سياد بري هو الأقل شهرة بين مستبدي الصف الأول في منطقة الشرق الأوسط، أولئك الذين يتوزع تاريخ أي أمة أو بلد على أساس وجودهم إلى حقبتي (ما قبل وما بعد)، القادمون من الصفوف الخلفية بتدخل يعطي انطباعاً بانتمائهم إلى إرادة القدر، بغض النظر أن كثيراً منهم يعبرون عن عبثية الحظ ومزاجية الصدفة، تخيروا لأنفسهم، أو تقبلوها هدية من المنافقين والمطبلين، أوصافاً مثل القائد الضرورة والرمز والأب والزعيم، وبغض النظر عن محصلة فترات حكمهم الطويلة بما قدمته من منجزات وأفرزته من أخطاء واستجلبته من كوارث، فهم مثلوا ظاهرة تاريخية في الشرق العربي، وجميعهم يتقاسمون الكثير من الصفات على اختلاف أدائهم وأدوارهم وأفكارهم.
جمال عبد الناصر، جعفر النميري، هواري بومدين، الحبيب بورقيبة، معمر القذافي، صدام حسين، حافظ الأسد وعلي عبد الله صالح، بالطبع لا يعني وجود النميري أو بورقيبة إلغاء البشير وبن علي، ولكن في النهاية فإن البلدان التي حكمت من أنصاف الآلهة الأوسطيين بقيت في العباءة الخاصة بهم، وبقي من أتى وراءهم مهما كانت نزعته وشهوته للاستيلاء على التجلي الخاص بأنصاف الآلهة لدى شعوبهم، يعيش عقدة مكتملة من النقص ويحلم بأن يخرج من ظلهم العالي.
خضعت الصومال لاستعمار مزدوج من قبل البريطانيين والإيطاليين، وبفارق أيام قليلة حصل الشطران البريطاني والإيطالي على الاستقلال في يونيو 1960، ويمكن أن يعتبر ذلك بداية دولة الصومال الحديثة، وخلافاً لما يعتقد كثيرون فإن الصومال ليست دولة عربية، فإرتيريا وجيبوتي مثلاً تحتضنان امتدادات لقبائل عربية نزحت على امتداد قرون لمنطقة القرن الأفريقي، بينما توجهت الصومال للانضمام لجامعة الدول العربية بعد 14 عاماً من استقلالها، وأتى ذلك بعد تأثير كبير أحدثته سياسة الاحتضان المصرية لدول حوض البحر الأحمر لتكون حليفاً محتملاً أو مبطناً، سواء في صراعها مع اسرائيل أو تنافسها مع السعودية.
يمكن القول بأن الصومال ولدت بين دول معادية، إثيوبيا وكينيا تحديداً، عوامل دينية وعرقية وقبلية من جهة، مع طموحات متعددة من نيروبي بوصفها عاصمة الاستعمار البريطاني في الشرق الأفريقي، وأخرى من أديس أبابا الباحثة عن سواحل أخرى غير إرتيريا بتضاريسها الجبلية، وبالطبع كان الإسناد المصري العربي يقتصر على المساهمة الشكلية أكثر منها العملية، ولذلك لم تتمكن الصومال من تجاوز مشكلة القبلية السائدة والمسيطرة. وبعد اغتيال الرئيس عبد الرشيد علي كان سياد بري القادم من خلفية عسكرية يمثل الرجل الذي استطاع أن يدخل الصومال إلى العصر الحديث، أن يؤسس الدولة، وأن يبني المرافق، ولكنه كان ديكتاتوراً مستبداً متفرداً بالسلطة، وبإزاحته انزلقت الصومال إلى الهاوية وتفككت الدولة وانهارت مظاهرها.
تبدو تجربة بري ملهمة للمستبد العادل بأكثر من جميع ما قدمه عبد الناصر، فالأخير كان يقف على تراث كبير مثلته الدولة المصرية الحديثة التي أسسها محمد علي، بينما لم يجد بري شيئاً يستند إليه، تركة ثقيلة ودولة من دون مرافق أو مؤسسات. لا ننكر أن مثل هذه الوضعية يمكن أن تكون مثالية للديكتاتور، لأن أي انجاز يحققه سيكون كبيراً وغير مسبوق، مجرد وضع إشارة مرور في مقديشو كان سيمثل حدثاً، ولكن ما قدمه بري تمثل في دولة بالفعل، لم تكن ثرية أو حديثة أو قوية، ولكنها على الأقل استثارت جيرانها في إثيوبيا وكينيا ليعتبروها تمثل خطراً في نموها وتوجهاتها، فالبلدان قضما مساحات واسعة من أرض الصومال، أوغادين وواجر ومناطق أخرى.
