ذات يوم أجريت مسابقة بين رسامين وتشكلت لجنة من ذوي الخبرة في هذا المجال للحكم على أيهما تفوق على صاحبه. وحين عرضت اللوحتان كانتا مغطاتين بستارتين، وطلبت لجنة التحكيم من الرسام الأول أن يرفع الستارة عن لوحته، وكانت عناقيد من الفاكهة وزهورا، ولأن العرض كان في الهواء الطلق تسابقت الطيور لتحط على اللوحة، ما دفع لجنة التحكيم إلى الجزم بأن رساما خدع الطيور لا بد أن يكون الأمهر. وحين طُلب من الفنان الآخر أن يرفع الستارة عن لوحته، فاجأ الحضور بأنه لم يرسم غير الستارة التي طالبوه برفعها، وكان بذلك قد تجاوز صاحبه الذي خدع العصافير، لأنه خدع الحكماء ممن أنيط بهم تقييم ما رسم!
قد تكون تلك حكاية رمزية، لكن دلالاتها تقبل تأويلات لا نهاية لها، ومنها أن الفن يرتقي بقدر محاكاته للطبيعة، وبقدر ما يقترب من التصوير الفوتوغرافي، لكن تلك المرحلة تجاوزتها الحضارة عندما اقتربت من التجريد، ولم يعد التطابق مع الواقع امتيازا، بقدر ما هو الوعي المفارق له الامتياز، وحين رسم مونيه حزمة قش ما يقارب العشرين مرة في نهار واحد، لم يتغير القش الذي رسمه، بل ما تغيّر هو لونه الذي تدرج مع أشعة الشمس خلال النهار، لهذا يقال إن الفنانين الأوروبيين لم يكتشفوا درجة اللون الأصفر المشع إلا عندما رحل بعضهم إلى بلاد الشرق، بدءا من الجزائر حتى هاييتي، وما كان لعبّاد الشمس أن يكون ما هو عليه في لوحات بعضهم لو أنهم لم يضيفوا إلى ثقافتهم البصرية هذه الدرجة من الأصفر الساطع .
ولو أخذنا دي لاكروا نموذجا، فإن ما اجتذبه إلى الشرق إضافة إلى قراءته لكتابات شاتوبريان وبايرون هو الضوء الباهر، وانعكس ذلك على أعماله بعد زيارة طنجة، التي رسم ثوارها عام 1838 ، وهذا ما يؤكده ستيفن كرين، حيث يقول بأن ماتيس ورينوار ودي لاكروا سعوا في اتجاههم نحو الشرق إلى اثراء وسائلهم التعبيرية، وبالتحديد الظلال والألوان، وهناك وصف لبودلير يختصر هذه المسألة وهو أن الألوان في أعمال هؤلاء دائمة الأنين. وقد تكون لوحة دي لاكروا عن نساء الجزائر تجسيدا لذلك.
إن ما شعر به فنانون غربيون من حنين إلى الشمس والعالم الحسي، إضافة إلى ذاكرة استشراقية تعج بسحر ألف ليلة وليلة عبّر عنه هايين بأبيات خاطب بها الغرب:
الوداع أيتها الأبهاء المصقولة
أيها الرجال المصقولون والنساء المصقولات
أريد أن أتسلق الجبال وأترك تحت قدميّ بيوت النمال
لكن هؤلاء الذين اتجهوا شرقا بحثا عن رحيق آخر، وعن حفيف ألوان شجية كالتي وصفها بودلير، لم يدركوا أن هناك بالمقابل أساطيل تتجه شرقا بحثا عن مياه دافئة وثروات في باطن الشرق ومناجم وأسواق إضافة إلى مجالات حيوية للتمدد الإمبراطوري.
من هنا لم يكن الغرب متجانسا، بحيث نحكم عليه بالجملة، لأن غرب شكسبير ليس غرب تشرتشل وفرنسا رامبو وبودلير ليست فرنسا الجنرال بيجو، كما أن أمريكا رامسفيلد ورايس وبوش الابن ليست أمريكا ثورو وإمرسون ووالت وايتمان وميلر وتشومسكي وآخرين.
لكن ما علاقة هذه التداعيات حول هجرة الألوان وأنينها بذلك الرهان الذي فاز به من خدع البشر على من خدع الطيور؟
الإجابة من صميم السؤال، فالغرب حاول اختراع شرق آخر، كما قال إدوارد سعيد، لكن الفن تغذى على الشرق كما هو واغتنى منه ومن فضاءاته الساطعة، وحين نشاهد لوحات استشراقية عن القاهرة والقدس ودمشق وبغداد والجزائر لا نقارنها بالصور الفوتوغرافية، بل بما أسقطه الفنان من ذاكرته على الواقع، لأن ما تطورت إليه ثقافة التشكيل في الغرب حرر الرسم من الارتهان للواقع كما هو، ونذكر للمثال أن بيكاسو رسم بورتريه لامرأة صاحت عندما رأته بأنها ليست هي، لكن بيكاسو قال لها: انتظري سوف تشبهينها ذات يوم، فهو لم يرسم المرأة كما ترى نفسها في المرايا، بل كما رآها هو أي رسمها من داخلها.
