين، أو ما بات يعرف بمشروع صفقة القرن. محاصراً بين الشريك، أو اللاشريك، الإسرائيلي في المفاوضات، من جهة، وانحياز الدولة الكبرى الراعية لعملية التفاوض السافر، من جهة أخرى، بدأ الرئيس الفلسطيني يكشف عن مزاج يائس.
ما فاقم من حالة الارتباك الوطنية الفلسطينية، كان اتضاح تورط دول عربية رئيسية في مشروع ترامب وممارستها الضغط على الرئيس عباس للقبول بما يستحيل على فلسطيني، حتى من وقع أوسلو، القبول به. كان الطبيعي في مواجهة هكذا وضع أن يبدأ أبو مازن إعادة بناء أوراق القوة الفلسطينية الوطنية، وأولها استعادة وحدة الشعب وقواه السياسية، والعمل على بلورة رؤية استراتيجية جديدة، عمادها الاعتماد على الذات. ولكنه لم يفعل.
بصورة عصبية ولغة غير لائقة، استخدم الرئيس الفلسطيني محاولة اغتيال رئيس حكومته، التي يحيطها الكثير من الشكوك، لإعلان تخليه عن شعبه في قطاع غزة. في جوهر الأمر، كان الرئيس عباس يطلب استسلاماً كاملاً من حماس، بدون أن تكون لديه المسوغات أو الشرعية لهكذا طلب. يحتل الرئيس الفلسطيني موقع الرئاسة، ويتمتع بما هو أكبر من سلطاتها الدستورية، بصورة غير شرعية منذ سنوات، بعد أن انتهت فترته الرئاسية وأحجم عن عقد انتخابات جديدة. وليس من حقه بالتالي اتهام سلطة الأمر الواقع، التي تقوم بها حماس في غزة، بغير الشرعية. المؤسسة الفلسطينية الشرعية الوحيدة لم تزل هي المجلس التشريعي، الذي تتمتع فيه حماس بالأغلبية، والذي قام الرئيس، عن سابق تصميم وتصور، بإيقافه عن العمل. وبصفته رئيساً لمنظمة التحرير، يرفض الرئيس منذ سنوات طوال، وبالرغم من الاتفاقات التي وقعها، إعادة بناء مؤسسات المنظمة أو فتح أبوابها للقوى غير المنضوية في إطارها. وهذا ما يجعل المطالبة بتخلي حماس عن موقعها في مؤسسات السلطة بقطاع غزة، واستبعادها من قرار المنظمة، مدعاة للاستغراب. فبأي حق، وبأية أصوات، يفترض الرئيس أن السلطة لابد أن تكون حكراً عليه والملتفين من حوله، وأن منظمة التحرير لابد أن تبقى ملكيته الخاصة؟
تقدم مسيرات العودة فرصة جديدة، فرصة كبرى، لإعادة بناء العمل الوطني الفلسطيني على أسس جديدة. إن عمل الرئيس عباس على التخلص من ارتباكه ، أو ساعده من هم حوله على ذلك؛ إن قرأ متغيرات الساحة الوطنية وخارطة قواها، التي استقرت بالفعل منذ عقود، كما ينبغي؛ إن أدرك الدلالات التحولية لانتفاضة المسيرات وما قدم فيها حتى اليوم من تضحيات؛ إن رفع يده ويد مؤسساته الأمنية عن الشعب في الضفة، وأفسح المجال أمام شبان الخليل ورام الله ونابلس وجنين وطولكرم للالتحاق بأشقائهم في القطاع، فمن الممكن قلب الطاولة مرة أخرى. ثمة فرصة حقيقية لتقويض وضع الدولة العبرية الدولي، إيقاف عملية التطبيع الحثيثة، العلني منها والخفي، والتعاهدي وغير التعاهدي، بين الدولة العبرية والدول العربية، وطي صفحة صفقة القرن مرة وإلى الأبد.
٭ كاتب وباحث عربي في التاريخ الحديث
د. بشير موسى نافع