بري ليس ملاكاً، فهو شخصية متقلبة تعتبر حتى أفكارها الشخصية وهواجسها رؤىً يجب تسخير كل الإمكانيات لتحقيقها، فهو يلغي بين يوم وليلة استخدام اسم القبيلة، ولكن الصوماليين يستبدلون سؤالهم حول قبيلة الشخص الذي يفتتح أي حوار وتعارف، بسؤال يعبر عن مكر البسطاء وينضح بمرارة السخرية، فيسألون الشخص: من أي قبيلة سابقة أنت؟ وفي النهاية فإن تمرداً قبلياً تدعمه إثيوبيا يطيح ببري والصومال معا.
قصة الشعوب العربية مع الديكتاتور طويلة، ولكن هل هي قصة عربية خالصة. في أمريكا اللاتينية حصلوا من الثقافة العربية على قصص ألف ليلة وليلة وكان من بينها طبعاً شهريار ومسرور السياف، وقصة تشيلي تستحق أن تروى لرصد تحولات الديكتاتور، فبعد الوصول بسلفادور الليندي إلى القصر الرئاسي كانت الأزمة الاقتصادية التي ضربت القطاع الزراعي نتيجة انشغال المزارعين بالعمل السياسي والنقابي وصراعاتهم الداخلية تطيح به، وتمكن الجنرال أوغيستو بينوشيه من السيطرة على البلاد، ومع الأخير لم يعد التشيليون فقراء، فالطفرة الاقتصادية في عصره ما زالت ملامحها قائمة، ومع ذلك أطاح التشيليون بالديكتاتور الدموي الذي تفنن في تهشيم العظام وقطع الألسن.
من المستبعد أن تعود أمريكا اللاتينية إلى شخصية الديكتاتور الخام والفجة، فقط هي صنعت طبقة من المنتفعين بالوضع السياسي يقومون بتبادل مواقعهم، حسبما تقتضيه الظروف، هذه الطبقة تحكم الولايات المتحدة ومعظم أنظمة الحكم الغربية، وهذه الطبقة التي قدمت المكارثية واغتالت كينيدي وبقيت تضلل أي محاولات للتحقيق في مقتله، وهي ذاتها التي اقترحت عملاً إرهابياً كبيراً في الساحل الشرقي يكون مبرراً لاجتياح كوبا عسكرياً، وربما نفذت الخطة في ما بعد في سبتمبر 2001، وأيضاً كانت هذه الطبقة تروج أكذوبة أسلحة الدمار الشامل في العراق، وفي النهاية يكون الحديث عن ديمقراطية أمريكية وعن حروب الأمريكيين ضد الديكتاتوريات العربية واللاتينية.
كشفت أحداث الربيع العربي علاقة مركبة تربط الشعوب العربية بالديكتاتور. وصف هذه العلاقة لا يقع ضمن حدود العلوم السياسية، ويحتاج الوقوف على عقلية مريضة مثل الماركيز دي ساد لتضع العبارات المناسبة، وفي صيغة شعبية، يمكن أن نطلق عنوان (غرام وانتقام) على علاقة الشعوب العربية مع المستبدين والطغاة، فهذه العلاقة شهدت أعنف النزوات خلال العقد الأخير من إسقاط تماثيل الطاغية وصفعها بالأحذية، إلى استجداء أي شخص تبدو عليه أمارات وعلائم الديكتاتور ومطالبته بمزيد من الحزم والقسوة والقمع.
من يتريض قليلاً بين صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، ويشاهد تعليقات كثيرة حول أحداث راهنة، سيتلمس مدى تلبس شخصية الطاغية لدى كثير من الأفراد، فالوضع العام يشبه حالة مشجعي كرة القدم الذين يتابعون مباراة قوية وينتقد كل واحد منهم أداء اللاعبين، ويتمنى أن يكون للحظة مكانه ليفعل الشيء الصحيح، وهم مع الرئيس الجديد أو مشروع الطاغية، يستحثونه على مزيد من الأداء لضبط الشارع ووقف الانفلات الأمني، ويطالبونه بتقييد الأسواق والرقابة على كل شيء، ويحاولون أن يعرضوا أمامه نماذج المستبد العادل ليتخير أيها يليق به، وربما يكون سياد بري الرجل الذي يقدم نموذجاً للطاغية الذي يحتاجه العرب اليوم، فعلى الرغم من جميع عيوبه وأخطائه، فإن معركته الأخيرة كانت لرجل يصر على الحداثة مقابل تحالف القيم الرجعية للقبيلة مع الأعداء الإقليميين وتهاون الحلفاء التقليديين من العرب الذين أهداهم بري الصومال، وكالعادة فإنهم حولوا الصومال إلى مضرب للمثل في الفوضى والفقر والمرض من دون أن يعرفوا أنهم يركلون هدية استراتيجية ذات قيمة عظيمة ونادرة.
وربما تقدم الصومال الدولة المنسية والهامشية اليوم كتالوج الديكتاتور الذي يبحث عنه العرب.
٭ كاتب أردني
سامح المحاريق
مقال بديع ورائعة يا سامح.لقد أبدعت وأجدت .