بالطبع ما كان بيكاسو، أو حتى دافنشي ليفوزوا بتلك الجائزة التي فاز بها من رسم ستارة فقط، لأن ما تغير وتطور في الثقافة بمجملها ومنها الفن هو الكشوفات السايكولوجية، التي كشفت قارات من المسكوت عنه في الداخل البشري.
وفي واقعنا العربي المفخخ بكل هذه الأميات بدءا من الأبجدية حتى البصرية والسمعية ما تزال تلك القارات مجهولة، ونادرا ما نجد تعاملا مع الممكنات، حتى في المقاربات الفكرية نجد أنها على الأغلب، كما وصفها العالم الراحل جمال حمدان، تتعامل مع بناية شاهقة من سطحها وترى كل ما حولها لكنها لا تراها، تماما كما قال بارت عن برج إيفل في باريس، فهو المكان الوحيد الذي لا ترى البرج منه إذا كنت في داخله.
إن الالتباسات التي تفاقمت حول مفهوم الفن والشعر أيضا أعاقت إلى حد كبير المغامرة الإبداعية ليس فقط في الكشف، بل في إعادة الاعتبار لما ادعى البعض اكتشافه، وهو لم يكن في الحقيقة إلا إسقاطا أو أشبه بالتضاريس الكاذبة والسراب التي تخلقها العين الكليلة.
سأقول بعد ذلك كله إن الارتهان الفوتوغرافي للواقع أنتج هذه الشخصنة التي حالت دون التعامل مع المفاهيم، لأن هذا التعامل يشترط مستوى من التجريد، لا يتحقق إلا في مراحل ناضجة من الحضارات. وقد يكون الإفراط في الميل إلى ما هو سردي وليس تحليليا نتاج هذا الارتهان، لأن السرد الحكائي المتتابع يحول ذهن المتلقي إلى إسفنجة لا تجيد غير الامتصاص، وحين تعصر لا تفرز إلا ما سبق لها ان امتصته من خارجها.
كاتب أردني
خيري منصور
شكرا للأستاذ خيري منصور على هذا المقال الرائع ، الحقيقة اني أعدت قراءته مرة أخرى ، ليس لأني لم افهمه ، بل لني أردت الإستمتاع ، والتأمل بكل كلمة فيه .
إن كل كاتب وكاتبة وروائي وروائية ورسام ورسامة وكل مبدع ومبدعة بحاجة لقراءة مثل هذا المقال القيّم . الكاتب معروف بأفكاره النيّرة ، ونظرته المتقدمة للأمور ، واهتمامه خصوصا بالثقافة ، نحن بحاجة لنقلة ثقافية تبدأ بتغيير نظرتنا للأمور والتفكير بها ، لربما تجعلنا نفكر بتفاخرنا بتخلفنا الذي يميزنا عن باقي الشعوب رغم أننا نعيش في بقعة كانت ملهمة لأكبر المبدعين للحضارة العالمية .
لا أدنى مجاملة في البوح أنني كلما قرأت لك نصا (و أنا الشيخ أو يكاد الباحث فب الفلسفة و السوسيولوجبا، و العاشق للأدب بالمعنى الذي يعطيه إياه جيل دولوز)، إلا و أجد نفسي أمام الأديب-الفيلسوف و العالم أيضا، المفكّك و المخلخل والمزعزع لليقينيات، الكاشف للأقنعة (فيلسوفا)، و القادر على المضي بالتحليل و الكشف عن “الوظائف” (بلغة دولوز دائما) و منطق اشتغال الواقع و الوقائع (علميا). و لا أجد أدنى حرج (بل أعتزّ) في القول أنني بقراءة نصوصك منذ زمن طويل و إلى اليوم، طوّرت لغتي إلى حدود تدهش الكثيرين ، لا بل أغنيت رصيدي المفاهيمي في السوسيولوجيا (اختصاصي) نفسها. و لولا خوفي من إزعاج هذه الجريدة المحترمة باعترافاتي التي يلزم في اعتقادي أن تدخل في صميم قيمنا نحن المشتغلون في الحقل الرمزي، لولا ذلك و توخّيا لوصول تعليقي، لكنت أضفت الكثير مما يجعل منك الجدير بالكثير من الاحترام و التقدير، و هو ما يفتقر إليه الكثير من “المنجمنين” و “المؤعلمين” (ها هي ذي لغتك-مفاهيمك التي تجعلنا نسمع ما لم نألف سماعه و ما يراد لنا عدم سماعه) في سياقنا.